الفكر العربي بين الشك واليقين

تمثال أبو العلاء المعري
تمثال أبو العلاء المعري
TT

الفكر العربي بين الشك واليقين

تمثال أبو العلاء المعري
تمثال أبو العلاء المعري

مثل أي ثقافة أخرى، لم تخلُ الثقافة العربية من حركة شكوكية حركت المياه الراكدة وكسرت قوالب الجمود، ونشأت تيارات من شعراء وفلاسفة وعلماء لغة، كلهم تقدموا بتصورات تراوح بين الشك واليقين والنفي. ويُرجع العلماء تلك الظاهرة إلى عدد من الأسباب، منها جهود الشعوبية المناوئة للدين، والنزعة التنويرية الناشئة عن ترجمة كتب الفلسفة اليونانية، وأن الحضارة الإسلامية قد بلغت أوج ارتفاعها في القرن الثاني وليس بعد الارتفاع إلا الانخفاض في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وأن هذا ما يقتضيه المنطق، وأن الأداة هي العقل وتمجيده واعتباره الحاكم الأول والأخير، وتداخل كل هذا مع النزعة السفسطائية اليونانية. وهناك نظرية التقدم المستمر للإنسانية، كما تظهر عند جابر بن حيان، الممثل العربي لهذا التوجه العلمي. والسبب الأخير هو ما يعود إلى نشاط النزعة الإنسانية المقابلة للنزعة التأليهية.

إلا أن هناك علامة فارقة في الحالة العربية، ألا وهي أن يندر أن تجد من الشكّاك اعتراضاً على الألوهية أو إنكار الخالق في قرون الإسلام الأولى، وإنما كان تشككهم في النبوة، أو ضد تصور المسلمين لها. إنهم لم يقولوا على غرار نيتشه «لقد مات الله» وإنما مات الإيمان بالأنبياء في قلوبهم. هذه الفكرة لم تغب عن عبد الرحمن بدوي في كتابه «من تاريخ الإلحاد في الإسلام» الذي خصصه لدراسة أربعة من أشهر المفكرين في الثقافة العربية، ابن المقفع وابن الراوندي وجابر بن حيان ومحمد بن زكريا الرازي، إلا أن وضعهم جميعاً في كتاب عن الإلحاد لن يسلم من تعقيب. أولاً؛ لِم لَم يدرج الفارابي وابن سينا في القائمة، ما دام أن القضية تدور حول مفهوم النبوة؟

التفريق بين الإلحاد الغربي الذي يتجه مباشرة إلى إنكار وجود الله والحالة العربية التي لا تفعل ذلك، هو في أساسه صحيح، لكن هل كان هؤلاء العرب ملاحدة بمعنى أن يوظفوا موقفهم من النبوة أو فهمهم لها كوسيلة لإنكار وجود الله، كما يميل بدوي؟ من وجهة نظره، لا بد من تفسير إنكار النبوة بأنه سينتهي إلى إنكار وجود الإله، لأن النبوة هي السبيل الوحيدة التي تعرفها الروح العربية إلى الألوهية، وبقطع هذا السبيل تكون قد أنكرت الألوهية. تقرير بدوي متعقب بأن بعض الأديان السماوية تؤمن بالإله لكن لا تؤمن بكل النبوات، وأنه سيُخرج كثيراً من الصوفية من دائرة الإيمان لأنهم يؤمنون بالعلاقة المباشرة بالمطلق، كما أننا حين نقرأ لأبي بكر الرازي نجد أنه يؤمن بالله إيماناً عميقاً.

كيف زجّ بدوي باسم عالم الطبيعة جابر بن حيان في كتاب عن الملاحدة، رغم أنه لم يكن ملحداً، بل كان مسلماً شيعياً إسماعيلياً؟ صحيح أن كيمياء جابر تمتاز بالميل إلى الناحية التجريبية، واستبعاد الخوارق، والاتجاه العلمي والعقلي، لكن هذا منهج عمل محصور بالمجال العلمي، كما هو عند جون لوك فيما بعد، وهكذا أسس للتجريبية، مع أننا نعلم أن جون لوك كان رجلاً مؤمناً، ولم يكن ملحداً على الإطلاق، ولا كان يُدخل عوالمه بعضها على بعض. يتكرر عند بدوي الخلط بين الملاحدة والشكوكيين، رغم أنه يدلي أحياناً بما يُفهم منه التفريق، ولعل السبب في ذلك هو مصطلح «الإلحاد» نفسه، فهو يعني أكثر من معنى، وهذه المعاني قريبة بعضها من بعض، لكنها لا تعني نفس الشيء، ولذلك أجده مصطلحاً مضللاً للغاية، وأتمنى لو نتخلى عنه. وابن المقفع بدوره لم يكن ملحداً بمعنى إنكار وجود الله وعدم الإيمان به، إلا أنه استخدم الشك العقلي فوصل به إلى المانوية التي لم تكن دين أجداده، المزدكية، وهذه كلها أديان وليست بإلحاد. ولا يمكن لنا أن نصف بشار بن برد بالإلحاد فقد كان شكوكياً ولم يكن ملحداً، ومثله حماد بن عمر (عجرد)، ومثلهما أبو العلاء المعري، لا يمكن أن نجود على هؤلاء الشعراء بوصف لا يتطابق مع حقائقهم. هناك تضليل يقع منذ أيام أولئك الشعراء، فقد هجا أبو نواس خصمه أبان بن عبد الحميد اللاحقي، فوصفه بأنه حسي لا يؤمن إلا بمعطيات الحس ولا يصدّق إلا بما يراه. هؤلاء الشعراء كان أبو نواس يعيّرهم بـ«عصابة المُجّان»، وهو واحد منهم، فهو أقرب للشك والمجون أكثر من الإيمان. كيف استباح تعييرهم بما يشاركهم هو فيه؟ يبدو أن هذا يدخل في حديث الأقران الذين يشتد بينهم التنافس، فيتكلمون بعضهم في بعض.

إذا تجاوزنا الشعراء وانتقلنا إلى المفكرين، فهناك بعض الدلائل على وجود فكر شكوكي، خاصة بين المعتزلة، فهذه الحركة الفكرية اللاهوتية استخدمت عدداً من حجج السفسطائيين من أجل تقويض الثقة في المذاهب الأخرى، واستخدموا العقل لدعم العقيدة وتثبيتها، والرد على الملحدين. مثال لذلك ما نجده عند الجاحظ في فصل من كتابه «الحيوان» أسماه «الشك واليقين» يتحدث فيه عن ضرورة أن نعرف مواضع الشك وحالاته الموجبة له، لنعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وضرورة تعلّم المشكوك فيه تعلّماً، وعن حاجتنا لكل ذلك ولو من باب التعرّف على مبدأ التوقف والتثبت.

وتناقل المتكلمون ما جاء عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي: «أن أول واجب هو الشك». وتبنى أبو حامد الغزالي هذا القول، ونسبه ابن حزم الظاهري إلى الأشاعرة، وبعضهم يقول «النظر» أو «القصد إلى النظر» والمعنى واحد، فهذا النظر لا يعني الشك المذهبي المنكر لإمكان المعرفة، بل هو الشك المنهجي الذي يسعى إلى تحصيل اليقين، بمعنى أنه شك ديكارتي قبل أن يولد ديكارت.

* كاتب سعودي



أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
TT

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة، أعلنت «جائزة إدوار الخراط للإبداع الأدبي» حصاد دورتها الأولى. فاز بالجائزة الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، والتي تدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل، في أرجاء العاصمة المصرية التي تعاني من تخمة الزحام المستمر.

أقيمت الاحتفالية بمقر «مكتبة الخراط» التذكارية المجاورة للمتحف المصري وميدان التحرير بالقاهرة الثلاثاء الماضي، وشهدت حضوراً كبيراً من الأدباء والشعراء والمثقفين والصحافيين، وقدمها الكاتب الإعلامي خالد منصور.

في البداية تحدث الدكتور إيهاب الخراط عن المكتبة وعن نشاطها في المرحلة المقبلة، وما تطمح إليه من تقديم خدمة ثقافية متميزة حيث تقيم ندوة شهرية، وستناقش في الفترة المقبلة المجموعات القصصية الخمس التي وصلت للقائمة القصيرة.

ملصق الاحتفالية

واستعرضت الدكتورة مي التلمساني، رئيسة مجلس الأمناء، عمل المجلس ودوره في إرساء دعائم قوية للجائزة باختيار التيمة الأدبية التي تنطوي تحت مظلتها، وتمثل ملامحها الخاصة التي تميزها عن باقي خريطة الجوائز الأدبية، وفي الوقت نفسه تشكل ترجمة حقيقية لدعوة إدوار الخراط الدائمة نحو كتابة مغايرة ومغامرة، تنهل من نبع الحساسية الجديدة، أو كما سمّاها في مقولته الرائدة: «الكتابة عبر النوعية». وتم اختيار لجنة التحكيم لهذه الدورة من: الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة (رئيساً)، وعضوية: الكاتب كمال الرياحي (من تونس)، والكاتبين الروائيين ميرال الطحاوي، وياسر عبد اللطيف.

إدوار الخراط

وثمّن الدكتور خيري دومة عمل مجلس الأمناء، وقال إنه أحسن صنعاً بفتح أبواب الأدب جميعاً أمام المتقدمين، لافتاً إلى أن «اللجنة تلقت نحو 50 عملاً، واخترنا منها خمسة أعمال تميزت بأن لها صوتاً خاصاً، وتشكل عبر مقومات السرد المتنوعة في قصصها متواليات بينها رابط فني».

وبالإضافة إلى المجموعة القصصية الفائزة، ضمت القائمة القصيرة الأعمال الأدبية: «خدعة هيمنجواي» لأحمد مجدي همام (قصص، 2024)، ورواية «حبة بازلاء تنبت في كفي» (2024) لدعاء إبراهيم، والمجموعة القصصية الصادرة في 2023 «الليلة الأولى من دونك» لأريج جمال، و«ثقوب» (قصص، 2024) لهويدا أبو سمك.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي والفنان أيمن الخراط... كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية

وفي تقليد جديد يرسخ للجائزة ويضفي جواً من الحميمية والمصداقية على عملها، أقيمت بالاحتفالية أمسية قصصية رائعة، حيث قرأ كتّاب القائمة الخمسة نماذج من أعمالهم التي وصلت للقائمة القصيرة، وتجاوب معها الجمهور بحماس بالغ ومحبة خالصة.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي، والفنان أيمن الخراط، كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تقديراً لدور إدوار الخراط في نشأته وأنشطته. وتبلغ قيمة الجائزة المالية (50) ألف جنيه مصري تُعطَى للفائز بها، إضافة لشهادات تقدير للأعمال التي وصلت للقائمة القصيرة. وتُمنح لعمل أدبي منشور تتوافر فيه شروط الابتكار الخلاق على مستوى الشكل والمضمون، ويسعى لتجاوز محددات النوع الأدبي، وينفتح على تيارات الكتابة العابرة للنوع. وقررت لجنة أمناء الجائزة أن تُمنح في الدورة الأولى لكاتب أو كاتبة من مصر، تليها في العام المقبل دورة عربية، وهكذا بالتناوب.