في يومها العالمي... أي مستقبل للغة العربية؟

مشكلتها في أهلها ومستعمليها

في يومها العالمي... أي مستقبل للغة العربية؟
TT
20

في يومها العالمي... أي مستقبل للغة العربية؟

في يومها العالمي... أي مستقبل للغة العربية؟

 

يكمن كنز اللغة العربية الفصحى الأوّل في بنية أنظمتها الأساسية، فهي ترتكز على نظام صوتي متجانس، وعلى نظام صرفي ونحوي منطقي بتماسكه وتوازنه، وعلى نظام مفردات قابل للاشتقاق والتكيّف.

ويقوم كنزها الثاني على طاقات أنظمتها التعبيرية: من علم العروض الذي يعالج قياس القصائد من خلال الوزن والقافية والبحر، إلى البلاغة والبديع، وهما يؤدّيان إلى التعبير الإبداعي الجمالي. ويقوم كنزها الثالث على مكانة نتاجها الأدبي والفلسفي والعلمي، مما جعلها بامتياز لغة العلماء والفلاسفة والأدباء منذ العصور القديمة، كما أن العديد من المصطلحات العلمية والفلسفية والرياضية التي تبنتها لغات العالم وحضاراته أبصرت النور في رحابها.

ويتمثّل كنزها الرابع بالثقافة الغنية والعريقة التي يحملها نتاجها والتي تشكل رابطاً بين العالم العربي والعوالم الأخرى، وتعزز التفاهم والتواصل بين الثقافات العالمية المختلفة، وحضورها الوازن في جميع أنحاء العالم: فهي أوّلاً تحتل المركز الرابع أو الخامس من حيث اللغات الأكثر انتشاراً في العالم، يستعملها ما يقارب الخمسمائة مليون، في العالم العربي وفي المناطق الأخرى المجاورة كالأحواز وتركيا وتشاد ومالي والسنغال وإرتيريا وإثيوبيا وجنوب السودان وإيران.

وهي ثانياً تعد واحدة من اللغات الرسمية الرئيسية في الأمم المتحدة، ومن اللغات الست الرسمية للاتحاد الأفريقي، كما تعدُّ لغة الدبلوماسية والتفاوض في العديد من المنظمات الدولية الأخرى. وهي ثالثاً تحتل المركز الثالث تبعاً لعدد الدول التي تعتمدها لغةً رسميةً وطنيةً، إذ تعترف بها 27 دولة لغةً رسميةً، والمركز الرابع من حيث عدد المستخدمين على الإنترنت. وهي رابعاً من أهم اللغات الدينية، لكونها لغة القرآن الكريم لجميع المسلمين، ولغة صلاتهم وعباداتهم وشعائرِهم، مهما تعددت أجناسهم ولغات تواصلهم الأساسية، فارتفعتْ، من جراء هالتها الدينية في تلك البلدان الإسلامية، مكانتها العامّة، إذ أصبحت لغة السياسة والعلم والأدب فيها قروناً طويلة، كما كان لها تأثير في لغاتها الأصلية كالتركية والفارسية والأمازيغية والكردية والأردية والماليزية والإندونيسية والألبانية وبعض اللغات الأفريقية الأخرى مثل الهاوسا والسواحيلية والأمهرية والصومالية.

ومن العجب أن تؤول اللغة العربية الفصحى، بالرغم من كنوزها المميزة، إلى انحسار يحير الباحثين في مسارها التاريخي العريق الذي لم يأفل نجمه على مدى العصور.

وقد يعزو بعضهم انحسار استعمال اللغة العربية الفصحى الذي نشهده اليوم إلى تمايزها عن اللغات الأخرى بالازدواجية بينها وبين العاميات، وبهذا التعدد في مستويات استعمالها، ويعبّرون عن خشيتهم من الخطر على استمراريتها؛ غير أن هذا التمايز ليس جديداً عليها، ولم يبلغ حد التشكيك بصمودها منذ نشأتها إلى اليوم، وهي، كما سبق ذكره في سلسلة كنوزها، لا تزال وستبقى بألف خير، فهي لا تعاني من أي مشكلة ذاتيّة في التطوير والتغيير والتحديث.

ونحن من المقتنعين بأن مشكلتها في أهلها ومستعمليها وفي غياب التزامهم بالمشاركة في مشروعات البحث، بغية الإبداع والريادة والإنتاج فيها، وما بروز المفاهيم الجديدة التي تولد مع كل طلعة شمس في العالم، والتي تتم تسميتها بمصطلحات مختارة من اللغات الحيّة العالمية الأخرى التي تولد فيها، في غياب اللغة العربية، إلا دليل على تأخر الإنتاج العلمي العفوي المعترف به عالميّاً، بل غيابه كليّاً عن البحث والإنتاج والإبداع في اللغة العربيّة، والاستعاضة عنه بترجمة المصطلحات الجديدة وتعريبها، بانتظار نضجها ودمجها باللغة العربية فتصبح فعلاً من «أهل البيت» في نصوص عربية لا تفوح منها رائحة الدخيل، وذلك يتطلّب وقتاً طويلاً ضائعاً يبعد اللغة العربية عن حلبة الإنتاج العلمي العالمي الذي لا ينتظر لا المتأخرين ولا الغائبين.

ولا تنجح مشروعات البحث، بغية الإبداع والريادة والإنتاج، إلّا بتأمين البيئة العلميّة الحاضنة. ولا تستطيع اللغة العربية الفصحى اللحاق بالحركة البحثيّة الإنتاجيّة العلميّة العالميّة، إلّا إذا توافرت لها تلك البيئة الحاضنة التي تؤمنها سياسات التخطيط اللغوي الوطنية منها والإقليمية والدولية، والتي لا تزال إلى اليوم إما غائبةً، وإما جزئيّةً، خجولةً، وغير فعالة في البلدان العربية. ويجمع الباحثون على أن انحسار استعمال العربية عائدٌ كذلك، وبنسبة عالية، إلى واقع تعليمها ومنهجه ومقارباته النظرية والتطبيقية، إذ يلاحظون سلسلة من الوقائع التي تظهر لا مبالاةً واضحةً إزاء اللغة العربية الفصحى: من عدم تهافت التلاميذ والطلاب عليها والشغف بها، إلى شكِّهِم في تأمينها جواز سفر آمناً لهم إلى سوق العمل، مروراً بعدم اكتراث ذويهم لها، وبغياب التزام معلميهم وأساتذتهم بها وتشويقهم إليها.

ويُجْمعون كذلك على أن الحاجة ملحّة إلى طرائق ومقاربات متجددة وحديثة تعمل على تسهيل اكتساب التواصل باللغة العربية الفصحى الحية الأصيلة المستعملة في العصر الحاضر مُطعَّمةً بالآتي إليها عن طريق اللغات الحيّة العالمية الأخرى.

وفي سبيل تغيير هذا الواقع، لا بد من إعداد برنامج نهضوي تنموي لغوي شامل يملي على المتخصصين من أفراد وجمعيات تطوير برامج التدريس الكفيلة بتوثيق العلاقة بين اللغة العربية الفصحى ومستعمليها، عن طريق إتقانها وجعلها لغة يتواصلون فيها في مجالات حياتهم كافة، التربوية منها والمهنيّة والاجتماعية والثقافية.

ونكتفي، في إطار هذا المقال، بالإضاءة على بعض الحلول العملية التي تندرج في سياق البرنامج النهضوي الشامل، ونحصرها في بعض المسارات التي نعدّها في متناول التنفيذ السريع:

يجمع الباحثون على أن انحسار استعمال العربية عائدٌ كذلك، وبنسبة عالية، إلى واقع تعليمها ومنهجه ومقارباته النظرية والتطبيقية

من شروط نجاح هذه المسارات المقترحة لتغيير الواقع الذي تمر فيه اللغة العربية الفصحى، التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي، ربطها بالأبعاد الثقافية والتاريخية والدينية من جهة، وبالتطورات الاجتماعية والتكنولوجية من جهة أخرى:

> المسار الأدبي، وهو يركز على استخدام اللغة العربية الفصحى في الأعمال الأدبية والشعرية ويهدف إلى تمتين الإبداع الأدبي والشعري ونشره وجعله في متناول جميع مستعملي العربية الفصحى، وعدم حصره بالشعراء والأدباء المحترفين، وقد خبر مجمع اللغة العربية في لبنان نجاح هذا المنحى في جائزته السنوية، لما فتحها على المساجين والأيتام والعجزة.

> المسار الديني، وهو يركز على المحافظة على الشعائر الدينية بوجهها التقليدي وتنويع القيام بها باستخدام الوسائل التواصلية الحديثة.

> المسار الإعلامي والإعلاني، وهو يركّز على استخدام اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة، مثل الجرائد، والمجلات، والتلفزيون، والإنترنت، كما يسعى إلى تبسيط اللغة وتوجيهها لتصبح مفهومة لجميع شرائح المجتمع.

> المسار التعليمي: وهو يركز على حصر تعليم المواد اللغوية، وغير اللغوية التي تعتمد فيها العربية لغةَ تواصل، باستخدام اللغة العربية الفصحى في المدارس والجامعات، دون اللجوء إلى العاميات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدروس المخصصة لغير الناطقين بها.

الخاتمة: خلاصة القول إنّ في بنية اللغة العربية الفصحى، وقابليتها للإبداع وللتكيف مع الجديد، وغنى تراثها، ووظيفتها التوحيدية للناطقين بها، وإقبال عبر الناطقين بها على تعلمها، واحتلالها مكاناً متقدّماً بين اللغات العلمية، كنوزاً تؤهلها للاستمرار والنمو والتطوّر، شرط أن يعي أهلها والمسؤولون بينهم أن استثمار تلك الكنوز متوقفٌ على التزامهم وإبداعهم وعدم تضييع فرص العصرنة المتاحة لهم.



فارغاس يوسا يسدل الستار على الجيل الذهبي لكُتَّاب أميركا اللاتينية

الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)
الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)
TT
20

فارغاس يوسا يسدل الستار على الجيل الذهبي لكُتَّاب أميركا اللاتينية

الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)
الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا في صور خلال مقابلة بمنزله 7 أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)

«أعرف أن غيابه سيترك حزناً عميقاً بين أفراد أسرته وأصدقائه وقرائه حول العالم، لكننا نعقد الأمل أن الجميع سيجد عزاء في كونه تمتع بحياة مديدة ومثمرة، وترك لنا أعمالاً سترافقنا طويلاً من بعده».

بهذه العبارات نعى الفارو، النجل البكر لماريو فارغاس يوسا، رحيل والده وهو على أبواب التسعين، بعد أسبوعين بالتمام من احتفاله بعيد ميلاده التاسع والثمانين في منزله المطل على البحر في مدينة ليما التي لم ينقطع عنها أبداً رغم ترحاله المستمر وإقامته فترات في مدن كثيرة، كانت مدريد آخرها، حيث توطدت بيننا صداقة وكانت مدخلاً لانضمامه إلى أسرة «الشرق الأوسط» منذ نيّف وثلاث سنوات.

لا شك في أن غياب فارغاس يوسا سيُحدث فراغاً كبيراً في نفوس الذين تهافتوا على أعماله ووجدوا في أدبه رفيقاً حميماً في ساعات البهجة كما في ساعات القنوط.

يوم الأربعاء الفائت تحدثت إلى ألفارو لأبلغه أن «الشرق الأوسط» نشرت في ذلك اليوم مقالة والده عن صديقه خوسيه دونوسو، وطلبت إليه أن ينقل إلى «دون ماريو» تحيات عطرة من سمرقند التي قال لي مرة إنه يحلم بزيارتها بعد قراءة الرواية التي وضعها أمين معلوف عن هذه المدينة الساحرة. وبعد قليل، ردّ المتوج بنوبل للآداب والعضو الوحيد في الأكاديمية الفرنسية الذي لم ينشر كتاباً واحداً بلغة موليير، بقوله: «كم هو العالم بحاجة إلى مدن مثل سمرقند في أيامنا هذه!».

في تواصلي الأسبوعي مع نجله البكر، وهو أيضاً كاتب، كان يخبرني أنه منذ عودته العام الفائت إلى بيرو، بدأ فارغاس يوسا يقوم بنزهات «خفيفة» في الأماكن التي ألهمته في أعماله، وأنه في إحدى السهرات ذهب إلى مشاهدة عرض مسرحي خاص مستوحى من روايته «مَن قتل بالومينو موليرو؟». بعد ذلك زار المدرسة العسكرية التي تابع فيها مرحلة دراسته الثانوية وألهمته رائعته «المدينة والكلاب» التي ارتقى بها إلى أولمب الآداب الإسبانية مطلع ستينات القرن الفائت، ورسم فيها صورة فذة عن تعقيدات مجتمع بلاده، بيرو. كما تردد غير مرة على المقهى الذي اختمرت على مقاعده روايته «محادثة في الكاتدرائية»، وكانت نزهاته الأخيرة في أجمل أحياء ليما، «الزوايا الخمس»، المشرف على البحر.

وقد أوصى يوسا بأن يوارى الثرى في جنازة خاصة جداً، وغير رسمية، تقتصر على أفراد أسرته المقربين من جهة والده. وشاءت الصدف أن غالبية مواطنيه لم يعرفوا بنبأ وفاته من نشرات الأخبار، بل من متابعتهم إحدى المباريات المهمة بكرة القدم على ألسنة المعلقين الرياضيين، كما لو أنه هو الذي كتب هذا المقطع الأخير من حياته، وهو الذي كان شغوفاً بالفريق الذي خسر تلك المباراة، والذي كان عضواً فخرياً فيه لا يفوّت مباراة له كلما كان في ليما.

كان مزيجاً من فيكتور هوغو وغوستاف فلوبير، الذي قيل إن أحداً لم يكتب عنه بمثل العمق والتألق الذي فعله فارغاس يوسا عن صاحب «مدام بوفاري». وبرحيله ينسدل الستار على الجيل الذهبي من كتَّاب أميركا اللاتينية الذين رصّعوا الأدب العالمي بأجمل الدرر، مثل غارسيا ماركيز وكارلوس فونتيس وخوليو كورتازار.

«الشرق الأوسط»، بالاتفاق من نجله ووكيلته الأدبية، ستواصل نشر مقالات له سابقة مرتين في الشهر، وهي تتقدم إلى أسرته بخالص العزاء.