«إذا كان هذا إنساناً»... قراءة متأخرة في كتاب بريمو ليفي

حذّر من تكرار ما أصابه على شعب آخر في زمان ومكان آخرين

«إذا كان هذا إنساناً»... قراءة متأخرة في كتاب بريمو ليفي
TT

«إذا كان هذا إنساناً»... قراءة متأخرة في كتاب بريمو ليفي

«إذا كان هذا إنساناً»... قراءة متأخرة في كتاب بريمو ليفي

رغم اقتنائي كتاب «إذا كان هذا إنساناً» للكتاب والشاعر الإيطالي اليهودي بريمو ليفي منذ أكثر من عشر سنوات، لم أجد أي انجذاب كافٍ يدفعني لقراءته. ولعل ذلك يعود إلى وهم بقيتُ مقتنعاً بصوابه: ما جرى من إبادة واسعة النطاق ليهود أوروبا الشرقية بالدرجة الأولى على يد النازيين الألمان خلال سنوات الحرب العالمية الثانية شيء ينتمي إلى التاريخ ولن يتكرر ثانية في عصر الإنترنت والكاميرات القادرة على توثيق ما يحدث في العالم لحظة بلحظة بدلاً من الاعتماد على شهادات الناس التي قد لا تكون بنفس دقة الكاميرات، ولعل أهم شيء هو أننا نتعلم من التاريخ.

مثلما هو الحال مع ابن بلده أليغري دانتي الذي سبقه بنحو ستة قرون في رحلة إلى الجحيم جسّدها شعراً عبر كتابه «الكوميديا الإلهية»، قام بريمو ليفي هو الآخر بهذه الزيارة، لكنها تختلف عن زيارة دانتي للجحيم التي كانت عبر الأحلام والمخيلة، فهي في هذه المرة حقيقية مائة في المائة.

كان ليفي في سن الرابعة والعشرين حين اعتقلته الميليشيا الفاشية الإيطالية يوم 13 ديسمبر (كانون الأول) 1943؛ شكاً باشتراكه في نشاطات معادية للنظام الذي فرض على اليهود والأقليات الأخرى قوانين الفصل العنصري، وتقنين حركتهم منذ بدء الحرب العالمية الثانية. وفي التحقيق الذي جرى معه كان أمامه أحد الخيارين: إما أن يقول بأنه معارض للسلطة الفاشية، لصعوبة تبرير وجوده في أماكن معزولة حتى بالنسبة لأولئك النازحين، أو أنه يهودي.

وخوفاً من التعذيب والإعدام إذا أقرّ بالخيار الأول فضّل الإقرار بأنه «مواطن إيطالي من عرق يهودي»، كما كان التعريف القانوني لليهود آنذاك في ظل نظام موسوليني الفاشي.

في المعسكر الذي نُقل إليه وجد بريمو ليفي نفسه بين الكثير من أفراد الأقليات التي لا يعترف النظام الفاشي بهم مواطنين إيطاليين. وكان اليهود يشكلون الجزء الأكبر بينهم.

ولم يدر بخاطر أي منهم أن فريقاً من «الوحدة الوقائية» الألمانية المعروفة باسم «إس إس» سيحضر فجأة إلى المعسكر، الذي ظل معتقلوه حتى ذلك الوقت ينعمون بحياة شبه عادية، تشمل أيضاً توافر التعليم اليومي للأطفال والعناية الصحية والطعام والماء وغيرها.

بريمو ليفي

في يوم 20 فبراير (شباط) فتّش بعض الضباط الألمان المطبخ في المعسكر ووجهوا انتقادات شديدة على الخدمات السيئة فيه، وعلى النقص الكبير في الحطب المستخدم للتدفئة. لكن في اليوم اللاحق سمع المحتجزون في المعسكر أن اليهود سيرحّلون من دون أي استثناء بمن فيهم الأطفال وكبار السن، بل وحتى المرضى.

بعد حشر عربات قطار معدّ للانطلاق من محطة كاربي، بستمائة وخمسين «قطعة» كما أطلق العريف الألماني عليهم، عرف المسافرون الجهة التي سيقصدونها: إنها «آوشْفِيتْز» سيئة الصيت، لكنها لم تكن ذات أي دلالة بالنسبة إليهم آنذاك، بل شعر الكثير منهم بنوع من الانفراج: إنها على الأقل مكان موجود فوق سطح الأرض.

بعد رحلة مضنية استغرقت أربعة أيام، ظلت تلك «القطع» البشرية تتصادم ببعضها بعضاً، لضيق المكان، وظل العطش والجوع والبرد وعويل الأطفال برفقتهم طوال الوقت.

أخيراً، رُفعت الستائر التي ظلت تمنعهم من رؤية الخارج، وفُتحت أبواب العربات، وعلى إيقاع صرخات الجنود الألمان الآمرة هبط الجميع منها وهم يحملون حقائبهم. على رصيف المحطة المضاءة بالمصابيح وعاكسات الضوء التي جعلت الليل نهاراً، كان بإمكان بريمو ليفي أن يرى أعداداً كبيرة من العسكريين، حيث انتشر بينهم رجال الـ«إس إس» المتميزون بملابسهم.

ولم يستغرق بقاء المسافرين طويلاً هناك، فبفضل أحد المسؤولين العسكريين الكبار جرى تحقيق صغير مع كل منهم، فعُزل الأصحاء من الرجال والنساء جانباً، ووُضعت البقية التي يبلغ عددها أكثر من خمسمائة «قطعة» من أطفال ونساء وكبار في السن ومرضى في جانب آخر.

حين سأل البعض عما إذا كانوا سيأخذون حقائبهم التي رصفت في مكان آخر قريب منهم كان جواب هذا الضابط: ستُنقل لكم لاحقاً. أمام أعين الرجال الأصحاء الذين كانوا يحيطون ببريمو ليفي، «ابتلع الليل الأطفال وكبار السن وأغلب النساء»، حيث اقتيدوا بشاحنات واقفة قريبة منهم. أما هم فقد نقلتهم شاحنات أخرى إلى معسكرين قريبين من معسكر آوشفتز: الأول واسمه «مونوفيتز- بونا» استقبل 96 رجلاً؛ أما معسكر «بيركينو» فاستقبل 29 امرأة.

ومن هؤلاء المائة وخمسة وعشرين سجيناً لم يعد إلى إيطاليا سوى أربعة أفراد، أحدهم كان بريمو ليفي.

تحضرني صورة ذلك الضابط النازي الكبير الذي قرر بدقائق مصير هذا العدد الكبير في تلك المحطة النائية وسط عاكسات الضوء الساطع، جنباً إلى جنب، مع ذلك الضابط الإسرائيلي الجالس أمام فصيله، حين أصدر أمراً (لإمتاع ابنته البعيدة عنه) بتفجير عمارة سكنية غاصة بأطفال ونساء ومسنّين في غزة لتتحول تحت ضحكاته وضحكات جنوده كتلةً من ركام وغبار يتهادى تدريجاً بطريقة فنية نحو الأرض.

بين هذين الضابطين فترة زمنية لا تزيد على ثمانين سنة. وهذا ما جعل نظرية الشاعر الألماني هاينرش هاينه (1797-1856) تحضرني بقوة رغم غرابتها: الزمن في حركته التي تحددها دورات الأرض حول نفسها وحول الشمس لا نهائي، بينما الأحداث التي تمر على كوكبنا محدودة؛ لذلك فإن الأحداث ستتكرر عاجلاً أم آجلاً.

إنها العودة الأبدية إذن!

لم تستغرق رحلة بريمو ليفي ورفاقه إلى المعسكر المتخصص بإنتاج المطاط، أكثر من عشرين دقيقة.

في الشاحنة التي نقلتهم كان هناك حارس مسلح واحد، لم تكشف العتمة حضوره حتى بلغهم صوته سائلاً بلطف، إذا كان لدى أيّ منهم ساعة أو نقود أو خاتم فليعطها إياه.

وكأن هذا المشهد شبيه بما كان يطلبه النوتي «كارون» في الأسطورة الإغريقية واستخدمها دانتي في «الكوميديا الإلهية»: قبل عبوره نهر ستايكس صوب مملكة الموتى، يجب منحه قطعة معدنية أجرة لخدمته، يتركها أهل المتوفى معه عند دفنه.

أمام مبنى كامد اللون تقف الشاحنة وسط ظلام دامس تضيئه لافتة مثبتة في أعلى واجهته: «العمل يمنح الحرية». وكأن من اختار هذه العبارة حاول تقليد دانتي الذي وضع لافتة شبيهة لها على بوابة الجحيم: «أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل».

داخل قاعة فارغة إلا من حنفية يتسرب منها الماء في هيئة قطرات، وفوقها كُتبت لافتة تحذر من شرب هذا الماء لعدم صلاحيته للشرب. لكن بريمو ليفي شك بصحتها، فأمام العطش الضاري الذي كان يشعر به بعد قضاء أربعة أيام من دونه، أخذ جرعة منه ليكتشف أنه ماء آسن بطعمه المائل للحلاوة فبصق ما كان في فمه.

ها هم بحضرة ضابط آخر من الـ «إس إس»: «مَن يعرف الألمانية»؟ يسألهم فيبرز أحدهم ليكون مترجماً له.

تأتي أوامره تباعاً: عليكم أن تقفوا بصفوف عدد أفراد كل منها خمسة مع مسافة ياردتين بين كل رجل ورجل، ثم عليكم أن تنزعوا كل ملابسكم وتصفّونها في رزمة...

(هل يذكّرنا مشهد الرجال العراة أمام ضابط الـ«إس إس» في ذلك المبنى الرهيب بما نراه هذه الأيام على وسائل التواصل الاجتماعي، من رجال فلسطينيين عراة في شوارع غزة؟).

يخرج هذا الضابط الذي استمتع بما فيه الكفاية بمشهد تعرية هؤلاء الذين انتُزعت عنهم صفة البشرية وتحولوا مجرد «بهائم» وفق الرؤية النازية، منبهاً إياهم بضرورة مراقبة أحذيتهم كي لا تُسرق!

«والآن يدخل ضابط ألماني آخر ليأمرنا بوضع أحذيتنا في زاوية محددة، فنضعها هناك... ثم جاء شخص آخر بمكنسة، فراح يجرّف أحذيتنا بعيداً إلى ما وراء الباب، في كومة»، حيث يختلط ستة وتسعون زوجاً بعضها ببعض.

«يُفتح الباب الخارجي فتدخل ريح زمهرير ونحن عراة نغطي أنفسنا بأذرعنا. تهب الريح فيُغلَق الباب؛ لكن الألماني يعيد فتحه، ويقف أمامنا مستمتعاً بمشهدنا ونحن نتلوى ونتخفى من الريح، واحداً وراء الآخر، ثم يغادر ويغلق الباب وراءه».

غير أن صناعة الجحيم النازية تتجاوز حدود جحيم دانتي.

هل جاءت رؤى انهدام المباني السكنية ذات الطوابق المتعددة للعراف الفرنسي الشهير نستراداموس وهو يستقرئ المستقبل البعيد؟ لعله شاهد مدينة وارشو وهي تُحرق قطعة قطعة بالنار بعد إفراغها من سكانها، لكنه لم ير مدينة تتهدم على رؤوس سكانها تحت وابل «أجسام غريبة تأتي من السماء».

يذكّرنا مشهد الرجال العراة أمام ضابط الـ«إس إس» النازية الذي يصفه ليفي في كتابه بمشهد الرجال الفلسطينيين العراة في شوارع غزة

بعد انتهاء الحرب وعودته إلى مدينته تورين، قضى بريمو ليفي سنوات عدة وهو يكرر عادةً تحكمت به خلال الفترة التي قضاها في معسكر العمل القسري: إنه التمعن في الأرض؛ بحثاً عن قطعة خبز يسد فيها ناب الجوع الملازم له، أو أي شيء قابل لأن يقايَض بسلعة مفيدة مع الآخرين.

في أول صفحة من هذا الكتاب الصغير الذي صدر للمرة الأولى بالإيطالية عام 1958، نظم بريمو ليفي قصيدة تبدو كأنها وصية تحذر من تكرار ما أصابه، على شعب آخر وفي زمان ومكان آخرين:

إذا كان هذا إنساناً

أنتم الذين تعيشون بأمان

في بيوتكم الدافئة،

أنتم الذين تجدون، عند عودتكم مساءً إليها،

طعاماً ساخناً ووجوهاً ودودة:

فكّروا في ما إذا كان هذا إنساناً

هذا الذي يعمل في الطين

ولا يعرف السكينة

والذي يتصارع من أجل كسرة خبز

ويموت بسبب «نعم» أو «لا».

فكّروا في ما إذا كانت هذه إنسانة،

من دون شعر ومن دون اسم

ومن دون أي قدرة على التذكر،

عيناها فارغتان ورحمها بارد

مثل ضفدعة في شتاء ما.

تأملوا أن يكون هذا قد تحقق:

ها أنذا أستودعكم هذه الكلمات

انقشوها في قلوبكم

في البيوت، في الشوارع

عند ذهابكم للنوم وعند نهوضكم منه،

كرروها لأطفالكم،

وإلا فلتتهدم بيوتكم

ليُعِق المرض حركتكم

وليُدِر أبناؤكم وجوههم عنكم.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.