الفنان حلمي التوني صنع هوية أكثر من 4 آلاف غلاف كتاب عربي

اشتهرت تلك التي خصصها لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس

أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ
أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ
TT

الفنان حلمي التوني صنع هوية أكثر من 4 آلاف غلاف كتاب عربي

أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ
أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ

صمم الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني (مواليد 1934) ما يزيد على أربعة آلاف غلاف كتاب، خلال مسيرته الإبداعية. وبذلك فهو مع بداياته في نهاية خمسينات القرن الماضي، ومن خلال عمله مع كبار دور النشر والمطبوعات الصحافية العربية، تمكن من أن يكون واحداً من جيل المؤسسين لهذا الفن، الذي بقي إلى اليوم، مثار تساؤل، حول دوره وأهميته، وجدوى الإنفاق عليه عربياً، فيما أصبح جزءاً عضوياً رئيسياً من عملية طباعة الكتاب ونشره وتسويقه في العالم.

المعرض الاستعادي لأغلفة الكتب التي صممها حلمي التوني، الذي أُقيم مؤخراً ليصاحب «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، فتح شهية الزائر، على معرفة أعمق، بفن تصميم الأغلفة العربية، ومسار التوني الفني بشكل خاص.

حلمي التوني فنان متعدد، رسم اللوحات الزيتية والأعمال الكاريكاتورية، وكذلك صمَّم أفيشات أشهَر الأفلام المصرية، والإعلانات، وصفحات المجلات والصحف وأغلفة الكتب، وشكلّ جزءاً من نهضة فنية في عالم الجمال الطباعي، الذي كان يبحث عن هوية وطنية وخصوصية.

أفيش أحد الأفلام المصرية

ألف كتاب وأكثر

وتسمية المعرض في بيروت بعنوان «التوني... ألف كتاب وكتاب» جاء في الصميم. لكنَّ الزائر لم يكتشف أكثر من 300 تصميم، بسبب ضيق المكان، أعطت فكرة سريعة عن مسار الفنان، وبقي المتفرج على عطش، لأن التصاميم لم ترافقها شروحات أو إيضاحات تصل الزائر بتاريخ الغلاف، ورحلة رواده، ومكانة التوني تحديداً في هذا المسار الشيق.

عكف التوني في البدء على تصميم مجلّة «الكواكب» المصرية، ثم تسلم الإدارة الفنيّة في «دار الهلال». وهو من وضع أجمل أغلفة نجيب محفوظ، ووضع لمساته الخاصة على صورة نسائه التي رسمها بشكل لا ينسى. كما صمم غالبية أغلفة روايات إحسان عبد القدوس التي التصقت بالذاكرة. فعمله مع «دار الشرق» للنشر جعله على تماسّ مع نصوص كبار الكتّاب، ووضع أغلفة لأنيس منصور، وعبد الوهاب البياتي، وإبراهيم عبد المجيد، ورضوى عاشور، وآخرين.

والتوني هو مَن وضع حلّة كتب محمود درويش التي صدرت عن «مؤسسة الدراسات العربية» يوم كان ركناً منها، وزيَّنها بالخط الجميل الطاغي على كل ما عداه في الغلاف، وهو أيضاً مسهم أساسي في صنع هوية كتب «دار العودة» و«دار ابن رشد».

حصل حلمي التوني على بكالوريوس من كلية الفنون الجميلة، تخصص يومها في الديكور المسرحي، وتخرج عام 1958. في استعادةٍ لرحلته الفنية، يعد الرجل أن تكوينه الأكاديمي طوال تلك الفترة كان غربياً، والتحول الحقيقي في مساره، جاء بعد إقامته البيروتية التي استمرت ثلاثة أعوام، وانتهت مع بدء الحرب الأهلية عام 1975، إذ شعر بأن استمرار إقامته خلالها أصبح عسيراً.

تجربة بيروت

حين كان حلمي التوني في القاهرة مديراً فنياً في «دار الهلال»، أصدر الرئيس أنور السادات قراراً بطرد أكثر من 100 صحافي لمطالبتهم بإنهاء حال المراوحة مع إسرائيل التي تأرجحت بين السلم والحرب. هكذا طرد التوني من عمله بتهمة الشيوعية، مع أنه لم يكن كذلك، ووجد نفسه بلا عمل لشهرين، قبل أن يقرر التوجه إلى بيروت. حينها لم تقبل حتى صالات العرض أن تستقبل لوحاته في القاهرة، ولم يعد أمامه سوى المغادرة. وكانت العاصمة اللبنانية في حالة غليان ثقافي.

يقول التوني إنها كانت فترة خصب كبرى، بسبب الانفتاح على الغرب، وتطور الطباعة، والتحاقه بـ«المؤسسة العربية للدراسات والنشر» مما أضاف له الكثير. من أوائل ما صمَّمه عند وصوله إلى العاصمة اللبنانية، كان شعار «معرض بيروت للكتاب» الذي لا يزال صامداً إلى اليوم، لذلك لا غرابة في أن يحتفي به هذا المعرض ويعرض أعماله، ويخصص له ندوة خاصة، لم يتمكن من حضورها، وعُرضت مقابلة معه سُجلت خصيصاً لهذه الغاية، قال فيها: «استفدتُ من انفتاح لبنان على الغرب وكانت الطباعة متقدّمة، والإمكانات متوافرة، التحقتُ بالمؤسسة العربية بسبب علاقتها بالناشر عبد الوهاب الكيالي، وبالمقاومة الفلسطينية التي كانت قد انتقلت أيضاً إلى بيروت». ولا بد من التذكير بأن التوني كانت له لمساته المهمة على صفحات جريدة «السفير»، سواء في تقسيم موادها، أو في ملاحقها، وما لا يمكن أن ينسى هو شعارها الذي صممه لها وبقيت تحمله وتُعرف به حتى توقفت عن الصدور. فهو الذي قال: «أنا أعمل في حقلين... حقل اللوحة وحقل غلاف الكتاب، وأظن أننا في واقعنا الثقافي، الفني، محتاجون إلى هذه المدارس المتنقلة... مدرسة اللوحة وغلاف الكتاب».

العودة إلى القاهرة

مع عودته إلى القاهرة، وقد اجتاحت بيروت الحربُ، كان التوني لا يزال تحت تأثير تكوينه الأول. فهو تتلمذ على أعمال فناني عصر النهضة، ومثله الأعلى ليوناردو دي فنشي وأعمال بيكاسو. لكنه بدءاً من الثمانينات سيطرح على نفسه أسئلة: «هل أنا قبطي، أم يوناني روماني؟ قلت طيب مصر هي خلاصة كل هذا. الفنان الشعبي، قام بكل هذا بمزاجه بلا تخطيط. أصبحتُ تلميذ الفنان الشعبي، الذي رسم على الزجاج والجدران ورسم الوشم على الجلود». خطر له يومها لماذا يفترض أن يسير خلف ثقافة، ويبقى درجة عاشرة بالنسبة لها؟! من هنا بدأ التوني بحثه الذي لم يتوقف في الفن الشعبي، يدرسه ويتعمق برموزه، متأملاً في بيئته، والمكونات الثقافية لمصر، ناهلاً من الأغنية والمحفورات والآثار، وكل ما تقع عليه حواسه.

لكن ربما أن حلمي التوني يظلم نفسه بهذه الأحكام، فحتى أعماله الأولى لم تكن استشراقية، ولا غريبة عن بيئتها، لكن هذا المنحى الوطني، أخذ يتعمق بمرور الوقت، وهو ما يبرز جلياً في التصاميم واللوحات.

يصف نفسه بأنه رسّام غنائي: «أنا مواطن أغنّي لبلدي وأرسمها... أحب الرومانسية وأريد أن أُفرح الناس». لا بل إن أغلفته ولوحاته هي انعكاس لأغنيات سمعها. «أنا بتاع الحب والوطنية، مش ندّابة». لهذا لا يمكن للناظر إلى مختلف أعمال التوني إلا أن يرى البهجة في اللون، والبشاشة في الوجوه، والحيوية في اللوحة أو الغلاف.

عاشق للمرأة وقضاياها وحريتها، لا بل يعد نفسه نصير كل مظلوم وأقلية ومستضعَف. لهذا رسم الفلاحة المصرية دون كللٍ بنت البلد بملامحها الودودة. «كلهن على اختلاف وجوههن هنّ بهيّة»، يقول عن نسائه. ثمة رموز تتكرر في لوحاته، ولا بد أن تعثر على أحدها في كل مرة، كأنها توقيعه الخاص. السمكة التي تجدها تارةً على الرأس أو على اليد، وربما إلى جانب المرأة، وهي رمز الخصب والإنجاب. تجدها على غلاف كتاب نوال السعداوي «الأنثى هي الأصل» في طبعته الأولى التي مُنعت في مصر. هذه المرأة التي تستعدّ للطيران، سيرسمها الفنان عشرات المرات بعد ذلك، في سياقات مختلفة.

كذلك تجد في أعماله الأسد كنايةً عن الشجاعة والقوة، أضف إليها الأواني المنزلية، والعقد حول أعناق النساء، والطفل الذي يحمل الشمعة، لكنك قليلاً ما ستعثر على رجل، فهو لا يحب رسم الرجال، ويفضل بدلاً منه الحصان، كما وضعه جامحاً، على غلاف كتاب «دار الشروق» المعنون «أجمل الحكايات الشعبية». ولا بد أن يلفتك في كثير من أعماله القمر. أما الميزة التي يعدها أساسية، التي تضاف إلى الغنائية والفرح، فهو «أن شخصياتي تنظر دائماً في عين المتفرج» هذا يمنحها القوة والنبض، ويعطي المتلقي إحساساً بأنها رُسمت من أجله هو.

وتحية لتلك الفترة التأسيسية في تصميم الغلاف العربي، التي كانت قبلها أغلفة الكتب مجرد كرتون ملون عليه بعض الزخرف، أرشف الباحث المصري محمود الحسيني آلاف الأغلفة التي صُمِّمت منذ أربعينات القرن الماضي، واستطاع جمعها على منصة إلكترونية، ليعود إليها كل مهتم. لكن لا تزال مسألة تطور الأغلفة، ومساهمة كل من روادها منقوصة، ولم تجد العناية الكافية من البحاثة.

وربما أن العودة إلى واحد من هؤلاء المؤسسين يعطي فكرة، ويشكل إضاءة على هذا التاريخ الفني الذي سعى رواده إلى إبراز الهوية العربية الخاصة بعناصرها ورموزها، وفرادتها.



تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب... أتوق إلى وطنٍ لا يُجرّم فيه الحلم، ولا يُقمع فيه الاختلاف، وطنٍ يكفل لكلّ فرد حقّه في التعلم بلغته الأم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار.

أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانوناً لا شعاراً أجوفَ، وحيث يُحمى المواطن لا أن يُساق إلى السجون أو المنافي لمجرّد مطالبته بحقوقه. سوريا التي أتمنّاها هي التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث لا تفضيلات ولا محسوبيات، لا فساد ينهش موارد البلاد ولا استبداد يدمّر مستقبلها.

أحلم ببلد يُدار بقوانين عادلة مستمدّة من حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لا بقرارات فردية تُصادر الحياة برمّتها؛ حيث سيكون لكلّ فرد حقّه في التعلم والعمل والتعبير عن رأيه، وستُحترم لغات السوريّين وثقافاتهم كما تُحترم حياتهم. لن يُضطهد الكرديّ بسبب لغته، ولا أيّاً كان بسبب اختلافه أو رأيه أو معتقده، ولن يُنظر إلى الأقلّيات وكأنّها مُلاحقةٌ في وطنها، لن يكون هناك من فرق بين سوريّ وآخر. سوريا التي أنشدها ستُعيد الاعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها.

أحلم أن تكون سوريا ما بعد الاستبداد دولة القانون والمؤسّسات، لا الفوضى والاستئثار بالسلطة. دولة تكفل لمواطنيها حرّية الاختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. لا أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، ولا أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نحو حياة كريمة يعلو فيها صوت الإنسان فوق أصوات السلاح والتناحر.

أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مع ماضيها بدل أن تعيد إنتاجه، فلا يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة لا بالإقصاء.

سوريا التي أنشدها هي تلك التي لا تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، ولا يُعتبر فيها الكردي أو الأرمني أو الآشوري أو أي أحد آخر ضيفاً في أرضه.

لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحلامنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جزءاً من كينونتنا. لا أريد أن يُحرم طفل سوري - أياً كان انتماؤه - من لغته، لا أريد أن يُضطرّ أحد إلى الانكماش على ذاته خوفاً من رقابة السلطة أو وصاية المجتمع.

لا أريد أن تُلغى الذاكرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها من دون مِنّةٍ أو مساومة، أن تُعاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّين، أن تُدرَّس الكردية والعربية والآشورية وغيرها من اللغات في سوريا، وأن تكون كلّ لغة جسراً للمحبّة لا سلاحاً للتمييز.

أحلم بوطن تُرفع فيه المظالم عن كواهل السوريّين، فلا أرى مشرَّدين بين الأنقاض، ولا أسمع أنين أمّهات يبحثن عن جثامين أبنائهنّ المفقودين في كلّ مكان.

أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعاً بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ويُفسح مكاناً للكرامة والحرية لتكونا أساسَين صلبَين لعقد اجتماعيّ جديد.

آمل أن تكون سوريا الناهضة من ركام نظام الأسد - الذي أعتبره تنظيماً مافيوياً لا غير - فضاءً يتّسع لاختلافنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطنين كاملين، لا غرباء في أرضنا.

ولا يخفى على أحد أنّه لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي بشجاعة وشفافية. العدالة الانتقالية ستكون الخطوة الأولى نحو تضميد جراح السوريين، لا بدّ من محاسبة عادلة لكلّ من ارتكب انتهاكات في حقّ الإنسان والوطن.

في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّةً ومستقلة، مسرحاً للحوار والاختلاف، وفسحة لتجسيد التنوع السوريّ بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسلات تُحكى بكلّ لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريين وأحلامهم، ومسرح يضيء بصدق على المآسي والأمل معاً. الثقافة ستصبح أداة بناءٍ لا هدم، وحافزاً لإعادة اكتشاف الهوية المشتركة.

أحلم بوطن يحترم يحترم المرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر والمستقبل، حيث تكون القوانين الضامنة لحقوقها جزءاً أصيلاً من بنية الدولة الجديدة. المرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحقّ أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة.

أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة المواطنين، وتعتمد على طاقات الشباب والكفاءات السورية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد الأمل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه المهاجرين المتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب المشاركة الفاعلة في إعادة البناء.

سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم الإنسانية العليا، ويُعاد فيه الاعتبار إلى العدل والحرية والسلام.

كروائيّ تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه، وحُرم معي ملايين من السوريين من أبسط حقوقهم في الوجود، من حرية اللغة، والهوية، والانتماء الذي لم يكن يوماً خياراً، بل قيداً مفروضاً.

قد تبدو أحلامي رومانسيّة وبعيدة المنال، لكنّ الأحلام هي بذور المستقبل، وهي الأسس التي سنبني عليها غدنا المنشود.

هل سيظلّ هذا كلّه حلماً مؤجّلاً؟ ربّما. لكن، على الأقلّ، صار بإمكاننا كسوريّين أن نحلم!

* روائي سوري