«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»
TT

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

تتخذ الناقدة والباحثة اللبنانية دكتورة نايلة أبي نادر من أعمال الشاعر اللبناني شربل داغر مدخلاً لمقاربة العلاقة بين قصيدة النثر وأسئلة اللحظة الراهنة، وذلك في كتابها «العولمة والنص» الصادر أخيراً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب». وتتوقف المؤلفة بشكل خاص عند كتابه «ترانزيت» الذي لا يحتوي على مجموعة قصائد، كما أننا لا نجد فيه أي عنوان أو إشارة إلى تبويب أو تفصيل ينقل القارئ من موضوع إلى آخر، بل هو عبارة عن قصيدة ممتدة ما بين ضفتي الغلاف، وهي قائمة على حوار بين متكلمين كُثر منذ الصفحة الأولى وحتى النهاية.

وتوضح الباحثة أن هناك فعل خروج واضح من نمطية معينة نحو نص فاتح للمعابر ومتخطّ للحدود الموضوعة بين الأجناس الأدبية. هنا يطل الشاعر على العالم من قاعة ترانزيت في أحد المطارات، ليقيم علاقة جديدة بين النص والحاضر كما هو في الواقع المعاش. المكان الذي يدور فيه الكلام ليس مغلقاً ولا سرياً، إنما صالة مفتوحة للعابرين الذين ينتظرون مواعيد رحلاتهم. تتنقل القصيدة في مكان جديد وكأنها تخرج من حدود التقليد لتسافر إلى المكان الأرحب، فاختيار العنوان جاء ليعكس رغبة لدى الشاعر في كسر تقليد ما، والدخول في طقس الترحال، ليس فقط من مطار إلى مطار، ولا من بلد إلى بلد، إنما من جنس أدبي إلى آخر، ومن مقاربة إلى أخرى تفاجئك كما نمط الحياة الحاضرة.

وتتخذ القصيدة الممتدة شكل المسرح وتصبح مشهداً من الحياة، حيث تتوقف الرحلات لسبب طارئ وتتداخل أصوات المسافرين في انزعاج شديد؛ وتتوالى الأسئلة والأجوبة ما بين واقع مأزوم وخيال رحب.

يسترق الشاعر السمع بين المتكلمين الغرباء الذين تجمعوا في صالة الترانزيت دون أن يعرفوا بعضهم بعضاً ويدور الحوار بينهم هكذا:

متكلم: أنا أريد أن أصل إلى حياتي.

متكلم: أين تقع؟

متكلم: وجدتها ملقاة على هامش الحديقة في المرة الأخيرة.

متكلم: وأين كنت؟

متكلم: في غفلة عنها.

متكلم: وإذ تنتبه، وتستيقظ، ماذا تفعل؟

متكلم: أتحسر عليها.

متكلم: ولم لا تنتقل إليها؟

متكلم: لأنها تكون قد انتقلت من جديد.

يجد القارئ نفسه في مشهدية تعكس وقع حياة الإنسان المعاصر المستعجل والمسبوق دائماً، إذ إن الوقت يداهمه ولا مجال عنده لكي يفكر في حياته في المعنى الذي يضفيه على أيامه ولياليه بما فيها من ألم وخيبة وحب وفرح، فالحياة تهرب أمامنا ونحن نركض مجدين للحاق بها. هذا النمط بالتحديد قد تعمم بفضل العولمة وفتح الدول والقارات على بعضها.

وتلفت المؤلفة إلى أنه في هذا السياق من الصعب أن نميز بين الوصول والمغادرة، فنحن في منطقة «بين - بين». الشخصيات جاءت من الشرق، من الجنوب (من أقصى الشمال)، (من حيث لا تتوقعون)، (من باب حرف الشين). الوجهة: إلى أي مكان أو إلى لا مكان، لا شيء يجمع بينهم سوى الاحتجاز. برنامج الرحلات الواصلة جاء على الشكل الآتي:

الواصلة من: ممرات الاعتراف الأخير

موعد الوصول: عند خفوت الحركات

الباب: المؤدي إلى الفرج

ويصف الشاعر رحلة أخرى واصلة هكذا:

الواصلة من: القصيدة بمحركي استعارة

موعد الوصول: عند وصول القارئ

الباب: إذ يخرجان معاً

وهكذا، نحن أمام حالة مسرحة للقصيدة لا تنتهي، فالمسرح مفتوح دوماً على قوسي البدايات والنهايات، والمخرج متحفٍّ في ثوب الشاعر دائماً.



صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة
TT

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول: «أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة»، كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على رؤية ما لا يُرى.

أمثلةٌ كثيرة تصلحُ استشهاداتٍ للضدّ النوعي للشاعر «المصنوع من مادّة اللغة». أظنُّ أنّ بورخيس يتقدّمها باستحقاق كامل حتى صارت الإشارة إلى نمط «الكتابة البورخيسية» توصيفاً للكتابة المتقشّفة لغوياً، التي تقود عقل القارئ نحو الأفكار التي يسعى الكاتب أو الشاعر لتمريرها. لن تتفق الكتابة القائمة على الملاعبات اللغوية أو المصارعة المؤسّسة على تشكيل تراكيب لغوية معقّدة في أن تكون بديلاً عن جماليات الأفكار الرفيعة. ربّما - وأقول ربّما - كانت هذه الإغواءات اللغوية لدى الكاتب مقاربة تعويضية عن فقر الأفكار. الأمثلة في هذا الشأن كثيرة، ولكلٍّ منّا أمثلته وتجاربه ورؤاه.

كلّنا كائنات لغوية، وكلّنا مصنوعون من مادة اللغة. هذه حقيقة نعيشها كلّ يوم وليست إعلاناً يتسربل ببلاغة مقنّعة تسعى لتمرير رسالة مضمرة بالفائقية الإبداعية. يمكن محاججةُ بطلان هذه المقولة من أوجه كثيرة أوّلها المحاججة الفلسفية - الوجودية. اللغة منتَجٌ ينشأ عن علاقات تفاعلية دماغية عنوانها الأكبر: الوعي Consciousness. الوعي يتقدّم على اللغة، وبمعنى آخر: الأفكار تتقدّم على اللغة. الوعي وقدرته المتفرّدة في تخليق الأفكار خصيصة عالمية وليست محلية أو جماعاتية مثل اللغة. صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة، ومن يرى الشاعر محض كائن يجيد التلاعب الحرّ والمتدفّق والمدهش بعُدّته اللغوية يبخسُ وظيفة الشاعر إلى حدود معتلّة. الشاعر يستخدم اللغة وسيلة لتخليق أفكار ورؤى يرادُ منها كسرُ قشرة الواقع الصلب والإطلالة على عوالم ميتافيزيقية غير مختبرة لإضفاء الدهشة والفتنة على عالمٍ يقتله الملل وضيق حدود التجربة الحسية. الغريب أنّ هناك من يسعى لجمع الفيلسوف مع الشاعر في أنّ كليهما كائنان مصنوعان من مادة اللغة؛ لكنّ تلك حكايةٌ أخرى.

ما هو أكثر أهمية بكثير من المحاججة الفلسفية - الوجودية هي المحاججة الوظيفية: ما هي وظيفة اللغة؟ وكيف نتعامل معها؟ أهي أداة تواصلية أم غاية جمالية ونفسية تُطلَبُ لذاتها؟ في هذا السياق سأورد المثال التصويري التالي: لنتصوّرْ أنّ مواريثنا اللغوية في كلّ الفعاليات المعرفية المعروفة هي ميراث مادي محسوب بكمّ من المال. يبدو لي الكائن اللغوي (الذي يتباهى بأنّه مصنوع من مادة اللغة) وكأنّه سيأخذ نصيبه من المال ليبتاع نظيره سيارة «رولز رويس» عظيمة الفخامة. أما الكائن غير الشعري فسيوزّع ميراثه في أشكال عدّة: سيشتري عقاراً، وربّما قطعة أرض، ولا بأس من سيارة أيضاً. ما بها سيارة «تسلا» مثلاً؟ سيارة ممتازة بمواصفات رائعة وبسعر أقلّ من عُشْر سعر الرولز رويس.

هل تتخيّلون المشهد؟ مُقتني الرولز رويس سيتحوّلُ خادماً لها بدلاً من أن تخدمه هي لأنّه وضع كلّ ماله فيها. سيقلق عليها كثيراً، وسيلمّعها كل يوم، وسيخشى الخروج بها خوفاً من أن ينالها خدشٌ صغير. لن يخرج بها إلا لمشوار قصير يؤكّدُ فيه سطوته وأرستقراطيته الموهومة التي ربما تجعل منه كائناً متغطرساً. لن يجرّب قيادة سيارة أخرى طيلة حياته لأنّه منذور لوهْمٍ امتلك عقله في أنّ سيارته هي الأغلى والأجمل والأكمل والأفخم. الغريب أنّ هذه السيارة لن تأتي له بعائد مالي لأنّه يرى امتلاكها بديلاً عن كلّ عائد مهما كان عظيماً. سيظلّ كلّ حياته موهوماً بكلاسيكيتها الفائقة، ولن يفكّر بما يمكن أن يطرأ على تصميمها من تغيّرات بفعل نتائج امتحان السيارة في أنفاق الهواء Wind Tunnels وما يترتّب عليها من ضرورات تغيير التصميم بغية تقليل استهلاك الوقود ونفث أكاسيد الكربون والنيتروجين الملوّثة للبيئة.

مُقتني (تسلا) من جانب آخر يعيش تجربة مختلفة تماماً عن مقتني الرولز رويس. يتنقّلُ في سيارة عملية ممتازة لا تسمعُ ضوضاء فيها. السيارة تخدمه ولا يخدمها. صيانتها معقولة ميسّرة وبكلفة ممكنة، والسيارة بذاتها مصدرٌ لمداخيل مالية ونزهات ترفيهية لأنّ مقتنيها يستخدمها في متابعة شؤونه المالية والحياتية اليومية. لا غطرسة في الأمر بل حياة طبيعية معقولة، ومتى ما أراد صاحبها استبدالها كلّ ثلاث سنوات مثلاً فيمكن له ذلك لقاء بدلٍ مالي بسيط. تسلا ليست مثل الرولز رويس. بطارية الليثيوم المولّدة للكهرباء فيها تشهدُ تغيّرات ثورية لتحسينها وتعظيم كفاءتها كل سنة، ويمكن استبدالُ البطارية القديمة بواحدة جديدة مُطوّرة بكلفة يسيرة لا ترهق الجيب. تطوّرات الذكاء الاصطناعي وإمكانية القيادة الذاتية تشهد تجاربها الريادية الأولى عادة مع سيارة «تسلا». هل يمكن أن يحصل هذا مع رولز رويس؟

هكذا هو حال كلّ كائن لغوي، مصنوع من مادة اللغة، شاعراً كان أم كاتبا. اللغة لديه ليست سوى «رولز رويس» هي كلّ ميراثه، وقد استطاب الجلوس داخلها وخدمتها كلّ حياته. ليست كلّ ميراثه فحسب؛ هي كلّ بضاعته أيضاً. كيف تعرف هذا الكائن اللغوي؟ من نصوصه. تقرأها فتشعرُ وكأنّ كاتبها خاض نزالاً عنيفاً بالمصارعة للوزن الثقيل مع الكلمات. هو ليس كائناً مسترخياً عندما يواجه الكلمات، وحالُهُ في هذا حالُ مخرج أفلام سينمائية منحتَهُ مائة مليون دولار ونصّاً لسيناريو. ماذا سيفعل؟ سينسى السيناريو ويجعل كلّ همّه أن يقنعنا بأنّ فيلمه الذي نراه قد أنفق عليه مائة مليون من الدولارات. الإبهار والبهرجة المشهدية ستتقدّمُ بالضرورة على الأفكار في مثل هذه الأفلام. وهو ما ينفّرني من مشاهدة الأفلام ذات الميزانية الضخمة، وأفضّلُ عليها الأفلام متواضعة الميزانيات التي تتوفر على مستوى فني رفيع وأفكار غير مسبوقة.

يقترن هذا الموضوع اقتراناً عضوياً بموضوع البلاغة Rhetoric. البلاغة معضلة كبيرة وبخاصة مع العربية؛ إذ ما أسهل أن ينزلق المرء في لجّة الألعاب اللغوية الخالصة التي وسمت الكثير من تراثياتنا الأدبية. ليس الوقوع في فخّ البلاغة وقفاً على العربية. لنقارن مثلاً بين إنجليزية العصر الفكتوري وإنجليزية العصر الحالي، سنجد فروقاً هائلة بينهما. البلاغة اليوم هي بلاغة الأفكار وليست بلاغة الألعاب اللغوية، واللغة اليوم هي وسيط لتمرير الأفكار وعرضها برشاقة ووضوح من غير التباسات مؤذية. وظيفة اللغة أهمّ من الألعاب اللغوية مهما بدت جميلة مغوية، أمّا الغطرسة اللغوية فتلك قمّة جبل المأساة. الشاعر أو الكائن اللغوي، وكأي كائن اختصر كلّ قيمته الوجودية في حكاية ملحمية واحدة، سيكون من البدهي أن يرى بضاعته اللغوية أعلى مقاماً من سائر البضائع. الأخطر عندما تنقلب الغطرسة اللغوية شوفينية لغوية.

اللغة ليست لعبة ميكانو يجاهد الشاعر (أو الكائن اللغوي) في ابتداع أعداد متزايدة من الأشكال المعقّدة فيها. بساطة التراكيب اللغوية هي الأجمل من العبارات اللغوية الملتفّة الملتوية.

هل يرى البعض امتيازه الأكبر في أنّه مصنوعٌ من مادة اللغة؟ لا بأس في هذا. فليبقَ مأسوراً داخل «رولز رويس» التي يملك، وسيكون شاهداً على تقادمها حتى الاندثار. ليته يجرّب أن يطلّ برأسه خارج سيارته المتقادمة؛ فلربما سيرى سيارات «تسلا» تحلّقُ فوقه بمحرّكات تعمل بالهيدروجين أو بالكهرباء بعد سنوات قليلة قادمة.

كلنا نحب اللغة ونعشق منتجاتها الرفيعة، لكن لا معنى ولا فائدة من قضاء حياتنا ونحن ندور حول عرش اللغة الذي نحسبه مقدّساً.

اللغة بضاعة غاطسة في المعضلات الدنيوية، وجمالُها وفائدتها نتاجان مباشران لدنيويتها وكونها بضاعة يومية. اللغة المقدّسة المترفّعة عن لغات العالم لا تصلح لمعايشة البشر، ومكانها الطبيعي موضعٌ صغير يتوارى خلف واجهة زجاجية في متحف للآثار القديمة.