أثر الصداقة في تخفيف الخلاف الفكري

المناقشات بين لايبنتز والشكوكيين سادها الحوار الراقي

لايبنتز
لايبنتز
TT

أثر الصداقة في تخفيف الخلاف الفكري

لايبنتز
لايبنتز

كان الفيلسوف المسيحي غوتفريد فيلهلم فون لايبنتز (1646 - 1716) أكثر ارتباطاً بالفلاسفة الشكوكيين من أي فيلسوف آخر في نهاية القرن السابع عشر. ربطته علاقة شخصية بالثلاثة البارزين في ذلك الوقت؛ الأب سيمون فوشيه، والأسقف بيير دانييل هوييه، وبيير بايل. وككل الفلاسفة منذ أيام سقراط وأفلاطون، نشر كثيراً من كتبه المشهورة بوصفها إجابات عن أسئلة هؤلاء الشكوكيين أو للتعامل مع المشكلات التي أثاروها. وربما أشهر بيان عرض فيه لايبنتز آراءه الميتافيزيقية هي رسالة أرسلها في 1695 إلى فوشيه سماها «النظام الجديد».

لا شك أبداً في أن لايبنتز لم يكن شكوكياً، ومع ذلك فقد عدّه المشككون في عصره صديقاً أقرب من كل الميتافيزيقيين في تلك الفترة. وبينما هاجم فوشيه وهوييه وبايل الديكارتية وآراء مالبرانش وسبينوزا ولوك، فإنهم تعاملوا مع ميتافيزيقا لايبنتز بدرجة من الاحترام وضبط النفس لم تحدث قط في تعامل الشكوكيين مع رؤى الفلاسفة الدوغمائيين، وربما يرجع هذا إلى أسلوبه الدبلوماسي، وهو الدبلوماسي الكبير، في التعامل مع الناس، ومعهم خصوصاً.

ديكارت

وفي حين تعاهد آرنولد ومالبرانش وبيركلي على محاولة تدمير خطر الشكوكيين الذي يطارد الفلسفة الأوروبية، كان لايبنتز شديد الهدوء في معالجته التحديات التي تواجه العقلانية. وفي حين كان كثيرون لا يرون في حجج الشكوكيين سوى أنها خطرة للغاية، أو أنها ستقلب كل اليقين في المعرفة الطبيعية والموحى بها، وأنهم لم يستطيعوا رؤية الشكوكيين إلا بوصفهم شخصيات شيطانية عازمة على تدمير كل الثقة في النظرية المسيحية، وجد لايبنتز قيمة كبيرة وإلهاماً نافعاً في شكوك أصدقائه، وكان يرى فيهم أفضل نقاد فلسفته، وأن شكوكهم لن تتسبب في تدمير العالم العقلاني والديني، بل يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف أعمق المبادئ الأساسية للفلسفة والدين.

في ذلك الزمن، تعرض الشكوكيون للهجوم من جميع الأطراف، بوصفهم شياطين لا يستحقون المناصب التي شغلوها، واضطهد الكالفينيون الفرنسيون بايل في هولندا، وحاول المتعصبون مثل آرنولد فضح ما عدّوه الخطر الخبيث في دعاوى هوييه. في مقابل هذا، كان لايبنتز يعاملهم كأعز أصدقائه، وعندما أدان قاضي روتردام بايل وعزله من منصبه، سعى لايبنتز إلى إيجاد وظيفة جديدة له في ألمانيا.

تعرَّف لايبنتز على مشكلات الشكوكية مبكراً، فقد كتب أحد أساتذته ونشر بحثاً يرد به على فرنشيسكو سانشيز، كما أنه نشر هجوم سانشيز الشكوكي على الرياضيات. ويبدو أن لايبنتز قد أخذ بعض هذه النقاط الشكوكية على محمل الجد واستمر في مناقشتها مع علماء الرياضيات طوال حياته. وقد انغمس حقاً في عالم الشكوكيين عندما ذهب إلى باريس في مهمة دبلوماسية ابتداء من عام 1672.

لم تثر صداقة لايبنتز مع هوييه أي جدل، فكل واحد منهما كان يكنّ احتراماً كبيراً للآخر، ويفرح بموافقة الآخر له على آرائه. يبدو أن لايبنتز قد عدّ هوييه رجلاً يتمتع بسعة الاطلاع الهائلة في المسائل المتعلقة بتاريخ الدين. كما أنه يثمن بشدة نقد صديقه للديكارتية، ولذا دعمه بأدلة جديدة لاستخدامها في طبعة جديدة من كتابه «الرقابة على الديكارتية»، فقد كان ينظر لمناوشاته مع الديكارتية بوصفها عملاً مكملاً لجهد هوييه. ثم عاد ونشر بصورة مستقلة في تسعينات القرن السابع عشر بعضاً من هجماته على فلسفة ديكارت بناءً على اقتراح هوييه وتشجيعه. وبعد أن تقاعد هوييه وطواه النسيان وأهمل ذكره بقي لايبنتز يتذكره ويجلّه.

بيير بايل

ومع كل هذا، كان بايل هو المؤثر الأعمق في لايبنتز، ومعه تبادل الأفكار الأكثر حيوية وأهمية عبر الرسائل، مع أن هناك شكاً كبيراً في أنهما قد التقيا فعلاً. ويبدو أن أول اتصال بينهما كان عام 1687، عندما أرسل إلى بايل رسالة حول كتاب للأخير كان بعنوان «أخبار جمهورية الرسائل» ويظهر من المراسلات أن لايبنتز كان حريصاً على أن يسمع من بايل رأيه في مشاكساته ضد الديكارتية، بغرض تطويرها.

مع صدور قاموس بايل بدأت مرحلة جديدة في علاقة الرجلين، فبعد سنوات من محاولة إقناع فلاسفة من مثل مالبرانش ولوك بالنظر في فلسفته الجديدة، وجد لايبنتز الاعتراف والتأييد من قبل بايل الذي عدّه واحداً من أبرز العلماء الميتافيزيقيين في ذلك العصر. وفي مقالة بايل عن أرواح الحيوانات كتب يقول: «ثمة صعوبات تنطوي عليها فرضية لايبنتز، إلا إنها تشير إلى مدى عمق عبقريته». لم يمنعه التقدير من انتقاد نظرية لايبنتز، كما أعلن أنه لم يكن جاهزاً بعد لتفضيل نظرية لايبنتز على نظرية مالبرانش؛ لأنه كان يريد أن ينتظر حتى يُحكِم لايبنتز عمله. فكتب لايبنتز ليجيب عن النقاط التي انتقده بايل بسببها، ثم جلس ينتظر الرد بفارغ الصبر، وكان بايل سعيداً بأن اعتراضاته قد دفعت لايبنتز إلى تطوير آرائه، وكتب معلقاً: «أنا الآن أعتبر هذه النظرية الجديدة فتحاً مهماً سيكون من شأنه توسيع حدود الفلسفة». هذا تعليق مهم يدل على وعي هؤلاء العظماء بدور الشكوك في تطور المعرفة.

كان بايل هو المؤثر الأعمق في لايبنتز ومعه تبادلَ الأفكار الأكثر حيوية وأهمية عبر الرسائل... مع أن هناك شكاً كبيراً في أنهما قد التقيا فعلاً

إنه لأمر يثير الدهشة حقاً حين ننظر في المناقشات بين لايبنتز والشكوكيين فنجد الحوار الراقي السلمي، بعكس النقاشات الحادة المختلفة بين رجال الدين وفلاسفة القرن السابع عشر، مثل تلك التي جرت بين ديكارت وغاسندي، أو مالبرانش وآرنولد. لقد بذل لايبنتز وأصدقاؤه الشكوكيون قصارى جهدهم ليكونوا لطفاء، بعضهم مع بعض، وليقدموا صورة مشرفة للحوار الحضاري الخالي تماماً من التجريح، حتى في المراسلات الثنائية. يصعب أن نتصور أن مثل هذين؛ السلام والهدوء، ومثل هذا الإعجاب المتبادل والنيات الحسنة، يمكن أن توجد في ذلك العصر، والفضل في ذلك، فيما يظهر، يعود إلى لايبنتز ونفوره من الصدام.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
TT

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة
مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة، أعلنت «جائزة إدوار الخراط للإبداع الأدبي» حصاد دورتها الأولى. فاز بالجائزة الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، والتي تدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل، في أرجاء العاصمة المصرية التي تعاني من تخمة الزحام المستمر.

أقيمت الاحتفالية بمقر «مكتبة الخراط» التذكارية المجاورة للمتحف المصري وميدان التحرير بالقاهرة الثلاثاء الماضي، وشهدت حضوراً كبيراً من الأدباء والشعراء والمثقفين والصحافيين، وقدمها الكاتب الإعلامي خالد منصور.

في البداية تحدث الدكتور إيهاب الخراط عن المكتبة وعن نشاطها في المرحلة المقبلة، وما تطمح إليه من تقديم خدمة ثقافية متميزة حيث تقيم ندوة شهرية، وستناقش في الفترة المقبلة المجموعات القصصية الخمس التي وصلت للقائمة القصيرة.

ملصق الاحتفالية

واستعرضت الدكتورة مي التلمساني، رئيسة مجلس الأمناء، عمل المجلس ودوره في إرساء دعائم قوية للجائزة باختيار التيمة الأدبية التي تنطوي تحت مظلتها، وتمثل ملامحها الخاصة التي تميزها عن باقي خريطة الجوائز الأدبية، وفي الوقت نفسه تشكل ترجمة حقيقية لدعوة إدوار الخراط الدائمة نحو كتابة مغايرة ومغامرة، تنهل من نبع الحساسية الجديدة، أو كما سمّاها في مقولته الرائدة: «الكتابة عبر النوعية». وتم اختيار لجنة التحكيم لهذه الدورة من: الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة (رئيساً)، وعضوية: الكاتب كمال الرياحي (من تونس)، والكاتبين الروائيين ميرال الطحاوي، وياسر عبد اللطيف.

إدوار الخراط

وثمّن الدكتور خيري دومة عمل مجلس الأمناء، وقال إنه أحسن صنعاً بفتح أبواب الأدب جميعاً أمام المتقدمين، لافتاً إلى أن «اللجنة تلقت نحو 50 عملاً، واخترنا منها خمسة أعمال تميزت بأن لها صوتاً خاصاً، وتشكل عبر مقومات السرد المتنوعة في قصصها متواليات بينها رابط فني».

وبالإضافة إلى المجموعة القصصية الفائزة، ضمت القائمة القصيرة الأعمال الأدبية: «خدعة هيمنجواي» لأحمد مجدي همام (قصص، 2024)، ورواية «حبة بازلاء تنبت في كفي» (2024) لدعاء إبراهيم، والمجموعة القصصية الصادرة في 2023 «الليلة الأولى من دونك» لأريج جمال، و«ثقوب» (قصص، 2024) لهويدا أبو سمك.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي والفنان أيمن الخراط... كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية

وفي تقليد جديد يرسخ للجائزة ويضفي جواً من الحميمية والمصداقية على عملها، أقيمت بالاحتفالية أمسية قصصية رائعة، حيث قرأ كتّاب القائمة الخمسة نماذج من أعمالهم التي وصلت للقائمة القصيرة، وتجاوب معها الجمهور بحماس بالغ ومحبة خالصة.

يرعى الجائزة أسرة الكاتب الراحل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي، والفنان أيمن الخراط، كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تقديراً لدور إدوار الخراط في نشأته وأنشطته. وتبلغ قيمة الجائزة المالية (50) ألف جنيه مصري تُعطَى للفائز بها، إضافة لشهادات تقدير للأعمال التي وصلت للقائمة القصيرة. وتُمنح لعمل أدبي منشور تتوافر فيه شروط الابتكار الخلاق على مستوى الشكل والمضمون، ويسعى لتجاوز محددات النوع الأدبي، وينفتح على تيارات الكتابة العابرة للنوع. وقررت لجنة أمناء الجائزة أن تُمنح في الدورة الأولى لكاتب أو كاتبة من مصر، تليها في العام المقبل دورة عربية، وهكذا بالتناوب.