فلسطين بين الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي جان جينيه

عُرفا بدفاعهما المستميت عنها كما لو أنها قضيتهما الشخصيّة

خوان غويتيسولو
خوان غويتيسولو
TT

فلسطين بين الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي جان جينيه

خوان غويتيسولو
خوان غويتيسولو

كاتبان ارتبطا بعلاقة حميمية وروحية بالعالم العربي، وبالمغرب تحديداً: الأول هو الفرنسي جان جينيه الذي أوصى بدفنه في مدينة العرائش بالشمال المغربي (توفي في الخامس عشر من أبريل/ نيسان1986)، والثاني هو الإسباني خوان غويتيسولو الذي أوصى هو أيضاً بدفنه في مدينة مراكش، عاصمة الجنوب المغربي التي كان يُقيم فيها منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي (تُوفي في الرابع من شهر يونيو/ حزيران 2017). وقد اشتهر هذا الكاتبان اللذان لا يزالان يحظيان بشهرة عالمية واسعة بتعاطفهما مع القضية الفلسطينية، وبدفاعهما المستميت عنها كما لو أنها قضيتهما الشخصيّة. وقد بدأت علاقة جان جينيه بالفلسطينيين انطلاقاً من أواخر الستينات من القرن الماضين، تحديداً بعد هزيمة حرب 67. ولم يكن صاحب «مذكرات لص» يكتفي بالتصريحات المؤيدة للقضية الفلسطينية، بل ظل يتردد على مخيمات اللاجئين ليعيش آلامهم وأوجاعهم عن قرب، وليقاسمهم الرغيف المر. ومن وحي ذلك كتب العديد من التحقيقات المؤثرة. دار «غاليمار» المرموقة طبعت روايته «الأسير العاشق» التي روى فيها فصولاً من حياته بين الفلسطينيين. ولم يختلف خوان غويتيسولو عن صديقه جان جينيه في تعاطفه مع الفلسطينيين. وفي ربيع عام 2002، كان ضمن وفد «البرلمان العالمي للكتاب» في الزيارة الشهيرة التي أداها هذا الوفد الذي كان يضم كلاً من البرتغالي جوزيه ساراماغو، والنيجيري فيل سوينكا وآخرين، إلى مدينة رام الله. وبعد وقوف الوفد على قبر الشاعر محمود درويش، كتب خوان غويتيسولو يقول: «الشاعر المحاصر من قبل جيش شارون في رام الله هو أحد كبار الشعراء العرب في القرن الحالي. ويعكس تاريخه الشخصي تاريخ شعبه، القرية التي ولد فيها في الجليل أزيلت من الخارطة في سنة 1948، وحين كان في السادسة من عمره كان يبحث مع أبناء أسرته عن مأوى في لبنان. ثم عاد إلى المناطق المحتلة، حيث التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية، وسرعان ما قرر تكريس حياته للأدب والصحافة. وبعد أن اعتقل لأكثر من مرة على يد السلطات الإسرائيلية بسب نشاطاته الأدبية، غادر البلاد مرة أخرى في سنة 1970، حيث عاش في موسكو والقاهرة وبيروت وتونس وباريس».

جان جينيه

وقد بدأت علاقة الصداقة بين خوان غويتيسولو وجان جينيه في الخمسينات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة، فر غويتيسولو من نظام الجنرال فرانكو، مُختاراً الإقامة في باريس، وهناك التقى بجان جينيه. وهو يقول إنه انجذب إلى صاحب «مذكرات لص» منذ أول لقاء معه. لذلك سوف يظل قريباً منه، وعلى تواصل دائم معه حتى وفاته في ربيع عام 1986 في فندق بسيط في الدائرة الثالثة عشر بباريس. كما يعترف أن جان جينيه حرّره من عقده الموروثة عن تقاليد عائلته الكاثوليكية المحافظة، وأتاح له التعمّق في اختبار نفسه، وتجاربه الخاصة بعيداً عن التيارات الأدبية والفكرية التي كانت تهيمن على المشهد الثقافي الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين.

ومعلوم أن جان جينيه أحب العالم العربي منذ أن كان جندياً في الجيش الفرنسي في دمشق في الثلاثينات من القرن الماضي. وفي سيرته «مذكرات لص»، يروي أن المدينة التي كانت تفتنه أكثر من غيرها في سنوات شبابه عندما كان يعيش التشرد والجوع، هي طنجة. فلما حصل على الشهرة، بدأ يتردد على هذه المدينة ليرتبط بعلاقات مع بسطاء الناس في مختلف مدن المغرب، موصياً في النهاية بأن يدفن في العرائش. وفي السبعينات من القرن الماضي، أقام جان جينيه في مخيمات الفلسطينيين. ومن وحي ذلك كتب رائعته «الأسير العاشق» التي صدرت بعد وفاته، التي كانت وستظل من أفضل وأروع الشهادات الأدبية عن محنة الشعب الفلسطيني. وفي خريف عام 1982، وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت طار جان جينيه إلى لبنان بمساعدة ليلى شهيد التي كانت آنذاك ممثلة لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس، ليكون شاهداً على مجزرة صبرا وشاتيلا، وليدينها، من خلال نص بديع نشر بعد المجزرة المذكورة ببضعة أشهر.

وبسبب «الأسير العاشق»، ونص «صبرا وشاتيلا»، شنت وسائل الإعلام الإسرائيلي، واللوبيات اليهودية في الغرب، هجومات عنيفة على جينيه، متهمة إياه بـ«معاداة السامية». وفي كتاب بعنوان «إقامة قصيرة في القدس»، صدر في نهايات عام 2003، هاجم الفرنسي إيريك مارتي، جان جينيه، مُتهما إياه بـ«مساندة الإرهاب والإرهابيين»، ومعاداة «ديمقراطية إسرائيل»، الدولة «الأفضل والأكثر حرية» بالنسبة له في منطقة الشرق الأوسط. وقد بادر الراحل خوان غويتيسولو بالرد على إيريك مارتي بنص حمل عنوان: «جان جينيه والفلسطينيون». وفي هذا النص، كتب يقول: «أحدث لي كتاب (إقامة قصيرة في القدس)، نفس ما كان قد أحدثه لي المجلد الضخم لجان بول سارتر الذي حمل عنوان: (القديس جينيه، ممثلاً وشهيداً). فالكتابان سقطا من يدي قبل أن أكمل الثلاثين صفحة الأولى. وإصرار الكاتبين على (عقلنة) أعمال صاحب (مذكرات لص)، وتقليصها إلى سلسلة من الخلاصات المعدة سلفاً، وربطها بفلسفة هايدغر، وهيغل، وهوسرل، وكلّ هذا يبدو لي عملاً بلا جدوى، ولا نفع من ورائه. فكما لو أننا نسعى لالتقاط مياه البحر بواسطة الشباك. إن جوهر أعمال جان جينيه كما يعبّر عنه هو نفسه، يتملّصُ من القراءة الضيّقة والمُحْبطَة. وفي حالة إيريك مارتي هي قراءة مُشْبَعَة بالغضب المقدس الذي فجّره حسب ما أعتقد ردّ فعل الصحافة الفرنسية على (جولة) شارون في فناء المسجد الأقصى. تلك الجولة التي فجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (...) وقد استخرج إيريك مارتي من العالم الشعري لجان جينيه المُعَقد والمُتَضمن خليطاً غريباً، بعض الخلاصات والقاطعة: جان جينيه معاد للسامية، ويكره دولة إسرائيل، ويحلم بتدميرها! إلاّ أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا بمثل هذا الوضوح. ففي مقالتي التي خصصتها لـ(الأسير العاشق)، والتي حملت عنوان: (جان جينيه والفلسطينيون: اللبس السياسي والتجذر الشعري)، كنت قد لخّصتُ المشاعر التي خلّفتْها في نفسي قراءتي لهذا الكتاب، والتي كانت، ويجدر بي التذكير بذلك، قراءة متحررة، من أيّ وازع سياسي أو أخلاقي أو فلسفي. إن هذا العمل الذي تركه لنا جينيه يحدثنا عن فشل الثورة الفلسطينية. فالجاذبيّة التي كان يشعر بها تجاه الفدائيين الفلسطينيين، الذين سوف يتمّ سحقهم في ما بعد، ليس من قبل إسرائيل، وإنما من قبل جيوش عربية، كانت بداية لطريق مزروع بالأشواك وبالمسالك المسدودة وبالقفزات إلى الخلف التي تفقد القارئ اتجاهه تماماً مثلما هو الحال في المتاهة الميثولوجية لجزيرة كريت، وتجعله يغضّ الطرف عن ما تبقى حقاً من الكتاب: تصفية الحساب مع حياته ذاتها (منذ أن كان طفلاً مُهْملاً ويتيماً وحتى رفضه لوطنه فرنسا)، واكتشافه لحرارة الأمومة من خلال العلاقة بين الفدائي الفلسطيني حمزة ووالدته». ويواصل خوان غويتوسولو مقاله قائلاً إن «(الأسير العاشق) ليس كتاباً يتحدث فقط عن الثورة الفلسطينية قبل الانتفاضتين، واتفاقيات أوسلو، وإنما هو كتاب يولي اهتماماً كبيراً لمسائل ولمواضيع أخرى. إنه قاموس للمعرفة فيه نحن نعثر على سمات أساسية للتاريخ البشري: تفكير صادم، ودائماً غريب حول الكتابة والذاكرة والمجتمع والسلطة والمغامرة والأسفار والتمرد والإيروسية والموت. وهو تفكير الشخصيات التي تظهر في العمل، وأيضاً في تفكير مؤلفه أثناء وضعه للمسات الأخيرة له».

في السبعينات من القرن الماضي أقام جان جينيه في مخيمات الفلسطينيين. ومن وحي ذلك كتب رائعته «الأسير العاشق»

ومناقشاً أفكار إيريك مارتي بشأن معاداة جان جينيه للسامية، كتب خوان غويتيسولو يقول: «لنعد للنواة الأساسية لأطروحة مارتي، أي إلى المسألة التالية: هل كان جان جينيه معادياً للسامية كما أكد على ذلك سارتر؟ وأنا أقول إنني سمعته يشتم بحدة، أو أحياناً بنوع من المداعبة، البورجوازيين البيض، والولايات المتحدة الأميركية، والشوفينية الفرنسية، وإسرائيل. لكنني لم أسمعه يشتم اليهود البتة». وقد ختم خوان غويتيسولو مقاله قائلاً: «خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، دافع جان جينيه عن مشروع دولة فلسطينية ملائكية. وهي نفس الدولة التي دعا لها ياسر عرفات، فيها يتعايش المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة (وهذا يمكن أن يفترض ذوبان إسرائيل في محيطها العربي، ثم اختفاؤها كدولة). وقد كنّا من ضمن القلائل الذين آمنوا بقوة بهذا المشروع قبل أن ندرك أنه مشروع مستحيل التحقق. فالضغوطات التي يفرضها التاريخ والعقل ترسم في واقع الأمر حدود حقل الحلم، والسياسة لم تتوقف منذ أمد بعيد عن السباحة بينه وبين صلابة الواقع. إن السلام الذي سيقام في الشرق الأوسط لا بد أن يقوم على احترام الشرعية الدولية، وعلى اتفاق عادل ودائم بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المُرْتَقَبَة. وقد عاش جان جينيه، ومات في زمن آخر. وكانت رؤيته الثورية المعقدة والمتناقضة تنتمي إلى مناخ ابتكاره الشعري. لهذا فإن قراءة أولية، وعلى ضوء مذهب فلسفي معيّن، تبدو عملاً خالياً من أي جدوى، ومن أي منفعة. وفي النهاية، هو عمل خارج عن الموضوع، ومحكوم عليه بالفشل الذريع».


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».