مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

حمدي الجزّار يقتفي أثرها في رواية «العروس»

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان
TT

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

تنطلق رواية «العروس» للروائي المصري حمدي الجزار من مكان افتراضي يحمل اسمها، هو عبارة عن مطعم وملهى ليلي فاخر بوسط العاصمة القاهرة، يرتاده الأثرياء وصفوة المجتمع، وفي ليلة رأس السنة، حيث يحتفل المطعم بمرور 71 عاماً على إنشائه.

تحت رذاذ تلك الليلة تتعدد صور وطبيعة الصراع في الرواية، وتنعكس على زمنيها العام والخاص، ما بين مرايا الماضي والحاضر، من خلال عين الراوي (الكاتب) السارد العليم والذي يجيد لعبة الوصل والقطع ما بين الشخوص والمكان. ففي ظلال هذه اللعبة يبدو الصراع طبقياً، يتمثل سيرة شرائح فقيرة ومهمشة من المجتمع وخطواتها المثقلة بمفارقات الحياة وعبث المصادفات، كما يبدو صراع بشر مع المكان الوعاء الحاضن لهم، يتأقلمون معه أحياناً، ويتمردون عليه إلى حد الفرار أحياناً أخرى؛ بحثاً عن وعاء أكثر اتساعاً وبريقاً، لكنهم مع ذلك يهرعون إليه كملاذ من تناقضات وتوحش فضائهم البراق. ومن ثم، تتعدد صور المكان في الرواية، فثمة مكان عابر طارد يمثله مطعم «العروس» تبدو الحياة بداخله مثقلة بخفتها ولهوها، ويبدو المطعم وكأنه قناع مراوغ لها، ووكرٌ للدسائس والمؤامرات وصراعات القوة والنفوذ، خارج جدرانه تصفو الحياة لنفسها، تغتسل من وحل الشهوات وأوهام الأماني اللزجة. في المقابل ثمة مكان أصيل مقيم، يشكل بؤرة البراءة والحنين الأول، يمثله «حي السيدة زينب» الذي ينتمي إليه أغلب الشخوص، ثم «نزلة السمان» أسفل منطقة الأهرامات بالجيزة.

وسط كل هذا، يبدو جوهر الصراع وكأنه صراع الكاتب نفسه مع عالمه الروائي، حيث يقتفي أثر شخوصه ومصائرهم، ويقطرها قطرة تلو أخرى في وعاء المكان. ما يكشف عن وعي ثاقب وعين حكاءة تتمتع ببصيرة سردية لها مذاقها الخاص، تعرف كيف تغرس الشخصية كنبتة في تربة المكان الطبيعي، ابن طفولتها وشهوتها البكر، وتتابعها بحنو وهي تنمو وتورق في ظلاله الدافئة، ثم تعيد رسمها من جديد في قماشة سردية كلاسيكية تتقلب فيها الشخوص ما بين صراعات الذات مع هواجسها وأحلامها وواقع المكان نفسه... فعلى سبيل المثال، تطالعنا شخصية إبراهيم مطر «النحات» المرموق، الذي يتردد على المطعم كعابر يقضي وقتاً برفقة حبيبته، لكنه يظل مشدوداً لمسقط رأسه، وتخبرنا الرواية بأنه وُلد في إحدى قرى «نزلة السمان» بالهرم، هناك أسس حياته في بيئة صالحة لعالمة الفني، عاش في كنفها طفولته، وتفتحت موهبته في فضاء الأهرامات إحدى عجائب الدنيا السبع وتمثال أبو الهول الشامخ، وما يحتويه المكان من آثار فرعونية، لا تزال محط أنظار العالم. وكذلك حبيبته الدكتورة نانيس والتي تتمتع بميزة أنها أحد الشخوص الخمسة الذين يملكون أسهماً في المطعم الفاخر. تعيش نانيس في حي جاردن سيتي الرومانسي الهادئ والذي يناسب مزاجها كأستاذة للموسيقى ويجدد شغفها بها وبألحان والدها الموسيقار الراحل التي تترد نغماتها الحانية الراقصة في أرجاء «العروس». أيضاً خالد عبد الباري «المتروديتيل»، أحد أبطال الرواية البارزين، والذي عرف «العروس» وهو طفل بصحبة والده «البارمان». يتمتع خالد بشخصية سمحة تمتزج فيها بداهة الفطرة وألفة الروح وبساطتها والتي تبدو انعكاساً لطبيعة حي السيدة زينب مسقط رأسه ومرتع صباه، بطيبة ناسه وروائحه الشعبية العريقة. تعكس شخصية خالد المكافح، الذي يعمل صباحاً في مركز الحضارة، ومساءً في المطعم، الضمير المخفي أو الغائب في تلافيف المكان وبريقه الزاعق. علاوة على أنه عاشق محب مخلص لزوجته سامية بشندي، رفيقة عمره وأم طفليه، رغم غيرتها الشديدة عليه والتي تكاد تصبح إدماناً ومرضاً.

هذه المقاربة الأولى تضعنا أمام الركيزة الأساس في هذه الرواية الصادرة حديثاً عن دار «ديوان»، بفصولها الاثنين والعشرين؛ وهي ما يمكن تسميته «المراوحة في المكان» فنحن أمام رواية شخوص تراوح في المكان، بعضها في القلب منه، وبعض الآخر في الهامش يتعلق بأهدابه من الخارج، متستراً بالتأقلم والخنوع، لكن عينه دائما مصوَّبةٌ للداخل، إلى حد التلصص. مثل كابتن «هراوي» رجل الأمن وموظف الاستقبال بالمطعم، فهو مجرد أداة لمراقبة الوافدين إليه، يتفحص ملامحهم وخطواتهم من خلال شاشة تليفزيونية كبيرة، يتسمر أمامها طيلة الوقت، ودائماً يتباهى بماضية كبطل سابق في كمال الأجسام، وأحد فتوات حي السيدة. أيضاً «شاهين» الشاب الأقصري الذي مسّته خرافة «عرق الصِّبا» التي روتها جدته، وأن من يحوز هذا العرق يتمتع بقوة خارقة، فينزل إلى قاع نهر النيل في فترة الجفاف، ويشرب من المياه المتناثرة في شقوق الطمي والطين ويرى النهر يشع ويتناثر في كفه كحبات اللؤلؤ. يتزوج شاهين، لكن لا ينجب، وبقوة اليأس يطلّق امرأته، يحررها منه، حتى تنعم بالأمومة من زوج آخر، ويغادر إلى القاهرة، وينتهي به الحال إلى مجرد بواب للعمارة الكائن بها المطعم.

تحت سقف «العروس» تتراءى شخصيات عدة، تتقلب في مرايا مصقولة بنزق الشهوة والجشع، وتتنوع أدوارها ما بين التواطؤ والغدر والخيانة، وبين الحرص على لقمة العيش بشرف وأمانة، شخوص شرهة ومآلات مصائر حزينة، تتسم خطواتها بالتوتر واللهاث عبر رقعة زمنية تتسع وتضيق في ثوب ليلة واحدة، وعلى مسرح مصادفة رخوة يتحول الخائن في ظلالها بطلاً وسيداً للمكان، بمنطق التحايل الذي يجيده ويروضه بمهارة لص، متخذاً منه قناعاً، ووسيلة للنفوذ والسيطرة على المكان والبطش بكل من يقف في طريقه، بلا مبالاة، أو مراعاة لعشرة أو ضمير... هكذا يطيح عمر عبد الظاهر الابن العاق لبائع الكيروسين المتجول بحي السيدة زينب كل من يقف في طريقه للاستحواذ على «العروس» والتحكم في كل صغيرة وكبيرة تخصه، يخون ويزوّر صكوك الأمانة التي حملها له وخصه بها الحاج مرزوق عشم الله، الرجل الورع التقي، أحد مشاهير حي السيدة زينب، الذي يحسن لفقرائها ومساكينها، ويدعوهم لوليمة عامرة كل أسبوع بقصره المنيف بحي المقطم، كما أنه الوحيد الباقي على قيد الحياة من ملاك «العروس»، أراد أن يزيح عن كاهله متاع الدنيا ويتفرغ للصلاة والعبادة. فيستدعي عمر عبد الظاهر الذي صنعه الحاج مرزوق وجعله «المدير المالي للعروس» وانتشله من وظيفته الفقيرة ومكتبه البائس للمحاسبة القانونية، ثم يمنحه وثيقة بموجبها يترك له مكانه، ليصبح رئيساً لمجلس إدارة العروس، ويضع رقم «صفر» أمام أسهم عمر فيه والتي اشتراها له بماله الخاص، ويذكّره بأن «من يحكم لا يملك».

يرفد هذه المراوحة للمكان «تقنية الوصف» إحدى ركائز معمارها الفني المجدول بنسيج معرفي وفني فائق. فنحن أمام كاتب وصّاف بامتياز، يعرف أسرار وجماليات هذه التقنية، وكيف تمنح السرد والحكي مساراً خاصاً، يجعله حياً ومفتوحاً على قوسي البدايات والنهايات. ثمة وصف لكل شيء، يستبطن العواطف والمشاعر والانفعالات الداخلية للشخوص، ويحلّق في فضائها، ويرصد أثر وانعكاس المكان عليها... وصف للثياب والشموم والروائح والعطور وأنواع الطعام، والطاولات والمفارش والكؤوس، ومقابض الأبواب والمناضد والحوائط، ورائحة الطقس... يتحرك الوصف كفعل معايشة، وتوثيق لنثريات المكان، ويلعب دوراً مهماً في الإيهام بالواقع من داخله وفي الخارج أيضاً، وتخيله بصوره متنوعة ومنسجمة سردياً مع تماثلات الزمن وطبقات الحكي، وبلغة قادرة على التشخيص والإيحاء، والتنقل بتلقائية من حيز الواقع المؤطر لبراح التخييل المفتوح على أفق أوسع. فالكاتب الراوي يتقمص الشخوص ويسبر أغوارها، وبذكاء أدبي مشرّب بمسحة شاعرية ينثر الكلام فوق شفاهها، وكأنه يتحاور معها أولاً قبل أن يقذف بها إلى القارئ.

يقول في صفحة (164) رابطاً ما بين النحت وأوتار الفرقة الموسيقية التي أنهت دورها وتتأهب لمغادرة مسرح العروس: «أغلــق الموســيقيون حقائبهم على كنوزهم الثمينة، وأخفوها عن العيون، كأنهــم يخفون عرائس ساحرة يجب سترها وراء حجب مصمتة، بعد أن فتنت الجميع. حملوا حقائبهم على صدورهم، وعلقوها على أكتافهم وظهورهم، وانحنوا مبتسمين تحية للجميع، وغادروا المسرح تاركين الخشبة في ضوء خافت، وكان النحات يحدق في المساحة الفارغة التي خلفوها وراءهم».

لكن الاستغراق في الوصف، لم ينج أحياناً من الحشو، وأصبح مجرد وظيفة تزينية لمفردات المكان.

يبقى من الأشياء المهمة في هذه الرواية أنها تنتصر للمرأة، وتبرز قوتها وصلابتها حتى في لحظات الضعف الإنساني النبيل، كمصدر قوة وطاقة للحياة، مثال «نانيس» القبطية التي تحب مطر «النحات» المسلم، و«سماهر» الراقصة التي تدافع عن كرامتها وشرف المهنة كراقصة فنانة تمتهن فناً حراً، تراه معجزة الجسد الإنساني... وغيرها من الشخوص التي ينحتها الكاتب بإزميل حكّاء ذي بصيرة خاصة، يعرف كيف تصبح الرواية أنشودة للجمال والحرية.


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

زهرة دوغان - مدينة نصيبين
زهرة دوغان - مدينة نصيبين
TT

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

زهرة دوغان - مدينة نصيبين
زهرة دوغان - مدينة نصيبين

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة. كما يمكن أن يُستخدم الفن قوةً ناعمةً للتعبير عن القضايا القانونية أو المجتمعية، حين يسلّط الضوء على القضية من دون إثارة الجدل أو تحميله شكل المعارضة المجتمعية.

ومع ذلك قد يكون هذا التعبير الفني «خشناً» أحياناً، أو صادماً ومفاجئاً كحالة الفنانة الكردية زهرة دوغان، التي حُكم عليها بالسجن بتهمة الدعاية الإرهابية، حين نشرت لوحة تصوِّر مدينة نصيبين في تركيا بعد اشتباكات بين الجيش التركي والأكراد، مع رسم الأعلام التركية على المباني المدمَّرة، في إشارة واتهام واضحين للسلطات التركية بالتعدي والهجوم على المدنيين.

وفي حالات يمكن أن يكون الفن بحد ذاته قضية قانونية، بسبب عدم وجود تعريفات دقيقة للفنون، خصوصاً الفن المعاصر. وقد ظهرت هذه الإشكالية في بداية القرن العشرين، حين تغير الفن ولم يعد محاكاة للواقع. فالفنان على سبيل المثال لن يهمه رسم الطائر بشكل واقعي لأن الصور الفوتوغرافية تقوم بذلك، فبحث الفنان عن شكل آخر للتعبير، كالتعبير عن حالة تحليق الطير مثلاً؛ وهو ما قام به الفنان الروماني برانكوزي في منحوتته «طائر يحلق في السماء» التي توحي بالانطلاق والحرية. هذا العمل كان مثار قضية عام 1926م في الولايات المتحدة –التي تستثنى الأعمال الفنية بما فيها المنحوتات من ضريبة الاستيراد- فعند وصول المنحوتة إلى أميركا، رفضت السلطات اعتبارها عملاً فنياً وفرضت ضريبة استيراد، لأنها لا تمثل الطير، حينها رفع الفنان قضية للدفاع عن عمله وقدم شهادات من عدة خبراء في الفنون. وكانت نهاية الحكم هو أن تعريف الفن وقتها لم يعد صالحاً ومناسباً لاتجاهات الفن الحديثة التي ابتعدت عن التمثيل والمحاكاة واتجهت نحو التجريد.

قضية شيبرد فيري... العمل الفني والصورة الأصل

قانون الفن

وقد ظهر تخصص «قانون الفن» لدى بعض شركات المحاماة العالمية، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما استولى النازيون على كثير من الأعمال الفنية في أوروبا، وبعدما طالبت الأوطان الأصلية لهذه الأعمال، باستعادتها وحمايتها والتعويض عما تعرضت له من حالات تزوير وتهريب.

يتضمن هذا التخصص حالات التزوير والاحتيال، والضرائب، وحفظ وحماية الحقوق، وعمليات البيع والشراء وغيرها من الجوانب. خصوصاً مع الأعمال ذات القيمة التاريخية، حيث تظهر أهمية الوثائق التي تدل على أصل العمل، كما أن عدم وجود وثائق تثبت صحة عمليات البيع والشراء وانتقال الملكية المرتبطة به، قد يدل على أن العمل الفني -يتيم- مسروق، مما يؤثر بالتالي في قيمته المادية.

ولعل حقوق الملكية الفكرية من أكثر المواضيع المرتبطة بالقانون، فالعمل الفني يمكن أن يتم استنساخه واستخدامه تجارياً، أو في المنتجات النفعية المختلفة، كالأثاث والأزياء والمطبوعات.

وفي واحدة من القضايا العالمية الشهيرة المرتبطة بالملكية الفكرية، استُخدمت صورة للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وجرى تحويلها إلى بوستر، استُخدم في الحملات الانتخابية للرئيس السابق. وكان أصل هذا العمل هو صورة فوتوغرافية التقطها المصور ماني غارسيا، لصالح وكالة «أسوشييتد برس»، وبعد أن حقق البوستر الفني انتشاراً كبيراً لم تنله الصورة الأصل، رفعت الوكالة الإعلامية التي تملك أصل الصورة قضية على الفنان شيبرد فيري الذي استخدم الصورة في تصميمه للبوستر الشهير للمطالبة بتعويض عن استخدامه الصورة الفوتوغرافية، وقد جرى التوصل إلى تسوية خاصة بين الطرفين تضمَّن جزء منها مقاسمة الأرباح التي حصل عليها العمل الفني.

• الفن وغسل الأموال

يوجد كثير من الحالات المشابهة لهذه القضية في الفن نتيجة عدم وجود حدود واضحة للاقتباس والاستلهام، وتشابه الأفكار ومصادر الإلهام التي تجعل من بعض الأساليب والمواضيع الفنية متشابهة.

ومن الجوانب القانونية كذلك، استخدام الفن في غسل الأموال، لإخفاء اكتسابها بطريقة غير مشروعة، بسبب عدم الشفافية والغموض في سوق الفن. ويلاحَظ هذا الغموض في المزادات العالمية، حين تتم الإشارة إلى العمل الفني على أنه ضمن «مجموعة خاصة»، أو حين يباع من خلال ممثلين لمُلاك مجهولي الهوية.

ومن الميزات الاستثمارية للفن، ارتفاع قيمته مع مرور الزمن، وفي ذات الحين إعفاؤه من الضريبة مما يجعله وسيلة لعدد من الأثرياء حول العالم لتجنب الضرائب. ونظراً لاختلاف نظام الضرائب في البلدان، تختلف طرق الاستفادة من هذه الميزة.

ففي بعض الدول يُمنح خفض ضريبي للمتبرعين في المجالات الثقافية والتعليمية، لتشجيع الدعم والتبرع لهذه المجالات، بما يساعد على تقديم الدعم المالي للمتاحف، وفي ذات الوقت خدمة للمجتمع الذي يستفيد من المتاحف، التي تعتمد بشكل كبير على التبرعات الخيرية. كما يمكن الحصول على إعفاء ضريبي، عبر اقتناء الأعمال الفنية ذات القيمة المتزايدة، وحفظها في الموانئ الحرة في مناطق معفاة من الضرائب –كموانئ سويسرا- حيث تتميز هذه الموانئ بمستودعات خاصة تحمي الثروات والأصول الفنية الثمينة.

تشريعات ضرورية

وقد تكون القضايا المتعلقة بالفن من القضايا التي يندر تناولها محلياً في المحاكم السعودية، نظراً لحداثة هذا المجال وعدم انتشاره وصغر حجم الدائرة الاجتماعية المرتبطة به.

فمن ناحية علاقة الفن بالإعفاء الضريبي، فالفن لا يدخل ضمن الإعفاءات المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية لنظام ضريبة القيمة المضافة في المملكة.

كما أن الهيئة السعودية للملكية الفكرية توضح إمكانية تسجيل الفنان عمله بصفته المؤلف الذي قام بإنشائه، وخدمة التسجيل هي خدمة اختيارية، والحماية يكتسبها العمل الفني دون الحاجة لأي إجراء شكلي وفقاً لـ«اتفاقية برن» لحماية المصنفات الأدبية والفنية التي انضمت إليها المملكة عام 2003، حيث نصَّت الاتفاقية على مبدأ الحماية التلقائية.

يمكن أن يكون الفن في حد ذاته قضية قانونية بسبب عدم وجود تعريفات دقيقة للفنون خصوصاً الفن المعاصر

ومع ذلك تظهر الحاجة إلى توضيح بعض الأنظمة الخاصة بالوساطة الفنية والبيع والشراء وانتقال ملكية الأعمال وغيرها. فعلى سبيل المثال، هل يحق للفنان معرفة المقتني لعمله، وما دفع له؟ فالمفترض أن تحصل صالة العرض على نسبة من عملية البيع، إلا أن بعض الصالات تقتني مجموعة من الأعمال، وتعيد بيعها بمبالغ مضاعفة لجهة ما أو مقتنٍ معروف، في أشهُر بسيطة. وفي هذه الحالة يتم تضخيم أسعار الأعمال الفنية، كما أن الفنان لا يعرف القيمة الحقيقية لبيع أعماله. مع أن نظام حماية حقوق المؤلف، يوضح أن للفنان التشكيلي حق التتبع والحصول على نسبة من كل عملية بيع لأعماله الفنية، فكما يشير النظام نصاً، «يتمتع مؤلفو مصنفات الفن التشكيلي ومؤلفو المخطوطات الموسيقية الأصلية -ولو تنازلوا عن ملكية النسخ الأصلية لمصنفاتهم- بالحق في المشاركة بنسبة مئوية عن كل عملية بيع لهذه المصنفات».

كما قدمت وزارة الثقافة في منصتها للتراخيص الثقافية (أبدع) بعض التراخيص المرتبطة بالفن والتي تسهم في تنظيم وتوثيق الأنشطة الفنية. ومع أن الهدف هو الشراكة مع القطاع الخاص ودعم وتمكين النشاط الثقافي في المملكة، إلا أن منح التراخيص وحده لا يبدو كافياً. فالفن بحاجة إلى مزيد من الدعم أسوةً بالمجالات الأخرى التي تقوم الجهات المرتبطة بها تنظيمياً بدعمها بالرعاية والتمويل والتطوير والتسويق، كما في الصناعة والسياحة وغيرها من القطاعات.

إن الفن التشكيلي في السعودية بحاجة إلى توضيح كثيرٍ من الجوانب القانونية المرتبطة به، بما يسهم في دعم اقتصاد الفن والاستثمار فيه. وحفظ حق كلٍّ من الفنان والمقتني وصالة العرض أو الوسيط، خصوصاً مع دعم «رؤية السعودية 2030» للفن وما يحدث حالياً من انتعاش في الحركة التشكيلية السعودية.

* كاتبة وناقدة سعودية