أربعة تماثيل حيوانية برونزية من قرية الفاو

تتبع الأسلوب اليوناني الكلاسيكي الصِّرف

أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض
أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض
TT

أربعة تماثيل حيوانية برونزية من قرية الفاو

أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض
أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض

* يتجلّى هذا الأسلوب اليوناني الكلاسيكي المتقن في قطعة برونزية أخرى من الحجم الصغير عُثر عليها في أول معبد اكتُشف في حدود المملكة من طريق التنقيب وهو المعبد الخاص بمعبود يُدعى الأحور

من قرية الفاو الأثرية، عاصمة مملكة كندة الأولى في نجد، خرجت مجموعة كبيرة من التماثيل تعكس التعددية الحضارية التي تميّز هذا الموقع. تحوي هذه المجموعة قطعاً حيوانية مصنوعة من البرونز، منها قطعة مزدوجة تمثّل أسدين متماثلين يحمل كل منهما بين أنيابه طوقاً دائرياً، وقطعة تمثّل دلفيناً يموج في حركة انسيابية متقنة، وقطعة منمنمة تجسّد وعلاً يحدّق في اتجاه الناظر إليه، وقطعة مشابهة تجسّد حيواناً غريب الشكل يقف ثابتاً فوق قاعدة مستطيلة.

تتميز القطعة المزدوجة بأسلوبها اليوناني الكلاسيكي الصرف، وهي على شكل أنبوبين يحمل طرف كل منهما وجهاً دائرياً يبلغ طول قطره نحو 9 سنتيمترات. الوجهان متماثلان، ويمثلان أسداً في وضعية المواجهة وسط لبدة شعر كثيفة تشكّل إطاراً له. الملامح مجسّمة بشكل دقيق، وتحاكي المثال الحي دون أي تحوير: الرأس عريض، العينان صغيرتان، الأنف بارز، الفم مفتوح، وبين الفك الأعلى والفك الأسفل يتدلّى طوق دائري على شكل سوار يبلغ طول قطره 4.5 سنتيمترات. بؤبؤ كل عين مُحدّد بثقب غائر، وكذلك تجويفا أعلى الأنف، وتظهر الشعيرات الطويلة في أسفلهما على شكل خطوط ناتئة بشكل طفيف. فقد أحد الوجهين أسنان فكّه الأعلى، وحافظ على نابَيّ فكّه الأسفل. في المقابل، حافظ الوجه الآخر على أسنان فكّه الأعلى المرصوفة بشكل متناسق، وفقد نابَيّ فكّه الأسفل، وبقي موقع هذين النابين ظاهراً على شكل ثقبين غائرين كبيرين.

في كتابه الخاص بقرية الفاو، افترض الباحث السعودي عبد الرحمن الأنصاري أن هذين الأنبوبين «كانا مركّبين على ذراع كرسي لشخصية مهمة»، وأضاف: «ولعلَّ هذين الرأسين كانا مسروقين من إحدى المقابر أو أحد بيوت المدينة السكنية، لأننا وجدناها في إحدى الدوائر الزراعية المنتشرة غربيّ المدينة، وعلى عمق 10 سنتيمترات». في الواقع، تُمثّل هذه القطعة المزدوجة مطرقة باب، وتتبع تقليداً عُرف في شرق اليونان منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ثم انتشر انتشاراً واسعاً في العالم الروماني المتعدّد الأقاليم، وبقي حياً إلى يومنا هذا. الأرجح أن هذه المطرقة وصلت إلى الفاو من الخارج، إذ لا نجد ما يماثلها في هذا الموقع أو في سائر بقاع الجزيرة العربية.

يتجلّى هذا الأسلوب اليوناني الكلاسيكي المتقَن في قطعة برونزية أخرى من الحجم الصغير عُثر عليها في أول معبد اكتُشف في حدود المملكة من طريق التنقيب، وهو المعبد الخاص بمعبود يُدعى الأحور. تمثّل هذه القطعة ما يُعرف بالعربية باسم الدُّخَس، والدّخس في تعريف «تاج العروس»، «دابَّة في البحر تنجِي الغريقَ، تُمكِّنه من ظَهرها ليستعين على السِّباحة، وتسَمَّى الدُّلْفِينَ». وأصل هذا الاسم يعود إلى كلمة «دلفوس» اليونانية التي تعني الرحم.

يتميّز الدلفين بجسمه الانسيابي، وبأنفه الطويل والنحيف الذي يُشبه المنقار المنحني، ويمتلك ذيلاً يتحرّك إلى أعلى وأسفل في أثناء سباحته. تُجسّد منحوتة الفاو هذه الصورة الواقعية في أدق تفاصيلها، وقد وصلت بشكل شبه كامل، إذ لم تفقد سوى طرف ذيلها. كما هو معروف، احتلّ الدلفين موقعاً بارزاً في العالم اليوناني القديم، إذ جسّد قوّة البحر، وظهرت صورته بشكل جليّ في جدارية تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، تُزيّن قصر مدينة كنوسوس الملكية في شمال جزيرة كريت. تكرّرت هذه الصورة بشكل لامتناهٍ في العالمين اليوناني والروماني، حيث ظهرت بأشكال لا تُحصى في مجمل الميادين الفنية الصغرى والكبرى. وتردّد صدى هذا الظهور في العالم الشرقي الهلنستي بشكل واسع، كما يشهد الكثير من القطع الأثرية.

في كتابه «منطقة الرياض... التاريخ السياسي والحضاري القديم»، ذكر المؤرخ السعودي سليمان الذيب الدلفين، وقال في وصفه: «هو الحيوان الغريب الذي نعتقد أن إنسان وسط شبه الجزيرة العربية لم يتعامل معه بشكل مباشر»، وأشار إلى تمثاله المعدني الذي عُثر عليه «في معبد أحور بالفاو»، وربط بينه وبين نتاج الأنباط الفني، كما فعل من قبله عبد الرحمن الأنصاري. مثل أسَدَي مطرقة الفاو، يبدو هذا الدلفين يونانياً كلاسيكياً، ويخلو من أي حلية شرقية، والأرجح أنه وصل كذلك إلى الفاو من الخارج.

إلى جانب هاتين القطعتين، تحضر قطعتان معدنيتان تمثّل إحداهما وعلاً منتصباً على قوائمه، وتمثّل الأخرى حيواناً في وضعية مماثلة، رأى الأنصاري أنه «غريب الشكل»، ولم يحدّد هويّته. تتبع منحوتة الوعل الأسلوب الكلاسيكي، وتحمل طابعاً شرقياً يظهر في تجسيم القوائم المختزل، كما في تحوير القرنين الكبيرين اللذين يعلوان الرأس. يحضر جسم الحيوان في وضعية جانبية، ويحضر الوجه في وضعية المواجهة، وتبدو ملامحه محدّدة بأسلوب واقعي. يماثل هذا التمثال مجسمات خرجت من جنوب الجزيرة في القرون الميلادية الأولى، وحملت الطابع الهلنستي، وأضافت إليه لمسة محلية خاصة.

يختلف تمثال الحيوان «الغريب الشكل» من حيث الأسلوب، وهو على شكل كتلة جامدة يغلب عليها الطابع المختزل. يتميز هذا الحيوان بقرنيه، وبسنام يعلو كتفيه، ممّا يوحي بأنه ثور من الفصيلة التي تُعرف عالمياً باسم الزابو، وعربياً بالبقر الدرباني، وهي من الماشية المستأنسة التي شاعت صورتها في العالم الشرقي القديم بشكل واسع. يتبع هذا التمثال الصغير نسقاً فنياً قديماً ظلّ حياً في العالم الروماني، كما تشهد عدة تماثيل للزابو تعود إلى القرون الميلادية الأولى، منها على سبيل المثل قطعتان محفوظتان في متحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون، مصدرهما الشرق الأدنى أو آسيا الوسطى.

خرجت هذه التماثيل من قرية الفاو الأثرية التي تقع عند طرف الربع الخالي، وكانت في الماضي تسيطر على طريق التجارة القديمة، حيث لا تستطيع القوافل السير دون المرور بها. كانت هذه القوافل القادمة من أنحاء جنوب جزيرة العرب تحطّ فيها، وتنطلق منها إلى الأفلاج فاليمامة، قبل أن تتجه شرقاً إلى الخليج، وشمالاً إلى وادي الرافدين وبلاد الشام. شكّل هذا المرفأ الصحراوي موقعاً استثنائياً لتواصل الحضارات المتعدّدة، كما تشهد القطع الأثرية الكثيرة التي عُثر عليها بين أطلالها، ومنها هذه القطع المعدنية الأربع.


مقالات ذات صلة

معرض في سويسرا يحتضن آثار غزة: تدميرها المُتعمَّد «جريمة حرب»

يوميات الشرق الإرث مرايا الشعوب (أ.ف.ب)

معرض في سويسرا يحتضن آثار غزة: تدميرها المُتعمَّد «جريمة حرب»

أُحضرت هذه الآثار التي توضح جوانب من الحياة اليومية المدنية والدينية من العصر البرونزي إلى العصر العثماني، إلى جنيف ضمن معرض «غزة على مفترق طرق الحضارات».

«الشرق الأوسط» (جنيف)
يوميات الشرق أرشيفية من قمة العلا للآثار في 2023 (واس)

العلا تجمع علماء الآثار لبحث تراث المجتمعات المتنقلة عبر العصور

على أرض الحضارات تلتئم ندوة العلا للآثار جامعةً تحت سقفها مئات من الخبراء والمختصين في علم الآثار والتراث الثقافي من شتى دول العالم لتبادل خبراتهم العلمية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق وزير الخارجية المصري يتفقد القطع الأثرية بنيويورك قبل إرسالها إلى القاهرة (وزارة الخارجية المصرية)

مصر لاستقبال قطع فرعونية نادرة بعد إحباط بيعها في أميركا

تترقب مصر استقبال قطع آثار فرعونية «نادرة» أحبطت السلطات الأميركية بالتعاون مع نظيرتها في القاهرة محاولات لبيعها أخيراً.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)

الإعلان عن الدورة الخريفية من موسم أصيلة الثقافي الدولي

ملصق الدورة الجديدة
ملصق الدورة الجديدة
TT

الإعلان عن الدورة الخريفية من موسم أصيلة الثقافي الدولي

ملصق الدورة الجديدة
ملصق الدورة الجديدة

تحت رعاية ملك المغرب محمد السادس، تنظم مؤسسة «منتدى أصيلة» الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي الخامس والأربعين، وذلك من الأحد (13) إلى الخميس 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل (قطاع الثقافة)، وجماعة (بلدية) أصيلة.

ويشارك في دورة هذه السنة نحو 300 من رجال السياسة والفكر والأدب والإعلام والفن التشكيلي من مختلف أنحاء العالم.

وضمن فعاليات الموسم الثقافي، تنظم جامعة المعتمد بن عباد المفتوحة، في دورتها الثامنة والثلاثين، عدداً من الندوات تتعلق بمختلف أوجه التطورات التي يعرفها عالم الجنوب.

ويتضمن برنامج الندوات مناقشة قضايا حيوية آنيّة، من قبيل موضوع «أزمة الحدود في أفريقيا... المسارات الشائكة» (13 - 14 أكتوبر)، وموضوع «النخب العربية في المهجر... التحدي القائم والدور الممكن» (17 - 18 أكتوبر)، وموضوع «الحركات الدينية والحقل السياسي... أي مصير؟» (21 - 22 أكتوبر)، وموضوع «قيم العدالة والنظم الديمقراطية» (25 - 26 أكتوبر).

وكذلك ستنظم مؤسسة منتدى أصيلة، بشراكة مع مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد ندوتين: الأولى حول موضوع « الذكاء الاصطناعي... أي حكامة في أفريقيا في عصر الرقمنة» (23 أكتوبر)، والثانية حول موضوع «شمولية الثقافة وانخفاض اللامساواة في توظيف الموارد الثقافية» (28 أكتوبر).

وستحتفي «خيمة الإبداع» في هذه الدورة من موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ45، بالكاتب والروائي والشاعر المغربي، وزير الثقافة سابقاً محمد الأشعري (30 أكتوبر)، حيث سيُدلي أكثر من 20 من الأدباء والجامعيين والأكاديميين المغاربة والعرب بشهاداتهم في حق المحتفى به. وستصدر المؤسسة كتاباً يتضمن شهادات المشاركين.

وسيتم خلال هذا الموسم أيضاً تنظيم حفل توقيع كتاب «شغف وإرادة... رهان في الإعلام والثقافة والسياسة» للكاتب الصحافي والناشر المغربي محمد برادة.

وتبعاً لما جرت العادة عليه، تُنظَّم خلال هذا الموسم أيضاً مشاغل الفنون التشكيلية بمشاركة فنانين من المغرب، والبحرين، والسنغال، وسوريا، وبلجيكا، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

وتستقبل أروقة المعارض في مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية معرضاً جماعياً بمناسبة مرور 45 سنة على احتضان مؤسسة منتدى أصيلة لأوراش فن الحفر والطباعة الفنية، ومعرضاً تكريمياً تحت شعار «مسارات متقاطعة» للفنانَين مليكة أكزناي (المغرب) وأكيمي نوغوشي (اليابان).

بدوره، سيحتضن قصر الثقافة معرضاً جماعياً للإبداعات الحديثة في فن الحفر، ومعرضاً للفنان التشكيلي المغربي عبد القادر المليحي، إلى جانب معرض «الأطفال مواهب الموسم». وتستمر هذه المعارض من 13 يوليو (تموز) إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) 2024.

وخلال الموسم سيجري أيضاً تنظيم مشغل التعبير الأدبي وكتابة الطفل (20 - 27 أكتوبر)، الذي يُعنى بالكتابة في مختلف المجالات، مثل الشعر والقصة والسيناريو وغير ذلك.

كانت مؤسسة منتدى أصيلة قد نظَّمت الدورة الصيفية للموسم الثقافي الدولي الخامس والأربعين، ما بين 5 و27 يوليو الماضي.