أوراق مجهولة من دفاتر شاعر منسي

جمع بين الطب والأدب ولم يهتم بتوثيق تجربته

أوراق مجهولة من دفاتر شاعر منسي
TT

أوراق مجهولة من دفاتر شاعر منسي

أوراق مجهولة من دفاتر شاعر منسي

صدر عن دار «تكوين» بالقاهرة، كتاب «أوراق من دفاتر شاعر» الذي يسلط الضوء على تجربة لم تأخذ حقها من الذيوع لشاعر مصري راحل ينتمي إلى جيل الستينات هو الشاعر الدكتور حسام أبو صير الذي جمع بين الطب والأدب وتوزعت أعماله في «دفاتر» تناثرت هنا وهناك دون توثيقها في كتب منشورة. ويشير الباحث والناقد ناصر العزبي الذي قام بجمع وتحقيق تراث الشاعر مع التعليق على تجربته بدراسة نقدية، إلى أن أبو صير شاعر مرهف الحس، متمكن من أدواته، كما أنه إنسان رقيق المشاعر ذو عاطفة جياشة، عاش حياته تنازعه رومانسية الشعر وواقعية الحياة، وربما لو لم تأخذه مهنة الطب وتفرغ للشعر لكان له أن يحقق مكانة بين شعراء هذه الفترة أو بين رفاقه من كتاب جيله بمحافظة دمياط، حيث إنه آثر أن يتفرغ لرسالة الطب العظمى للتخفيف عن آلام المرضى، وخاصة الفقراء منهم كرسالة إنسانية. ويضم الكتاب نماذج من أشعاره التي تتوزع بين الفصحى والعامية، فضلاً عن مجموعة من الأغاني.

ويعد أبو صير واحداً من جيل الأدباء الأوائل بمحافظة دمياط الذين قاموا بدور الرواد المؤسسين للحياة الأدبية المعاصرة في تلك المدينة الساحلية التي تقع على شاطئ المتوسط، والذي يأتي في مقدمتهم محمد النبوي سلامة، ومصطفى الأسمر، ومحمد أبو العلا السلاموني، وأنيس البياع وبشير الديك.

ويشير المؤلف إلى عوامل عدة اجتمعت لتمثل تحدياً أمام إعداد الكتاب، منها تنوع قصائده بين الفصحى والعامية والأغاني، حيث إنه من غير المعتاد نشرها في ديوان واحد، كما أن الشاعر - أي شاعر - يكون مسؤولاً عما ينشره وليس عما يسجله بأجندة خاصة ولم يقل كلمته الأخيرة بشأنه بعد، فضلاً عن أن قصائد الشاعر الراحل تنتمي إلى فترة تجاوزت نصف القرن، وأن التَلقي لها في وقتها يختلف عنه في وقتنا، خاصة أنها كانت في معظمها نتاج تفاعل مع أحداث الفترة التي كتبت فيها وأجوائها. ورغم ذلك، وجد الباحث أن ما كتبه شاعرنا الراحل بمثابة شهادة مفعمة بالصدق على الفترة التاريخية الصعبة التي عاشها، وبالتالي فهو يستحق التوثيق، خاصة أن صاحبه كان بعيداً عن الأوساط الأدبية واكتفى بالقصيدة ملاذاً آمناً.

ولد حسام الدين في 24 من أغسطس (آب) 1945، وكانت نشأته محافِظة، أبوه عبد الفتاح أبو صير كان إماماً وخطيباً لزاوية أهلية ضُمَّت فيما بعد إلى وزارة الأوقاف، وكان يطلق عليها «جامع أبو صير» نسبة إليه، وقد حفظ حسام القرآن الكريم بكُتَّاب هذا الجامع، قبل أن يلتحق بالتعليم في معهد دمياط الديني الأزهري ويستكمل مراحله التعليمية به، لينتقل بعدها إلى القاهرة ويكمل تعليمه بكلية طب الأزهر ويتخرج فيها عام 1975، وخلال إقامته فترة الدراسة انخرط في النشاط الطلابي الأدبي مع زميليه الشاعرين السيد الجنيدي وصلاح شلبي والتقوا ببعض الأدباء الصحافيين ومنهم الروائي محمد جبريل والكاتب عبد الفتاح الجمل، وأقام خلال تلك الفترة بشقة له بعطفة برجوان بشارع المعز، كما واظب على حضور بعض جلسات نجيب محفوظ على المقهى الذي يجلس به بالقرب من مسكنه آنذاك بحي الجمالية، وكانت الحياة الثقافية بدمياط في ذلك التوقيت، تحظى بوجود الكثير من المبدعين ممن اشتهروا وذاع صيتهم وانتقلوا للحياة بالقاهرة، منهم في مجال الفلسفة الدكتور زكى نجيب محمود، والدكتور عبد الرحمن بدوي، وفى مجال الأدب الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، والشاعر طاهر أبو فاشا، والدكتور مصطفى مشرفة، والدكتورة لطيفة الزيات، والدكتور شوقي ضيف، وعلي الغاياتي، وصبري موسى، وفاروق شوشة، وعبد الفتاح الجمل.

قراءة في كتاب يوثّق لقصة شاعر مصري، ينتمي إلى فترة الستينات، نشأ في مدينة دمياط الساحلية وجمع بين دراسة الطب والأدب، وكان غزير الإنتاج وصاحب موهبة لافتة، ورغم ذلك لم يهتم بنشر شعره.

ورغم دراسته الأزهرية تمرد على الشعر العمودي واختار قصيدة التفعيلة، وتميزت تجربته بالبساطة ووضوح الرؤية، واتسمت بالصدق، ونشدان المثالية وقيم الخير والحق والشجاعة، ورفضْ الزيف والخداع، أو التراخي في مواجهة الفساد والظلم. ونبرة الحزن والألم الموجودة في معظم قصائده تحمل في رمزيتها سلاحاً على التحريض ضد الاستسلام واليأس. كان يتغنى في شعره بالحبيبة والوطن والناس معبراً عنهم فرحاً وحزناً، وطموحاً ورغبة، غير منفصل عنهم، حيث إن ما كتبه يعدّ ترجمة صادقة لمشاعرهم تجاه ما كانوا يمرون به من أحداث متقلبة وتغيرات خلال فترة كتاباته، وهو الأمر الذي يبرز أهمية توثيق قصائده - بهذا الكتاب - مقرونة بتواريخ كتابتها.

ورغم قصر تجربته التي لم يتح له تعميقها، فإنها عبّرت بصدق عن فترتها التي تنتمي إليها، فلم تكن بمعزل عن الواقع، بل تفاعلت معه واشتبكت مع قضاياه الاجتماعية والسياسية، وتنوعت أغراضها بين الاجتماعية والوطنية، وامتزج فيها الهم الذاتي بالهم الجمعي، ونشدت القِيم العليا حالمة بعالم مثالي خالٍ من الضجيج والحروب.

يقول في قصيدة بعنوان «قصيدة ساذجة»:

(يا سيدتي/ لو أنيّ... متُّ جريح القلب/ لو أنيّ... متُّ طريد دروبي/ لو أني متُّ... على أقدام ذنوبي/ لكني؛... متُّ جريحاً جُرْح كرامةْ/ مخفوض الهامةْ/ والكل يوجِّه في رأسي... أقدامةْ)

وقي قصيدة «يا سيدتي» يقول: (يا سيدتي؛/ ما عدت أغني.../ كي تشدو باسمك أنفاسي/ ويموت على شفتيّ حديث الناسِ/ ما عدت أغنيُّ... لتغنىّ أشعاري/ وتطوف فوق دروبك أفكاري).

كما تتميز قصائد أبو صير ببساطة وفطرية الصور وعذوبتها مع قدرتها على إثارة الدهشة كما في قوله:

(يبدو أنّي..../ أغبى من نجم في ظُهرٍ... يظهر)

و(يبدو أني..../ أغبى ممّن شربت ماءً... كي تسكر)

وكما في قوله: (كنا نحن الأطفال نحبّ الحلوى/ نبكي ونصلي من أجل الحلوى/

ولقد كنتِ... أنتِ حلوى الأطفال).


مقالات ذات صلة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثقافة وفنون ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

تحدثت سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمّق في كتبه وأفكاره».

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي
TT

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي

«الليل الطويل»... أسرار الحس الشعبي عند خيري شلبي

عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ضمن سلسلة «كتابات نقدية»، صدر كتاب «الليل الطويل– فقراء الريف المصري في أدب خيري شلبي» كدراسة في سوسيولوجيا الأدب للباحث محمد صلاح غازي تتناول تجربة أحد أبرز أدباء مصر في النصف الثاني من القرن العشرين عبر عدد من الروايات الشهيرة مثل «الوتد»، «الأوباش»، «زهرة الخشخاش»، «وكالة عطية»، «صالح هيصة» والتي تميزت بعبقرية الحكي الذي يخلط الفصاحة بالحس الشعبي.

أولاً: يشير المؤلف إلى ميلاد خيري أحمد علي سعد شلبي عكاشة الشهير باسم «خيري شلبي» في 31 من يناير (كانون الثاني) 1938 بقرية «شباس عمير» بمركز «قلين» محافظة كفر الشيخ، كما رحل عن عالمنا في 9 من سبتمبر (أيلول) 2011.

جده لأبيه هو علي أفندي شلبي، أحد كبار موظفي «الخاصة الخديوية» في عهد الخديو عباس حلمي الثاني وامتلك أرضاً في شباس عمير وله بنات أنجبن له أبناء قرية كاملة هي الشقة. أبوه أحمد علي شلبي كان يعمل موظفاً بهيئة الفنارات بالإسكندرية.

يقول خيري شلبي في سياق الحديث عن جذوره العائلية: «لقد صُورت لعائلتي كما يلي: أب فوق السبعين من عمره، سياسي فاشل وشاعر محبط، عزيز قوم ذل، ينتمي إلى أسرة كبيرة انحسرت عنها الأضواء تماماً وفُتّت ثرواتها على عدد هائل من البشر فلم يكن نصيب الأب منها سوى قطعة أرض بور».

ويضيف: «جرب أبي الزواج مرات فلم يكن يعيش له ولد، فلما أحيل إلى التقاعد رجع إلى القرية بلا زوجة لينعم بشيخوخة هادئة إلا أن الحظ ألقى في طريقه بفتاة شركسية الأصل تبلغ من العمر اثني عشر عاماً. وحين طلبها للزواج على سبيل المزاح وافق أهلها عن طيب خاطر فإذا بهذه الفتاة الصغيرة تعطيه سبعة عشر ابنا وابنة كان ترتيبي الرابع بينهم. وقد تعين على الأب الكهل أن يستأنف الكفاح من جديد، فلم تكن أعوامه السابقة على طولها إلا لعباً خارج الحلبة وغير محسوب، وعليه أن يتشبث بالشباب المضمحل لكي تبقى هذه الأسرة الكبيرة على قيد الحياة».

ويرى الباحث أن سر تميز خيري شلبي في الأدب المصري هو مروره بتجارب حياتية فريدة ونادرة حيث عانى من الفقر، ففي العاشرة من عمره عام 1948 كان تلميذاً في السنة الرابعة بالمدارس الإلزامية وكان قد حفظ جانباً كبيراً من القرآن الكريم في «كُتاب القرية» التي كان يذهب إليه يومياً بعد انتهاء اليوم الدراسي بالمدرسة.

وباستثناء عدد قليل من تلاميذ المدارس، كان خيري ورفاقه جميعاً حفاة من ذوي الجلباب الواحد صيفاً وشتاء لا يفصل بينه وبين لحم البدن أي ملابس أخرى. وكان يزهو على زملائه بشيء واحد فقط وهو أن أباه أدخله المدرسة باختياره ورغبته أما هم فقد جيء لآبائهم بخفراء بالقوة قسراً ليخضعوهم بالقوة لقانون التعليم الإلزامي.

في قرية شلبي، كان يسود قول مأثور «صنعة في اليد أمان من الفقر»، من هنا فعلى أبناء غير الفلاحين وهم قلة أن يتعلموا صنعة يتكسبون منها لذا فقد التحق بحرف عديدة في الإجازات الصيفية فتعلم مبادئ بعضها وأتقن بعضها الآخر مثل النجارة والحدادة والخياطة، والأخيرة أمضى فيها وقتاً طويلاً وكان وهو كاتب معروف يلجأ إليها عند اشتداد الحاجة إلى ما يسد الرمق.

ويحكي خيري شلبي عن تأثره في طفولته بدراما الواقع التي عاشها والده وكيف انقلبت حياته فقراً بعد ثراء، فيشير إلى أن الوالد كان يشرد لساعات طويلة كتمثال فرعوني، مفتوح العينين، جامد الحركة فيثير خياله ويحاول استنتاج ما يمكن أن يفكر فيه طوال هذا الشرود الأسيف. وكان يحاول وهو الطفل الصغير أن يواسيه وأن يلفت نظره بحركات خفيفة الظل، بكلمات ضاحكة، لكي يفرد وجهه ويبتسم.

وعندما يقع بصره على والدته، تلك الفتاة الغريرة التي هرمت على غير أوان، على حد تعبيره، يجدها تجلس في ركن بعيد منكبة على نفسها ودموعها تهطل بغزارة. وكان يعرف بالسليقة أن المشهد المأساوي الذي يحدث في بيتهم بين الحين والآخر قد صار وشيك الحدوث وأن أباه سيثور ويفقد أعصابه وسيقسم بأغلظ الأيمان إنه لا يحتكم على مليم وإنه لو مات اللحظة، وهو أمل طالما تمناه، فلن يجدوا في حوزته ثمن الكفن.

هذه الحياة المؤلمة والممعنة في الخشونة دفعت به إلى العمل مع الفلاحين وعمال التراحيل في جمع القطن وحصد الأرز والقمح وتطهير الترع والمصارف وهو لا يزال طفلاً صغيراً حيث كان يشحنهم المقاول في جرارات تحملهم إلى بلدان بعيدة ليشتغلوا في أراضي الوسية والتفاتيش في تنقية دودة القطن وقد أثمرت هذه التجربة روايتين هما «السنيورة»، و«الأوباش»، وبعض القصص القصيرة.

وتعلم شلبي من هذه التجربة، فضلاً عن الاحتكاك بنماذج لا حصر لها من البشر بكل خبراتها وتجاربها وأحلامها وهمومها، هو أن والده ليس البطل الوحيد في الحياة وأن قصته يمكن تأجيلها أمام هذا الكم الهائل من الروايات الحية والمآسي الإنسانية الفادحة. لقد تضاءلت قصته الشخصية وذابت في قضية كبيرة جداً يشخصها هذا الجمع الهائل من التعساء المطحونين الذين يدفعون عرقهم ودماءهم ونور أبصارهم ثمن الرفاهية لفئات من الناس لا ينالون منهم حتى حسن المعاملة، كما كان يردد دائماً.

تعلم خيري شلبي من النماذج المصنوعة من لحم ودم والتي احتك بها في مرحلة مبكرة للغاية من حياته أسرار الفولكلور المصري كله، من المواويل الحمراء والخضراء والبكائيات إلى أغنيات العمل من حرث وبذر وري وحصاد وأغاني الأفراح والخِطْبة والطهور والمهد والصباحية والحواديت المسلّية الحكيمة، فضلاً عن الغناء الشجي المليء بالمشاعر والعزف على السلامية والناي والأرغول والربابة. وكذلك الألعاب الجماعية الحركية منها والذهنية، فكل محافظات مصر كانت حاضرة في المخيمات أو الأحواش التي تؤويهم سواد الليل والتي تتجسد فيها القيم الإنسانية العظيمة التي توقظها مشاعر الغربة حيث يتحول كل واحد إلى طبيب يداوي جرح الآخر ويواسيه ويعاونه.

وكانت «مندرة» أو مجلس الوالد، بمثابة منتدى ثقافي وسياسي تربى فيها خيري شلبي مبكراً، فبعد أن تمكن من تعلم القراءة والكتابة وهو في مرحلة الطفولة قرأ السير الشعبية عشرات المرات مثل الهلالية وعنترة وذات الهمة وحمزة البهلوان وفيروز شاه وسيف بن ذي يزن وعلي الزيبق والظاهر بيبرس، إضافة إلى الملاحم الشعبية الغنائية التي كان يغنيها المداحون المتجولون. وهو ما انعكس على أعماله الروائية.