الوجه اللحياني واحد ومتعدد وسحيق الغور

يختزل بسموّه ووقاره المثال الجامع المتبع

الوجه اللحياني واحد ومتعدد وسحيق الغور
TT

الوجه اللحياني واحد ومتعدد وسحيق الغور

الوجه اللحياني واحد ومتعدد وسحيق الغور

خرجت من الأراضي السعودية مجموعة كبيرة من التماثيل الأثرية، أهمّها تلك التي تعود إلى مملكة عربية قديمة قامت في إقليم الحجاز، وعُرفت باسم مملكة لحيان. عاشت هذه المملكة عهداً ذهبياً دام من القرن السادس إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وابتدعت خلاله تقاليد فنية محلية، كما تشهد التماثيل التي عُثر عليها بين أطلالها. وصلت هذه التماثيل بشكل مجتزأ للأسف، وتمثّلت في سلسلة من الأنصاب الآدمية لم يسلم من رؤوسها سوى عدد محدود.

في عام 1968، أجرت بعثة من معهد الآثار التابع لجامعة لندن أول رحلة استكشاف لها في الأراضي السعودية، ونشرت نتيجة هذه الرحلة في تقرير طويل صدر في 1970. دامت هذه الرحلة ثلاثة أسابيع وتضمنت زيارة قصيرة لمتحف العُلا، يوم كان متحفاً صغيراً أُقيم لجمع اللُّقى الأثرية الخاصة بهذه المحافظة. توقف المشرفون على البعثة أمام القطع غير المعروفة من قبل أهل الاختصاص، وتمثّلت هذه القطع في ثلاثة نقوش كتابية، وتمثالين آدميين متشابهين. يبلغ ارتفاع التمثال الأول 1.10 متر، ويمثل قامة رجل فقدت رأسها والجزء الأسفل من ساقيه. أما الثاني فيبلغ ارتفاعه 60 سنتيمتراً، وقد بقي من قامته الصدر والحوض فحسب.

وفقاً لما جاء في هذا التقرير، يتبع هاذان التمثالان نسقاً فنياً خاصاً كان العالمان الفرنسيان أنطونان جوسين ورفائيل سافينياك أول من كشف عنه أثناء حملة التنقيب التي قاما بها سنة 1909 في مقاطعة دادان الأثرية، حيث عثرا على أربعة تماثيل كبيرة ملقاة أرضاً بين ركام الحجارة في موقع «خربة الخريبة»، ووصفاها بدقة، وحددا موقعها الأصلي، وأبرزا معالم أسلوبها الذي تتفرّد به. بعد مرور أكثر من ستة عقود، وجدت البعثة البريطانية في متحف العلا تمثالين مشابهين، وقدّمت في تقريرها قراءة أوّلية لهذا «الاكتشاف»، واستعادت فيها اكتشاف العالمين الفرنسيين، وسلّطت الضوء على أنصاب العُلا المنسية.

في العقود التالية، أجرت بعثة التنقيب الخاصة بقسم الآثار في جامعة الملك سعود سلسلة متعاقبة من حملات التنقيب في دادان، وكشفت هذه الحفريّات عن مجموعة كبيرة من الأنصاب المشابهة المصنوعة من الحجر الرملي المحلّي. في 2014، نشر الباحثان السعوديان سعيد فايز السعيد وحسني عبد الحليم عمار مقالة تناولت هذا النتاج، وأشارا فيها إلى أن عدد التماثيل وأجزاءها التي كشفت عنها الحفريات بلغ «ما يزيد على الثلاثين قطعة»، «بعضها يحتاج إلى ترميم وصيانة، وبعضها ما زال مدفوناً». ظهرت قطع أخرى من هذا الطراز في السنوات التالية، واللافت أن مجمل هذه التماثيل وصل بشكل مجتزأ، ولم يُعثر سوى على عدد محدود للغاية من رؤوسها.

تتبع هذه الأنصاب الآدمية نسقاً جامعاً، تبرز سماته في تجسيم البنية التشريحية للقامة المنحوتة. تنتصب هذه القامة في مهابة واستقامة، وتبدو الذراعان المتدليتان ملتصقتين بجانبي الصدر، والكفّان مقبوضتين، والصدر عارياً، أما اللباس فإزار يمتد من تحت السرة إلى ما فوق الركبتين. عند أعلى معصم الذراع اليسرى، يظهر سوار عريض يلتف حول مفصل الكوع. وتكشف القطع الجزئية الخاصة بالقدمين عن حذاء على شكل صندل له «شريط ثلاثي في المقدمة يلتف حول القدم عند مؤخرة الأصابع، ومن وسط هذا الشريط الثلاثي يتفرّع شريطان بارزان إلى الخلف، ويلتفّان حول مؤخرة القدم»، كما أشار الباحثان السعوديان.

اكتشف العالمان الفرنسيان جوسين وسافينياك خلال جولتهما وجهاً منحوتاً واحداً، ووثّقا هذا الاكتشاف الذي ضاع أثره لاحقاً. يتميز هذا الوجه بعينين كبيرتين مجوّفتين يعلوهما حاجبان مقوّسان، وأذنان ضخمتان يحد كل منها صيوان عريض. وتعلو رأسه عترة ملساء يلتف من حولها عقال. يختزل هذا النموذج المثال الجامع الذي اتبعته الوجوه اللحيانية بشكل عام، غير أن القراءة المتأنية لهذه الوجوه تُظهر تنوّعاً كبيراً في سماتها.

كشفت أعمال التنقيب الخاصة بقسم الآثار في جامعة الملك سعود عن رأسين من الحجم الكبير يتشابهان ولا يتماثلان. يبلغ ارتفاع الرأس الأكبر 55 سنتيمتراً، وقد وصل بشكل مجتزأ بعدما أعيد استعماله في الماضي كحجر بناء في تشييد جدار. عيناه لوزتان كبيرتان فارغتان، وحاجباه مقطّبان في خط أفقي جامع، ممّا يوحي بأنه مُعَبّس. الأنف على شكل مثلث ضاعت منه كتلته المجسّمة البارزة، والفم شفتان مطبقتان تعكسان حالة من القنوط. بقي من الأذن اليسرى أثر بسيط، وبقي من اليمنى صيوان عريض ومقوّس. الوجنتان مكتنزتان، الذقن ناتئة ومستديرة، الجبين أملس يحدّه شريط العقال الذي بقي منه جزء بسيط.

الوجه الآخر طوله 50 سنتيمتراً، وهو طويل وبيضاوي. الحاجبان قوسان متلاصقان، والأنف مثلث طويل. العينان لوزتان فارغتان، يحد كلاً منهما جفن ناتئ. والثغر شفتان ترسمان حالة من الرضا. الذقن مستوية ومحزّزة في وسطها. والجبهة صغيرة، يحدّها شريط العقال الملتف حول العترة التي تكسو الرأس. يشبه هذا الوجه وجهاً عُرض في باريس ضمن المعرض الذي خُصّص للعلا في معهد العالم العربي سنة 2019، ويظهر هذا التشابه في التأليف الجماعي، كما في السمات والملامح.

في المقابل، نقع على مجموعة من الوجوه المنمنمة تعود إلى تماثيل نذرية صُنعت كذلك من الحجر الرملي المحلي، تعكس التنويعات المختلفة التي طبعت الوجه اللحياني. تظهر اللحية التي تكسو الوجنتين في بعض من هذه الوجوه، ويظهر في البعض الآخر البؤبؤ الذي يستقر في وسط العين على شكل ثقب غائر. تتبدّل بنية الوجنتين بين نموذج وآخر، كما تتبدّل الحالة التعبيرية التي تعكسها سمات الوجه، من الصفاء، إلى الوجوم، إلى الشدّة والحزم.

في كل هذه الأحوال، يحافظ الوجه اللحياني على سموّه، ويعيد إلى الذاكرة قول الشاعر اليوناني جورج سيفيريس: «التماثيل مقامُها في المتحف/ لا، إنها تلاحقكَ، ألا تراها/ من أجزائها المكسورة/ بل من وجهها المتقادم الذي لم تتعرف عليه/ علماً أنكَ تعرفه ملياً/ الخرائب ليست حقاً هي التماثيل، لكن الضائع منها هو نحن/ لم تعد التماثيل هي الخرائب/ الخرائب هي نحن».


مقالات ذات صلة

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)
يوميات الشرق إطلالة على مدينة طرابلس اللبنانية من أعلى قلعتها الأثرية (الشرق الأوسط)

«جارة القلعة» تروي حكاية طرابلس ذات الألقاب البرّاقة والواقع الباهت

لا يعرف معظم أهالي طرابلس أنها اختيرت عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، لكنهم يحفظون عنها لقب «المدينة الأفقر على حوض المتوسط».

كريستين حبيب (طرابلس)
شمال افريقيا مبنى المتحف القومي السوداني في الخرطوم (متداول)

الحكومة السودانية تقود جهوداً لاستعادة آثارها المنهوبة

الحكومة السودانية عملت على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية وتأمين 76 موقعاً وصرحاً أثرياً تاريخياً في ولايات نهر النيل والشمالية، وجزء من ولاية الخرطوم.

وجدان طلحة (بورتسودان)
يوميات الشرق من أعمال التنقيب في موقع زبالا التاريخي المهمّ على درب زبيدة (واس)

السعودية... آمالٌ تُفعّلها المساعي لالتحاق مواقع بقائمة التراث العالمي

العمل قائم على تسجيل مواقع جديدة في القائمة الدولية للتراث العالمي، من أهمها دروب الحج القديمة، لا سيما درب زبيدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى تشمل الأنظمة المائية.

عمر البدوي (الرياض)

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان
TT

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط الذي التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

إدوارد سعيد

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

جامعة كولمبيا، نيويورك.