رحيل عالي سرحان القرشي: أحد رموز «الحداثة» وضحاياها

يعد رمزاً في الأدب والنقد في السعودية

الدكتور عالي سرحان القرشي
الدكتور عالي سرحان القرشي
TT

رحيل عالي سرحان القرشي: أحد رموز «الحداثة» وضحاياها

الدكتور عالي سرحان القرشي
الدكتور عالي سرحان القرشي

فقدت الساحة الثقافية والأدبية والأكاديمية السعودية الدكتور عالي سرحان القرشي، أحد أبرز أعلام الحركة الأدبية والنقدية في المملكة، وأحد رموز التحديث الأدبي، الذي عُرف بدراساته النقدية وعمله الأكاديمي على المستوى المحلي والعربي.

يُعدّ الدكتور القرشي واحداً من المثقفين الحداثيين الذين واجهوا ضغوط التيارات المتشددة التي كانت متنفذة في الجامعات، منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ورغم اضطراره لمهادنتهم للحصول على حقه في مناقشة رسالة الدكتوراه، فقد ظلّ مدافعاً عن الحداثة ورمزاً من رموزها الأدبية.

فمثل جيل من المثقفين السعوديين الذين تعرضوا لضغوطات التيار الديني تحت عنوان محاربة الحداثة، خاض القرشي معركته لمواجهة التحديات التي كانت تمنع حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة «أم القرى»، حتى تمّ له ذلك في عام 1990، وكان عنوان رسالته «الصورة الشعرية في شعر بشر بن أبي خازم الأسدي».

وتحدث القرشي عن هذه الفترة، التي شهدت أيضاً حرمان أكاديمي آخر هو سعيد السريحي من الحصول على الدرجة العلمية، قائلاً إنه اضطر إلى «التبرؤ من الحداثة» (في خطاب كتبه لإدارة الجامعة)، كسبيل وحيد لإقناع إدارة الجامعة بالمضي قدماً في مناقشة الرسالة.

أثرى الدكتور سرحان القرشي الساحة الأدبية والثقافية بالكثير من الدراسات النقدية الجادة، إلى جانب الأعمال السردية والشعرية، وظلّ ناشطاً في العمل الثقافي عبر موقعه كأستاذ للأدب والنقد في جامعة الطائف، وعبر تأسيس والمشاركة في الكثير من المنتديات الأدبية، من بينها تأسيس جماعة «إبداع» في نادي الطائف الأدبي، ومشاركته في «ملتقى عكاظ الثقافي» في جمعية الثقافة والفنون بالطائف وغيرها.

وكان القرشي عضواً (سابقاً) في مجلس إدارة نادي الطائف الأدبي، وأمين جائزة الشاعر محمد الثبيتي للإبداع بالنادي في دورتها الأولى.

الأعمال الكاملة للدكتور عالي سرحان القرشي

وصدرت له مجموعة من المؤلفات، في القصة والنقد بينها: «المبالغة في البلاغة العربية»، و«أنت واللغة»، و«طاقات الإبداع»، و«الرؤية الإنسانية في حركة اللغة»، و«شخصية الطائف الشعرية»، و«رحلة الذات في فضاء النص الشعري القديم»، و«نص المرأة»، و«حكي اللغة ونص الكتابة»، و«أسئلة القصيدة الجديدة»، و«عكاظ وحي الإبداع وتجليات الوعي»، تأليف مشترك، و«تحولات النقد وحركية النص»، و«تحولات الرواية في المملكة العربية السعودية»، وهو الكتاب الحاصل على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب لعام 2014.

وفي عام 2021 صدرت الأعمال الكاملة للناقد الدكتور عالي بن سرحان القرشي في ستة أجزاء عن النادي الأدبي الثقافي بالطائف ودار الانتشار العربي في بيروت.

كما صدر له كتاب «المنتديات الثقافية في منطقة مكة المكرمة».

ورحل القرشي مساء الثلاثاء بعد معاناة مع المرض، عن عمر ناهز (71 عاماً).



لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو
TT

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.