ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟

توفر كتب الأطفال أداة قيّمة للحفاظ على المواقف الأخلاقية

ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟
TT

ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟

ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟

في مايو (أيار) الماضي، وجّهت أنا وزوجي الدعوة إلى صديق فلسطيني لحضور عشاء نقيمه بمناسبة عيد الشبات، وعندما سألَنا ما ينبغي له أن يجلبه معه، طلبت منه كتاباً عن وطنه كي يقرأه ابننا البالغ 7 سنوات. ولأن صديقنا هذا شديد الكرم، ولم يكن واثقاً من مستوى القراءة لدى ابننا؛ فقد جاء إلينا حاملاً مجموعة من الكتب حول أطفال فلسطينيين وتجاربهم، تنوعت ما بين كتب مصورة وأخرى مقسّمة على أربعة مجلدات، تشبه الروايات التي يقرأها طلاب المرحلة الإعدادية.

في أعقاب ما ارتكبته «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وما تبعه من أسابيع من العنف في غزة، وجدت نفسي منجذبة إلى هذه الكتب.

توفر كتب الأطفال التي تطرح الحقائق بأسلوب بسيط، أداة قيّمة للحفاظ على المواقف الأخلاقية، خصوصاً في خضم دوامة من الحزن والغضب. ويمكن لهذه الكتب، ببساطتها وشجاعتها، أن تمنح المجتمعات التي تعاني الاستقطاب إمكانية للاطلاع على قصص الجانب الآخر، بما يذكّرنا بإنسانيتنا المشتركة، وكذلك مصلحتنا المشتركة في إيجاد سبيل نحو التعايش السلمي.

في الكتب التي قرأتُها مع ابني، رأيت أن مؤلّفي كتب الأطفال الفلسطينيين اليوم يفعلون شيئاً سبق أن عاينته خلال بحث لي حول أدب الأطفال اليديشي الذي أنتج القرن الماضي؛ ألا وهو السعي الدؤوب لمعاونة الأطفال على استخراج معنى منطقي من العالم الذي يستعدون لوراثته، مع العمل في الوقت ذاته على الكتابة عن عالم أفضل.

ويعتمد الأدب اليديشي الذي درسته على كتب ودوريات صدرت ما بين عامي 1900 و1970 في أربع قارات، في ظل أنظمة سياسية متنوعة، بينها الاشتراكية، والشيوعية، والصهيونية واليديشية الخالصة. وجرت كتابة الأعمال التي درستها على أيدي مجموعة من المعلمين والكتّاب أصحاب الثقافة العالية ومؤلفين معنيين بأدب الأطفال. ونجح هؤلاء الكتّاب في بناء عوالم خيالية مثيرة لقرائهم تمكّنهم من الهرب من الواقع إليها والطموح لإعادة. وفي الوقت ذاته، تحثّهم على تحمّل ومحاولة علاج المشكلات الاجتماعية القائمة بالعالم الواقعي، مثل التفاوت في الدخول والعنف المستمر المعادي للسامية.

وصف الكتاب اليديشيون منذ قرن مضى أعياد شبات ساحرة، وحكاماً غريبي الأطوار وأحداثاً سعيدة وأخرى حزينة، مرّت بتاريخ اليهود الأشكينازي وأثرت على هويتهم، مع عدم إغفال القصص الدرامية العادية التي يعيشها الأطفال داخل حياتهم اليومية؛ بمعنى مختلف الأفراح والأحزان التي يعايشها الأطفال بمختلف أرجاء العالم والثقافات.

وتشدد القصص اليديشية على السبل التي يمكن للأطفال من خلالها التصرف على نحو أخلاقي، ودفع ثقافتهم قدماً. وبدلاً عن تعزيز المشاعر الوطنية التقليدية، تتبع هذه الأعمال الميل العام الذي يتسم به الأدب والفن والأفلام اليديشية نحو استكشاف كيف يمكن لثقافة توصيف أمة ما ورسم ملامحها.

ويبدي أدب الأطفال اليديشي اهتماماً بحضارات بعيدة، ويسعى لأن يطرح على قرائه، ما سبق وأن وصفته المعلمة إيميلي ستايل بـ«النافذة والمرآة»: أي انعكاسات تجاربهم على تجارب آخرين. على مدار عقود وعبر محيطات، اعتمد هؤلاء الكتاب على قصصهم لتحويل «الكائنات الغريبة» إلى فئات إنسانية أخلاقية قادرة على التعاطف مع غيرها.

ويعدّ الأدب السردي القائم على الخيال أداة فاعلة لنقل معاناة الآخرين وخلق التعاطف معهم؛ الأمر الذي ينطبق على أدب الأطفال. لذلك؛ فإن البالغين الذي يفشلون في إدراك مدى خطورة دور الأعمال الأدبية، أو يحاولون تقييدها أو حظرها، فإنهم بذلك يتورطون في الاستخفاف بعملية يتعلم الأطفال من خلالها كيفية التعلم والشعور، وبالتالي يقوّضون قدرتهم على التأثير على المستقبل.

يجابه جيل كامل من الإسرائيليين والفلسطينيين، فضلاً على أولئك الذين يهتمون بمصيرهم في الخارج، الآن مزيداً من خطر فقدان الثقة في إمكانية السلام. وفي خضم هذه اللحظة الحرجة، يمكن لكتب الأطفال أن تساعد عبر سبيلين مهمين: أولاً: أنها تقيم عالماً، حيث يمكننا أن يعاين بعضنا ألم بعض، وكذلك خوفنا، وفرحنا.

حقائق

يجابه جيل كامل من الإسرائيليين والفلسطينيين فضلاً على أولئك الذين يهتمون بمصيرهم في الخارج الآن مزيداً من خطر فقدان الثقة في إمكانية السلام

في كتاب «أسرار سيتي» بقلم ناعومي شهاب ناي (يتناول بأسلوب لطيف وشعري زيارة فتاة أميركية- فلسطينية لجدتها وأبناء عمومتها الذين يعيشون «على الجانب الآخر من الأرض») تمتزج النغمة المستمرة من الشوق بمشاعر البهجة للالتقاء بالعائلة. في كتاب هانا مشبيك «الوطن: أحلام أبي بفلسطين»، يعيد أب فلسطيني صياغة ذكريات شبابه في البلدة القديمة في القدس، لتتحول إلى قصص ما قبل النوم لبناته.

كما تدور أحداث فيلم «الصبي والجدار» للمخرجة أمل بشارة، إنتاج عام 2005، بالقرب جغرافياً من الصراع، وتقدم نظرة شاملة لجدار الفصل الذي جرى بناؤه في الضفة الغربية.

وثمة كتاب ملوّن باللغتين الإنجليزية والعربية، جرى تأليفه بالتعاون مع الأطفال الذين يعيشون في مخيم عايدة للاجئين، قرب بيت لحم، ويعكس بطبيعة الحال ارتباكهم وألمهم في ظل احتلال لا ينتهي - وينقل ذلك ببراعة إلى القراء.

هذه هي نوعية الأعمال التي أودّ أن يطلع عليها طفلي. كما أريد في الوقت ذاته من العائلات غير اليهودية أن تقرأ الكتب التي تمثل إنسانيتنا الكاملة، في كل ضعفنا وفرحنا اليهودي.

وكما لاحظت الناقدة الثقافية مارجوري إنغال، فإن موضوعات المحارق النازية ممثلة بشكل زائد بين الكتب المتعلقة باليهود الصادرة عن الناشرين الأميركيين الرئيسيين، في حين يشعر كثير من مؤلفي كتب الأطفال وأمناء المكتبات اليهود بأن ثمة نقصاً واضحاً في الأعمال التي تصور الحياة اليهودية اليومية في إسرائيل. من جانبي، أتمنى أن يحظى القراء الأميركيون باطلاع أوسع على صور الازدهار اليهودي، بما في ذلك في إسرائيل، كما في كتاب غانيس هيشتر بعنوان «فتاة المغامرة: دابي ديغز في إسرائيل». أتمنى أن يجري النظر إلينا في كمالنا وتعقيدنا، وأن نرى الآخرين بالطريقة نفسها، وهذا جزء مما يمكن أن تقدمه كتب الأطفال.

علاوة على ذلك، يعزز أدب الأطفال أكثر من مجرد الوعي الأساسي بأوجه التشابه والاختلاف في إنسانيتنا المشتركة، وإنما يستحضر عالمياً حيث يمكننا أن نتخيل -معاً- شيئاً أفضل مما نحن عليه الآن. على سبيل المثال، يخاطب فيلم «دانيال وإسماعيل» للمخرج خوان بابلو إغليسياس، الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات، ويحكي قصة صبيين، أحدهما فلسطيني والآخر يهودي، يتغلبان على اعتراضات والديهما لتكوين صداقة داخل ملعب كرة القدم. وتعترف حبكة الفيلم ببراعة بأن الجيل الجديد سيتعين عليه معرفة كيفية صنع السلام، وأنه يمكن للأطفال أن يرشدونا نحو طريق السلام.

في الحقيقة، مثل هذه الكتب وفيرة وجذابة. وجرى إبداعها بالأساس بهدف صياغة عالم أفضل ودفعه إلى الوجود: والآن يجب علينا استغلالها لقراءة عالم أفضل والعمل على خلقه. وفي حين أن هذه الحكايات مهمة من أجل القرّاء الصغار، فإنها مهمة كذلك لنا نحن البالغين.

الحقيقة، أن من يتابع الأخبار منا ويتملكه اليأس يحتاج إلى هذه القصص، بلطفها وشراستها الأخلاقية. أسباب الكرب تتراكم في أكياس الجثث، وأرواحنا تتحطم بسبب عجز الأغلبيات الديمقراطية، على ما يبدو، عن محاسبة قادتها والمطالبة بالكرامة والسلامة والسلام للجميع بمختلف أنحاء المنطقة.

أدب الأطفال لا يستطيع حل هذه المشكلات بالتأكيد؛ لكنه يخلق ساحة للحلم، وحصناً أساسياً للأمل العقلاني. ومن دون الأمل لن يتحقق أي أمر جيد.

 

* أستاذة الثقافة والأدب اليديشي ومديرة معهد «تام» للدراسات اليهودية التابع لجامعة إيموري


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي
TT

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة، وإسهامه على مدى أربعين عاماً في المشهد الشعري العراقي.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

> أنت شاعر مكرس، ولك حضور مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيراً فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟

- الشعر، أتوقع الشعرَ وليس سواه، هو ما دفع بي إلى الرواية، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكان سرداً روائياً. للشعر فضائل كثيرة على مَن يقيم فيه، والكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر حين فتح لي أفقاً آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية.

منذ أكثر من عشرين عاماً كان الشعر يستدعي مني، من خلال ما كتبت من دواوين، اعتماد تقنيات «السرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الدواوين، حتى تكرّس هذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديوان مكرس تماماً لرؤية الحياة في ظروف الحرب والعنف التي عاشها العراقيون، ثم ما تلاه من دواوين.

لكن الشعر، في جانبٍ مهم من صيانيته، عادة ما يحصّن نفسه من الانسحاق، ومن مواراة هويته، وذلك كلما كان بصدد الانفتاح على السرد وسواه، بهذا كنت أميّز بين السرد، كما هو في مواطنه بالرواية والقصة القصيرة وسواهما من فنون السرد النثري، وبين الطابع الخاص، التقني والبلاغي والتخييلي، لما سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري».

بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد السرد في الشعر، كانت كتابتي في النثر تنمّي قدراتها حتى صار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي المقالة، وحتى بعد ذلك حين أنجزت كتاب «واقف في الظلام»، وهو كتاب أقرب إلى السيرة الشخصية ممتزجة بسيرة مجتمع خلال سنوات أواخر القرن الماضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طريق لا يسع إلا فرداً»، وهذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كلا الكتابين كانا يعتمدان بشكل أساس على الإفادة من السرد. لقد عدّ بعض النقاد والقراء كتاب «واقف في الظلام» رواية سيرية، وهذا ما لم أكن مخططاً له، لكني كنت خلال العشرين عاماً الأخيرة أروي الأفكار والرؤى والوقائع، والقصائد أيضاً كحكايا، كوقائع سيرة للأفكار والأحداث.

> لم تشر، في هذا السياق والاستذكار، إلى كتابك الأخير «في نبض العالم»، وهو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امتزج فيه السرد بالشعر بشكل حاد، أعتقد أنه حمل عنواناً فرعياً تصف به نصوصه على أنها «سيرة الأعمى، وقد رأى كل شيء»...

- نعم، هذا الكتاب ما كدت أكمله، وقد استغرق مني عاماً، حتى وجدته يسلمني مباشرة إلى كتابة الرواية، «غريزة الطير».

> تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي من هذا الكتاب؟

- لا، أبداً... لكن كتاب «في نبض العالم» كان قد مضى بي إلى السرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خرجت منه وأنا مشبع بروح السرد وطاقته.

في الحقيقة بقيت سنوات طويلة كنت آملاً خلالها أن أكتب رواية، ولم أستطع ذلك، لم أجرب، لم أحاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بلا انقطاع. كنت أشعر أني ممتلئ بطاقة كبيرة على السرد، كما لو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لقد انفتحت الخزانة ومعها تدفقت كتابة السرد.

> كيف حصل هذا؟

- الحكمة التي خرجت بها تفيد ألا تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، ولا تتمنّع عليها إن أقبلت.

هذا ما يحصل عادة في كتابة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي.

> قوبلت «غريزة الطير» باستحسان من قبل النقاد والكتّاب، هل ستكون نقطة افتراق عن الشعر، خصوصاً أنك أصدرت كتاب «الأعمال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟

- لا، لماذا نعتقد أنه لا تعايش ما بين الأجناس المتنوعة في الكتابة والفن؟ لماذا نعتقد ألا ينهض جنس كتابي لدى كاتب إلا على دفن جنس آخر؟ نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر. وواقعاً حتى من دون الانشغال بالرواية من الممكن عدم الإقبال على كتابة الشعر، والعكس صحيح أيضاً. لا مشكلة في ذلك ما دامت الكتابة تعبيراً عن حاجة، تكفُّ الحاجات ربما فتكفّ معها الرغبة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه.

> ولكن كلما فكّر شاعر بكتابة رواية فغالباً ما يقال إن اللجوء للرواية نتاج للإحساس بإزاحتها الشعرَ من عرشه، خاصة مع تطور هذا الفن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين الأخيرين؟

- كلانا كما أعتقد نتحدث هنا عن الأدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جدية الحياة في الكتابة، شعراً أو رواية، لا أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي لا يقوم فن إلا بنحره فناً آخر.

نحن نحيا في عالم مستمر بتغيراته السريعة، تغيرات تلقي بظلالها على كل شيء... فرص الإمتاع تتنوع، بما يدفع بملايين البشر إلى أن ينشغلوا باهتمامات قد لا تطرأ في بالنا.

لا ينبغي لنا، نحن بشر هذه السنوات، أن نتأسى على بشر المستقبل لافتقادهم ما نراه الآن ضرورة لا تستقيم الحياة من دونها.

الشعر والأدب والفن عموماً يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أولاً وإن انتفت حاجة المحتاجين لهذا الإنتاج مستقبلاً فلا ضير في ذلك.

أكتب الشعر كحاجة شخصية، وكتبت الرواية كاستجابة لحاجة أخرى مقابلة. في الحالين كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فلا أقف كثيراً عند من سيبقى أو سيموت من الفنون والآداب.

> ما زلت بصدد الصلة ما بين الشعر والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذراً من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضحة، أتساءل: ما إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟

- فعلاً كانت هذه مشكلة أثناء الكتابة. ليس من اليسير أن تعرف أنك، كشاعر، ما زلت مستمراً بلغة الشعر فيما أنت تكتب رواية. هذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهي أيضاً مشكلة كاتب الرواية غير الشاعر حين يريد «تزيين» لغة الرواية ببلاغة شعرية، هذه بلاغة غالباً ما تكون فجّة لمجيئها خارج سياقها المألوف.

سوى هذا التعمد هنالك اللاوعي، فبعد سنوات طويلة من كتابة الشعر تأخذ بلاغة اللغة الشعرية فرصها للعمل والظهور في الكتابة النثرية بتلقائية دونما وعي من الشاعر.

قد تساعد الخبرة الصحافية، لكاتب مثلي، في ضبط اندفاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخر. ففي الرواية يكون الكاتب أمام وضع آخر لا صلة له بلغة الصحافة، إنه أمام رواية، وهي نص أدبي، تحتاج بلاغة أدبية نثرية، وهذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة في نص أدبي روائي. كان خياري أن أرجئ التفكير في هذه المشكلة لما بعد الانتهاء من الرواية، وفعلاً قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خلالها لاصطياد أي أثر بلاغي شعري جاء في غير محلّه، وبالمقابل عملت على تنمية البلاغة النثرية الأدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لم تكن مستحيلة، وكان لصبري على الرواية أثر مهم في هذا الجانب.

> هل كنت متعمداً تناص عنوان الراوية، «غريزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثلاً بينهما في الثيمة المركزية، كما تتجلى سردياً في الرواية، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟

- حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هذا العنوان «غريزة الطير» متأخراً بعد إنجاز مراجعتها وبعد أكثر من عنوان لم تصمد جميعها أمام تبرّمي منها لحين ما استقررت على العنوان الأخير، وهو مستلّ من متن الرواية.

أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة والانشداد إلى حياة أفراد ومجتمع ومدينة بخلاف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى في كتاب فريد الدين بينما طائر الرواية أوّاب منشدّ إلى مدينته وأرضه.

في كل حال، لا أدري، ربما يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بين الكتابين.

> إلى أي مدى ظلت «غريزة الطير» تتحدث عن إشكالية الهوية الاجتماعية، وعلاقتها بالآخر الذي يقاسمها المكان، والوجود، من خلال الشخصيات التي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟

-ـ كنت منشغلاً في الرواية، بجانب أساس منها، بمصائر الأرستقراطية الوطنية العراقية، التي نشأت في أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبدأت بالاندحار ما بعد ذلك. الأب سليمان زيني كان عضواً فاعلاً، في شبابه بالبصرة، بالحزب الوطني الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّراً إلى حدٍّ ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهذا جانب من سيرورة المجتمع لم يحظَ باهتمام يذكر سواء في الأدب أو الفكر السياسي.

نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر

> الشخصية المحورية آدم زيني، تقدمه بوصفه المرشد والحكيم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (الأب) سليمان زيني يقول عنه: «هو معلمي»، هل هناك قصدية ما في بناء هذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودراية الآخر ذي النسب الإنجليزي؟

- سعيت كثيراً من أجل أن أضمن لشخصيات الرواية حريتها، استقلاليتها عني. من هنا تمتع آدم بقدر وافٍ من الحرية التي جعلت منه شخصاً يبدو مستقراً آناً ومضطرباً في آنٍ آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبساً بالنسبة للآخرين.

لا أستطيع هنا التحدث عن شخصية مثل شخصية آدم. ثمة الكثير لم تقله الرواية، وهو مما ظل يعتمل في دخيلة آدم، وبعض هذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكه علي أنا المؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقلالها عنه. لم يكن هذا خللاً في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم.

شخصية آدم هي من نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هو وَرِثَ جانباً من خصال أمه، المحافظة الإنجليزية وبعضاً من طبائع أبيه الليبرالي العراقي، لكن آدم ظل ماهراً في صنع شخصيته كما أرادها هو وحرص عليها.

> حكاية (جاسم السماك)، وهو شخصية ثانوية في الرواية، حول رؤيته رفض الكلاب نهش جثث القتلى عام 1991. هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيين العراقيين بها؟

- حكاية جاسم حقيقية، روى لي صديق بصري واقعتها. في أحيانٍ كثيرة كان واقعنا أغرب من الخيال. ثمة الكثير من الكنوز السوداء التي ينبغي للأدب أن يخرجها من خزائن الألم العراقي، ما زال أدبنا زاهداً بهذه الكنوز.

> قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟

- أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «السيدة مفسّرة الأحلام»، أبقيتُها بعيدة عني منذ أسبوعين، ربما أحتاج إلى أسبوع آخر لأعود بعده إليها بهدف المراجعة قبل دفعها للنشر.