«تفصيل ثانوي»... أنين موءود تحت أنقاض الاحتلال

معرض فرانكفورت ألغى تكريم مؤلفتها الفلسطينية بسبب «طوفان الأقصى»

«تفصيل ثانوي»... أنين موءود تحت أنقاض الاحتلال
TT

«تفصيل ثانوي»... أنين موءود تحت أنقاض الاحتلال

«تفصيل ثانوي»... أنين موءود تحت أنقاض الاحتلال

تركز الكاتبة الروائية الفلسطينية عدنية شبلي، في روايتها «تفصيل ثانوي» على حقيقة أن لا جريمة تسقط بالتقادم، حتى ولو كانت أدلتها مدفونة في أعماق الصحراء. والجريمة هنا ضحيتها فتاة فلسطينية بدويّة مُجردة من السلاح، في مواجهة كتيبة من جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين أخفوها عن الوجود في طرفة عين.

الرواية صدرت في طبعة جديدة بالتعاون بين دار «الآداب» ببيروت ومكتبة «تنمية» بالقاهرة. وكان معرض «فرانكفورت الدولي»، الذي نظم الشهر الماضي قد ألغى مشاركة مؤلفتها في فعالياته، بعد أن كان من المُقرر تكريمها بجائزة «لابيراتور»، في أعقاب «طوفان الأقصى» وسط اتهامات لعملها الأدبي بمعاداة السامية، ما دفع كثيراً من الأصوات والمؤسسات العربية لإعلان مقاطعتها للمعرض، رفضاً لموقفها هذا. وكانت الترجمة الإنجليزية للرواية دخلت القائمة الطويلة لجائزة «مان بوكر» الدولية في لندن عام 2021.

عبر 127 صفحة، تُقسّم الكاتبة مسرح روايتها إلى فصلين. يدور زمن الرواية الأول عام 1949، تحديداً في أغسطس (آب) بحرارته التي تَسرّب قيظها على مدار السرد؛ حيث تبدو فرقة عسكرية إسرائيلية في مهمة تمشيط للقسم الجنوب غربي من صحراء النقب وتنظيفه من «بقايا العرب»، بعد أن أفادت معلومات عسكرية بوجود مُتسللين، ما دفعهم للقيام بعمليات استطلاعية يومية لاستكشاف المنطقة.

وفيما تسود أجواء الروتين العسكري من تدريبات ومناورات وترميم خنادق وتمشيط متواصل للمنطقة، تقع فتاة بدوية شابة في أسرهم. لا تُصدر سوى نحيب مكتوم، وكثير من الرِعدة التي تناولتها الرواية بكثير من التفصيل، بداية من هيئتها الأقرب لـ«خنفساء مُكوّرة داخل ثيابها السوداء»، وصولاً لهتك الجنود شرفها، ثم حياتها، بعد أن أنهوها بطلقة رصاص وهي تفر هاربة: «راحت الدماء تتدفق من رأسها إلى الرمل الذي امتصها بغير عناء، فيما تجمّعت أشعّة شمس الظهيرة فوق ردفيها العاريين اللذين كانا بلون الرمل».

بين خريطتين

لا ينقطع صوت كلب ظل يُلازم الفتاة البدوية منذ سقوطها في يد الجنود، يائساً عالياً، ولا يبدو أن هذا الحضور المُكثف للكلب ونباحه كان جُزافياً؛ حيث توّظفه الكاتبة خيطاً سرديّاً للعبور به لزمن آخر بعد رُبع قرن من وقوع تلك الحادثة، فتبدو أصوات الكلاب وقد تضاعف نباحها، تسري من عمق صحراء النقب إلى أطراف شوارع المدينة القابعة تحت سلاح الاحتلال، ويصير تصاعد أصواتها في الرواية مُوازياً لشدة اليأس؛ حيث لا أحد يستدل من نباحها على جرائم الاحتلال القابعة تحت الأرض وفوقها: «أصوات إطلاق الرصاص، وصفارات الدوريات العسكرية، تليها صافرات الإسعاف، ليست فقط جميعها تسبق نشرات الأخبار العاجلة، بل وتزاحم نباح الكلب في أن يكون جزءاً من صوت الفضاء».

في الزمن الآخر للرواية، تسير البطلة وراء شغف عارم يقودها للتنقيب حول حادثة مقتل الفتاة البدوية بعد اغتصابها من قبل جيش الاحتلال وقتلها قبل 25 سنة. تقرأ عنها في مقال عابر لصحافي إسرائيلي، وتتأسس رابطة بين البطلة وتلك الحادثة التي وقعت قبل ربع قرن بسبب تفصيلة تبدو «ثانوية»، وهي أن تاريخ هذا الحادث هو ذاته تاريخ ميلادها، فتشعر أن ثمة آصرة ذاتية تربطها بتلك الفتاة التي قُتلت يوم وُلدت هي للحياة.

تتأمل الكاتبة جوهر التفاصيل الثانوية سبيلاً للبحث عن الحقيقة، فطبيعتها الشخصية تنزح في اتجاه ملاحظة التفاصيل الصغيرة، في مراجعة تخلقها الرواية حول قيمة العودة للهوامش لقراءة المتون، على رأسها جرائم الاحتلال، الذي تقارب بينه في أحد مشاهد الرواية وبين تاريخ مُزوّري الفنون؛ حيث يعمد مُزوّر اللوحات الفنية إلى الانتباه لتفاصيلها الهامشية، لتقليدها بنجاح يكاد يقترب بها من الأصل، وهكذا يمكن التعامل مع السرديات التاريخية للمُحتل.

محطات بحثية

تأخذ البطلة هذا «التفصيل الثانوي» بجديّة، ليس بمجرد تأمل التاريخ الخفي بينها وبين فتاة النقب المُغتصبة، ولكن بما يشبه العقيدة التي تُشبِهها بصورة لاقتلاع ضمّة عشب ما من جذورها، بحيث يعتقد البعض أنه تم الخلاص منها نهائياً، لكنها تعود وتنبت عشبة من الفصيلة ذاتها من جديد في المكان نفسه بعد ربع قرن من الزمن.

تقطع البطلة محطات «بحثية» طويلة للوصول لحقيقة تلك الحادثة وملابساتها، وخلال تلك الرحلة تُصوّر الرواية أوجه المشقة اليومية لفلسطيني الداخل في التنقل بين الحدود التي قسّم بها الاحتلال بلادهم؛ حيث الحياة بِرمتها نقاط تفتيش متتالية، تسعى البطلة وراء مسارات صعبة لتستطيع العبور بها إلى أرشيفات إسرائيلية، فتستعير هُوية فتاة أخرى لعلها تجد بها ضالتها

حول ملابسات الحادث، إلا أنها تجد نفسها أمام معادلات جغرافية وسياسية مُعقدة؛ حيث يستلزم منها الوصول لأرشيف صحراء النقب عبورها من المنطقة «أ» حيث تقطن، إلى المنطقة «ج» حيث يقع الأرشيف، وهي رحلة تكاد تكون مستحيلة حسب تقسيم الجيش الإسرائيلي للبلاد.

خلال تلك المسافة التي قطعتها البطلة، تضيء الرواية الكثير من مفارقات احتكار الاحتلال الإسرائيلي للسردية التاريخية، والتوثيق الذي أودعوه مُشوهاً في متاحفهم العسكرية. تُواجه التيه وهي تستدل على موقع الحادث بيافطات مكتوبة بالعبرية، تجد نفسها مُنقسمة بين خرائط فلسطينية تُصوّر فلسطين حتى عام 1948، وأخرى إسرائيلية تكتشف بها كيف أزيلت قرى بالكامل ولم يعد لها وجود مثل لفتا، والقستل، والمالحة، وساريس وغيرها الكثير، بعد أن تم تدميرها وتشريد قاطنيها، ليحل محلها في الخريطة الإسرائيلية مُتنزه كبير يحمل اسم «متنزه كندا».

يصبح بحث البطلة عن ملابسات جريمة قبل ربع قرن في حد ذاته فعل مُقاومة ودفاع عن الوطن المُغتصب؛ حيث جريمة واحدة هي كل الجرائم، وفتاة النقب مجرد نسخة للبطلة المُعاصرة في حياة سابقة، وكما جمعهما «تاريخ» مُشترك، يجمع بينهما كذلك «مصير» مشترك، لا يُفرق بين كل من يقترب أو يُنقب وراء جرائم الاحتلال: «لا مجال للرجوع الآن، بعد أن تجاوزت الحدود جميعها، العسكرية والجغرافية والجسدية والنفسية والعقلية»، تقول البطلة وهي تستشرف نصيبها من المُقاومة، ولو كان ثمنه الحياة نفسها.


مقالات ذات صلة

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

ثقافة وفنون أرنست رينان

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق.

د. محسن جاسم الموسوي
ثقافة وفنون جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

منذ رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وحتى أعمال إلياس خوري، وقبلهما التوحيدي والجاحظ، هناك أنواع متعدّدة من السرد.

قاسم حداد
ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

كشف أثري بمقبرة في بلدة بالبحرين، تم العثور فيها على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني فريد من نوعه.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

ديوان جديد للشاعر المصري سامح محجوب يستعيد من خلال أجوائه جماليات قصيدة التفعيلة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر
TT

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

عن دار «العربي» للنشر في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «المغفلون» للكاتب الفرنسي إريك نويوف، ترجمة لطفي السيد منصور. ويشير المترجم في تقديمه لها إلى أنه في أحد حوارات ميلان كونديرا الذي يعدِّد فيه أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، أكد أن «رواية الرسائل»، التي تعتمد في بنيتها على الرسالة، أتاحت حرية شكلية كبيرة للغاية لأن الرسالة يمكنها استيعاب كل شيء بشكل طبيعي جداً مثل التأملات والاعترافات والذكريات والتحليلات السياسية والأدبية. ويعتقد المترجم أنه من أجل هذه الحرية واستيعاب موجة غضب الراوي الذي سُرقت منه حبيبته وذاكرته الغاضبة المرتبكة، اختار المؤلف شكل الرسالة ليبني عليها معمار روايته.

وتعد الرواية رسالة طويلة يوجهها بطلها الراوي الشاب ذو الأعوام الثلاثين ويعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق حبيبته المثيرة والمتقلبة «مود» والذي قابله في أثناء قضاء الأخير عطلة في جزيرة قبالة مدينة روما. في البداية لم يكشف الرجل عن هويته الحقيقية لكن فيما بعد اكتشف أنه سيباستيان بروكينجر (كاتب أمريكي شهير، منسحب من الحياة العامة و قرر الاختفاء من العالم والإقامة في غابة ليعيش حياة وديعة بعيدة عن صخب الشهرة).

تبدو القصة العامة هنا مجرد حيلة فنية استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم وهل نعيش عصراً يتآمر علينا، وكيف أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكّننا ولا يمكّن الآخرين من التأمل فيها وفهمها. والرواية إجمالاً قصيرة، كُتبت برشاقة وتكثيف، تتخللها أقوال مأثورة فاتنة ومخيِّبة للآمال، كما تختلط فيها المشاعر باللامبالاة، في إيقاع سردي لاهث حاد اللهجة، يتسم أحياناً بالتشنج والعصبية؛ فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وذاكرته وما يتوارد إليها.

نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ فالحبيب يعمل في الدعاية والإعلان، تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء حتى الشيء وضده، وتُقنعك بأن تشتري ما لا تحتاج إليه. والحبيبة التي سُرقت منه تعمل في تسويق العقارات، وهو مجال مشابه يقوم على مبدأ البيع بأي طريقة. أما الكاتب الأمريكي الغني، فقد استطاع بحكم مهنته أن يبهر «مود» بماله وممتلكاته وهالته الملغزة، هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يُغري الفتاة بشراء رجل عجوز وترك شاب ثلاثيني.

وإريك نويوف، كاتب وصحفي فرنسي وُلد 1956، بدأ مشواره الأدبي 1980 وكتب نحو 20 عملاً أدبياً منها هذه الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في 2001 و فازت بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«عندما أفكر ثانيةً في مود أتذكر شارع ميزيير، أرى سيارتها الصغيرة في جراج السكان بملصقها الأصفر على الزجاج الأمامي وساعتها التي كانت تؤخِّرها ساعةً كل صيف. أفكر في الأطفال الذين لم نلدهم والذين كانوا سيلعبون في حديقة لوكسمبورغ القريبة جداً. مود، لو سمحتِ توقفي عن النظر من فوق كتف سيباستيان، أعرفك... اتركينا لو سمحتِ، نحن في جلسة تقتصر على الرجال فقط. سيحكي لكِ سيباستيان كل هذا بالتفصيل بمجرد الانتهاء منها. قلْ لها يا سيباستيان، فلتذهبي لتُنزِّهي الكلب العجوز الذي ينام عند قدميكِ وأنتِ تكتبين على الآلة الكاتبة.

أعرف أنكَ ولدتَ يا عزيزي عام 1929، شيء من هذا القبيل. تلاعبت بكل سجلاتك في مدرسة الليسيه التي كنت ترتادها. رفض المدير أن يزوِّدنا بأي معلومات تخصك، سجلك العسكري أيضاً يتعذر الوصول إليه على نحو غامض. احترق المكتب الذي كان يحويه، لم يعد هناك أي أثر لملفك الجامعي. نشرت أولى قصصك في صحيفة الطلبة، فيما كنت بالكاد في العشرين من العمر، قصة عن الانتحار وعن سمك القراميط. في فترة ما كنت تعمل على مركب يُبحر في عرض الكاريبي، كانت الكبائن ممتلئة بالمتقاعدين الذين يرتدون شورتات قصيرة ولا يغادر نصفهم حافة المرسى. كان من المفترض أن تكون المرشد الخاص بهم، هناك لغز ما في ذلك في رأيي، من الواضح جداً أنك تمسكت بهذه الوظيفة لتحقق بسببها نتائج جيدة في سيرتك الذاتية».