سيرة مفتوحة على تراجيديا الغياب

الشاعر الفلسطيني غسان زقطان في «تحدّث أيها الغريب تحدّث»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

سيرة مفتوحة على تراجيديا الغياب

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

لا يمكن للشاعر الفلسطيني أنْ يحتفي باللغة إلّا بوصفها طقساً، ليس للتطهير فحسب، بل لاستعادة الغائب، ووعي وجوده، حتى وإن كان «وعياً شقياً» أو قاسياً، إذ تتحول لعبة التدوين/ الكتابة إلى رغبة حميمة في تقويض ما يصنعه الغياب، وفي التلمّس القصدي لاستيهامات ذلك الوجود، عبر استعادة المعنى والامتلاء به، أو عبر الكشف عن شواظ الجسد المنفي والمطرود، أو عبر ما يعانيه من مكوثٍ قلِقٍ في المكان الطارئ، وكذلك عبر ما يتبدّى من سؤال الكينونة المهجوسة بالخوف، حيث تكون القصيدة هي استعارة كبرى لممارسة فعل الاستعادة، مثلما تكون هي المجسّ والدليل للمعرفة والاستكناه، أو هي العصا المثيولوجية للبصيرة، حيث تعني توظيف ذلك الوعي الشقي، أو القلِق في لعبة التصريح، في تمثيل خطاب الاحتجاج، أو في نفي الغياب والفراغ، أو ربما في ترميم التاريخ المُهدد بالمحو دائماً.

في كتابه الشعري «غرباء بمعاطف خفيفة» منشورات «ملتقى الطرق» (الدار البيضاء/ 2021) يأخذنا غسان زقطان عبر عناوين فارقة، وقصائد مكثفة، إلى عوالم تضجُّ بأسئلته، فهو يستغور عبرها هواجس الفلسطيني المسكون بنقائض ثنائية الحياة والموت، فتحضر فكرة «الطريق» بوصفها بحثاً عن الوجود، أو تعرّفاً على ما يجري، أو على ما يعانيه من فقدٍ وغيابٍ، فتبدو القصيدة وكأنها نصٌ موازٍ للحياة، واضحة، لكنها ضاجّة بأصواتٍ عميقة، تستنفر استعاراتها للإيهام باستعادة الغائب، بوصفه النظير لاستعادة «الوطن»، فضلاً عن كونها مكشوفةً على التفاصيل التي تحتشد بالوجع والانتظار والخوف والموت، إذ يصطنع الشاعر عبر تمثله للغة النثر المتوهجة صوراً تتسع لتلك الاستعارات التي لا تنفصل عن الحياة ذاتها، ولا عن ذاكرةٍ تحفل بسيرِ الموتى والهجرات وأرواح العالقين بدوستوبيا الأمكنة:

لم تكن تنقصهم الشجاعة ولا المرح،

أولئك الفتية الذين رفعوا أيديهم المحترقة بالبارود،

وقمصانهم المدماة في ذلك الفجر من أكتوبر.

كتابة زقطان تنزع إلى ما يشبه الاستذكار، حيث تستعيد القصيدة وجوه الغائبين، المسكونين بالحلم، الذين يحملون معهم ذاكرة المدن المكشوفة على الحرب والضحك والحلم، فيجد الشاعر في ذلك النزوع نوعاً من الشغفِ بسحرِ الاستعادة، وأحسب أنّ قصيدته المُهداة إلى أمجد ناصر«أقف بجانبك» تجاهر بذلك السحر النقيض للغياب، فنجد في لعبة الاستعادة تعرية صاخبة للموت، بوصفه خطفاً مريعاً، ليس للكائن الصديق فحسب، بل للوجود وللتفاصيل الحافلة بالأسرار واليوميات، التي لا يملك الفلسطيني سوى استعادة علاماتها التي تُذكّره بالحياة المطعونة بالغياب..

أقف إلى جانبك ولا تراني،

ولكنك تتذكر شجاراتنا على الفتيات الغيرة التي عضت أحلامنا.

ثيمة التذكّر تكشف عن الشغف بتلك الحياة، عبر الإيحاء برمزية الحضور، إذ يكون الوقوف تشفيراً لذلك الحضور، مقابل الغياب الذي توحي به جملة النفي الفعلية «ولا تراني»، التي يجعلها الشاعر استعارته النفسية لاستيهام مجاز الإشباع عبر استدعاء الغائب، وعبر تحويل هذا الاستدعاء إلى ما يشبه الحفر في التفاصيل التي يمكن لحضورها أن يُقوّض ذلك الغياب.

ولعل قصيدة «الأمل بقلبه المعشب» التي اختارها الشاعر للغلاف الخلفي لكتابه الشعري، توحي، وربما تختصر وجود الشاعر في اللغة، فيجعلها الشاعر عتبته أو مناصته المتعالية، التي تُحرّض على إعادة القراءة، وكأنها هي التحريض العلني على التمسك بالحياة، إذ تبدو رغبة الشاعر مفتوحة على انشغالات فكرية وصورية واستعادية تستفزه لمقاربة أشياء تتكثف فيها دلالات وجوده عند أمكنة غائرة، أو عند حكايات تتسع لاستذكار غائبين، أو لمجازات «قصائد عابرة» تمنحها عنونة «الأمل والقلب المُعشب» نوعاً من الحساسية التي تجعل من وجودها عناداً ضدياً للبقاء إزاء ما يفرضه الغيابُ من فقدٍ أو محوٍ أو موتٍ.

أكتب أشياء لا يحبها أصدقائي،

حواشي لا ينتبه إليها جيراني الذين تسرقهم الحياة كل يوم،

نصوصًا متكتّمة لا يلتفت إليها زملائي في المقهى،

قصائد لا يحبها أحد،

مشغولة بالغياب والافتقاد،

أكتب مراثي للحبّ والأسماء القديمة،

تتخفّى وراء مجازات لا تشي بالرثاء،

الأمل فقط،

الأمل دون غيره،

بقلبه المعشب،

موحشًا وعنيدًا، يدفعها نحو الضوء.

فرادة الكتابة عند غسان زقطان تتكشفُ عبر ما تستغرقه رؤيته القلقة، المشوبة بحذر مَن يبحث عن ذاته، فيجد في تدوين هذا القلق كشفاً فاضحاً عن سلالة الفلسطيني الأسطوري والمهاجر والمنفي والمقتول، وبما يجعل من تدوينه شهادةً لوجوده، وعلى نحوٍ يجعله يستدرج له الاستعارات والأقنعة لكي يصطنع للبقاء/ المكوث وجوداً رمزياً عبر قصيدته الشخصية، تلك القصيدة التي تنأى بنفسها بعيداً عن حرائق التكرار، فسيرة الفلسطيني - كما اعتدنا- لا تحضر إلّا بوصفها سيرةً للغائب، بعيداً عن استيهامات الاحتشاد الشعري، الواقف تحت يافطة «القضية» التي استغوت الكتابة عنها كرهانٍ على القربِ منها، أو في البُعدِ عنها، حتى بدا البعض منهم يُضلل الوجود، عبر تكرار وظيفة المُغنّي العالق بحنجرة الوقت والتاريخ، وهذا ما يجعل شغف غسان بالفرادة ليس بعيداً عن «وعيه الشقي»؛ الوعي المدسوس مثل جرحٍ نازف، يقاوم الاندمال، لكنه يجاهر بالوجع والنزف، وكأنه نظيرٌ لوجع القلق والاغتراب، مثلما يجاهر بالمغايرة، بوصفها حقه الشعري، ليس للخروج النافر عن «السيرة» و«السلالة»، بل لـ«خصخصة» وعي هذه السيرة وسلالتها، وليصطنع عبر طقسه الشخصي، طقس الاحتفاء بحضوره إزاء ما تمور به «سرديات غيابه» في المكان والهوية، فيكتب باستعارة عاليةٍ عن «غرباء المعاطف الخفيفة» بوصفه واحداً منهم، فيكتب عن «الحقائب المنسية في الليل» وكأنه يستعير عصا التائه الشعري الذي أضناه المنفى، فراح يتقصى وضوحه في ليل الاغتراب، ويكتب عن الآخرين والمدن وكأنه يكتب من خلالها عن سيرته الشخصية، بوصفه الشاعر الرائي، الكاشف والعارف بأسرار العابر والغائب وأطراسهما.

ما قاله الشاعر.. ما تحدّث به الغريب

في كتابه الشعري «تحدّث أيها الغريب تحدّث» الصادر عن منشورات المتوسط/ إيطاليا 2019 يستعير غسان زقطان قناع الغريب، ليستدّل على الغائب، يدوّن سيرته، منحازاً إلى تمثيل خلاصه، ومحتفياً بحريته الشائهة، وبشهوة «الحديث» الذي يجعله الغريب قرينه، وهاجساً لوعي وجوده، ودافعاً لمواجهة ذاكرة الوصايا، إذ تكون حريته هي استعارته الكبرى، وهي شغفه في كتابة المختلف، وفي الكشف عن المخفي، فالغريب الذي يشبهه هو ذاته الكائن المتمرد على وجوده ومنفاه، مثلما هي القصيدة التي تستغرقه في سعة ما تراه الأنا، وفي سعة «النص المفتوح» الذي يجعله حراً، لكن ليس للتحرر من ذاكرة الغناء، بل لكي يهب القصيدة «سعة الخبرة» التي تُعطي للشاعر فرادته، ليس للانعتاق من «عباءة محمود درويش»، بل لتكون تلك الخبرة وعياً بالتجاوز، وطاقة بصناعة ما يشبه «معجزة القصيدة» التي تتمثلها أصداء الغربة، وأصداء الذات القلقة، المسكونة باليومي والذاتي، واللا مألوف، وربما المفتوحة على ما تنزفه الذاكرة وهي ترقب ما تصنعه قسوة الغياب، وما يتعطب من الذات النازفة في أمكنة تضيق، لكنها تتحفزُ بعناد، لتقفزَ باستعاراتها ومجازاتها إلى أفقٍ يكون الغريب هو شاهده الأكثر جرأه، وحامل زوادته في البحث عن الغائب.

امكث قليلاً أيها الغريب،

لن أسألك عن اسمك أو وجهتك،

فقط اجلس تحت ضوء الشمعة

التي أشعلتها من أجلك.

لا تذكر الهيئة التي كنتها،

وتحدّث، تحدّث أيها الغريب،

تحدّث لأجدَ صوتي

الذي أخذته الرياح حمالة الرمل..

الشاعر وتقانة الإيجاز

كثافة الشعري في تجربة زقطان لا تكتفي بتقانة الإيجاز، ولا بحيوية الجملة القصيرة، بل تكشف عن هوس الشاعر بالمغايرة، وبما يجعل هذه الثنائية شغفاً بتجاوز السائد، وكتابة القصيدة التي تحتشد بالإشارات، والأصوات التي توقظ المخفي، فيستدعي لها شفرات الصوفي واليومي والمثيولوجي والسيروي، وكأنه يصنع عبر التشكيل ما يُبرر شغفه بالطقس الذي يحتفي بالحياة عبر ما يصنعه الغريب في سيرته وتجواله.

رأيت الكثير من العيون،

تلمُّ صنعتي،

سرقتُ خوفها، ألمها وأحزانها،

وبعتها لأغرابٍ جاءوا للفرجة..

تحتشد هذه الجمل الشعرية الفعلية بإيحاءات لاستحضار الوجع الذاتي، وبهواجس الغربة والقلق، التي تضع الشاعر إزاء محمولات رمزية لما يحمله وجعه الوجودي، حيث الغياب القاسي والحضور الفاجع، وحيث النقائض التي تستلبه، وحيث يكون «الوعي القاسي» تمثيلاً لسؤال الفلسطيني الذي يساكن اللغة بوصفها سحراً للتطهير، وبلاداً للاستعارات، يكون الشاعر فيها باحثاً، ومهجوساً برعب هذا السؤال، والإنصات إلى علاماته الخبيئة، تلك العلامات التي تختصر زمنه النفسي، أو سيرته المفتوحة على تراجيديا الغياب.

اللغة عند الشاعر هي معادل وجوده الغرائبي، وربما معادل غيابه، لذا تضج القصيدة بأصواته الضاجة، جملها المكثفة واخزة ومُستَفِزة، تكشف عن المخفي من النقائض، وعن شهوة البقاء، إذ يعمد عبر «قصيدته الشخصية» إلى اصطناع وعي لمفهوم الحضور بمعناه الفلسفي، أو حتى بمعناه الصوفي، بوصف الكتابة هي التجليات العالية، وهي الحساسية الفائرة، التي تدفعه إلى الكتابة المغايرة، بوصفها مغايرة اغتنت بتجارب واسعة، تسعى للتحرر من عقدة الصوت الدرويشي، بوصف الحرية - هنا - قناعاً آخر للوعي القاسي، الذي لا يبحث عن الوجود المغاير فقط، بل عن الأفق المغاير واللغة التي يصنعها، لتقويل العالم بأشياء مختلفة، تتقشر فيها اللغة عن تاريخها الغنائي والاستعاري، ليبدو عريها مكشوفاً وفاضحاً، صانعاً لدهشة الافتراق، ومكشوفاً على ما هو مغاير في ثنائية التجاوز والمغايرة، وإعادة توصيف «الذات» الفلسطينية، ليس بوصفها التاريخي، بل بوصفها المثيولوجي الذي تستغرقه أساطير الغياب والعودة، وحتى أساطير سرّاق الحكمة، وأصحاب العبث السيزيفي.

لم نكد نتبع الحلم

حتى أفقنا،

وكي أستطيع التذكّر

إنّا مشينا وراء عتمة البئر

حتى وصلنا معاً

وافترقنا..

ولما شربنا من الماء سبعاً،

ولمّا ارتوينا وكدنا

شرقنا!


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي