سيرة مفتوحة على تراجيديا الغياب

الشاعر الفلسطيني غسان زقطان في «تحدّث أيها الغريب تحدّث»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

سيرة مفتوحة على تراجيديا الغياب

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

لا يمكن للشاعر الفلسطيني أنْ يحتفي باللغة إلّا بوصفها طقساً، ليس للتطهير فحسب، بل لاستعادة الغائب، ووعي وجوده، حتى وإن كان «وعياً شقياً» أو قاسياً، إذ تتحول لعبة التدوين/ الكتابة إلى رغبة حميمة في تقويض ما يصنعه الغياب، وفي التلمّس القصدي لاستيهامات ذلك الوجود، عبر استعادة المعنى والامتلاء به، أو عبر الكشف عن شواظ الجسد المنفي والمطرود، أو عبر ما يعانيه من مكوثٍ قلِقٍ في المكان الطارئ، وكذلك عبر ما يتبدّى من سؤال الكينونة المهجوسة بالخوف، حيث تكون القصيدة هي استعارة كبرى لممارسة فعل الاستعادة، مثلما تكون هي المجسّ والدليل للمعرفة والاستكناه، أو هي العصا المثيولوجية للبصيرة، حيث تعني توظيف ذلك الوعي الشقي، أو القلِق في لعبة التصريح، في تمثيل خطاب الاحتجاج، أو في نفي الغياب والفراغ، أو ربما في ترميم التاريخ المُهدد بالمحو دائماً.

في كتابه الشعري «غرباء بمعاطف خفيفة» منشورات «ملتقى الطرق» (الدار البيضاء/ 2021) يأخذنا غسان زقطان عبر عناوين فارقة، وقصائد مكثفة، إلى عوالم تضجُّ بأسئلته، فهو يستغور عبرها هواجس الفلسطيني المسكون بنقائض ثنائية الحياة والموت، فتحضر فكرة «الطريق» بوصفها بحثاً عن الوجود، أو تعرّفاً على ما يجري، أو على ما يعانيه من فقدٍ وغيابٍ، فتبدو القصيدة وكأنها نصٌ موازٍ للحياة، واضحة، لكنها ضاجّة بأصواتٍ عميقة، تستنفر استعاراتها للإيهام باستعادة الغائب، بوصفه النظير لاستعادة «الوطن»، فضلاً عن كونها مكشوفةً على التفاصيل التي تحتشد بالوجع والانتظار والخوف والموت، إذ يصطنع الشاعر عبر تمثله للغة النثر المتوهجة صوراً تتسع لتلك الاستعارات التي لا تنفصل عن الحياة ذاتها، ولا عن ذاكرةٍ تحفل بسيرِ الموتى والهجرات وأرواح العالقين بدوستوبيا الأمكنة:

لم تكن تنقصهم الشجاعة ولا المرح،

أولئك الفتية الذين رفعوا أيديهم المحترقة بالبارود،

وقمصانهم المدماة في ذلك الفجر من أكتوبر.

كتابة زقطان تنزع إلى ما يشبه الاستذكار، حيث تستعيد القصيدة وجوه الغائبين، المسكونين بالحلم، الذين يحملون معهم ذاكرة المدن المكشوفة على الحرب والضحك والحلم، فيجد الشاعر في ذلك النزوع نوعاً من الشغفِ بسحرِ الاستعادة، وأحسب أنّ قصيدته المُهداة إلى أمجد ناصر«أقف بجانبك» تجاهر بذلك السحر النقيض للغياب، فنجد في لعبة الاستعادة تعرية صاخبة للموت، بوصفه خطفاً مريعاً، ليس للكائن الصديق فحسب، بل للوجود وللتفاصيل الحافلة بالأسرار واليوميات، التي لا يملك الفلسطيني سوى استعادة علاماتها التي تُذكّره بالحياة المطعونة بالغياب..

أقف إلى جانبك ولا تراني،

ولكنك تتذكر شجاراتنا على الفتيات الغيرة التي عضت أحلامنا.

ثيمة التذكّر تكشف عن الشغف بتلك الحياة، عبر الإيحاء برمزية الحضور، إذ يكون الوقوف تشفيراً لذلك الحضور، مقابل الغياب الذي توحي به جملة النفي الفعلية «ولا تراني»، التي يجعلها الشاعر استعارته النفسية لاستيهام مجاز الإشباع عبر استدعاء الغائب، وعبر تحويل هذا الاستدعاء إلى ما يشبه الحفر في التفاصيل التي يمكن لحضورها أن يُقوّض ذلك الغياب.

ولعل قصيدة «الأمل بقلبه المعشب» التي اختارها الشاعر للغلاف الخلفي لكتابه الشعري، توحي، وربما تختصر وجود الشاعر في اللغة، فيجعلها الشاعر عتبته أو مناصته المتعالية، التي تُحرّض على إعادة القراءة، وكأنها هي التحريض العلني على التمسك بالحياة، إذ تبدو رغبة الشاعر مفتوحة على انشغالات فكرية وصورية واستعادية تستفزه لمقاربة أشياء تتكثف فيها دلالات وجوده عند أمكنة غائرة، أو عند حكايات تتسع لاستذكار غائبين، أو لمجازات «قصائد عابرة» تمنحها عنونة «الأمل والقلب المُعشب» نوعاً من الحساسية التي تجعل من وجودها عناداً ضدياً للبقاء إزاء ما يفرضه الغيابُ من فقدٍ أو محوٍ أو موتٍ.

أكتب أشياء لا يحبها أصدقائي،

حواشي لا ينتبه إليها جيراني الذين تسرقهم الحياة كل يوم،

نصوصًا متكتّمة لا يلتفت إليها زملائي في المقهى،

قصائد لا يحبها أحد،

مشغولة بالغياب والافتقاد،

أكتب مراثي للحبّ والأسماء القديمة،

تتخفّى وراء مجازات لا تشي بالرثاء،

الأمل فقط،

الأمل دون غيره،

بقلبه المعشب،

موحشًا وعنيدًا، يدفعها نحو الضوء.

فرادة الكتابة عند غسان زقطان تتكشفُ عبر ما تستغرقه رؤيته القلقة، المشوبة بحذر مَن يبحث عن ذاته، فيجد في تدوين هذا القلق كشفاً فاضحاً عن سلالة الفلسطيني الأسطوري والمهاجر والمنفي والمقتول، وبما يجعل من تدوينه شهادةً لوجوده، وعلى نحوٍ يجعله يستدرج له الاستعارات والأقنعة لكي يصطنع للبقاء/ المكوث وجوداً رمزياً عبر قصيدته الشخصية، تلك القصيدة التي تنأى بنفسها بعيداً عن حرائق التكرار، فسيرة الفلسطيني - كما اعتدنا- لا تحضر إلّا بوصفها سيرةً للغائب، بعيداً عن استيهامات الاحتشاد الشعري، الواقف تحت يافطة «القضية» التي استغوت الكتابة عنها كرهانٍ على القربِ منها، أو في البُعدِ عنها، حتى بدا البعض منهم يُضلل الوجود، عبر تكرار وظيفة المُغنّي العالق بحنجرة الوقت والتاريخ، وهذا ما يجعل شغف غسان بالفرادة ليس بعيداً عن «وعيه الشقي»؛ الوعي المدسوس مثل جرحٍ نازف، يقاوم الاندمال، لكنه يجاهر بالوجع والنزف، وكأنه نظيرٌ لوجع القلق والاغتراب، مثلما يجاهر بالمغايرة، بوصفها حقه الشعري، ليس للخروج النافر عن «السيرة» و«السلالة»، بل لـ«خصخصة» وعي هذه السيرة وسلالتها، وليصطنع عبر طقسه الشخصي، طقس الاحتفاء بحضوره إزاء ما تمور به «سرديات غيابه» في المكان والهوية، فيكتب باستعارة عاليةٍ عن «غرباء المعاطف الخفيفة» بوصفه واحداً منهم، فيكتب عن «الحقائب المنسية في الليل» وكأنه يستعير عصا التائه الشعري الذي أضناه المنفى، فراح يتقصى وضوحه في ليل الاغتراب، ويكتب عن الآخرين والمدن وكأنه يكتب من خلالها عن سيرته الشخصية، بوصفه الشاعر الرائي، الكاشف والعارف بأسرار العابر والغائب وأطراسهما.

ما قاله الشاعر.. ما تحدّث به الغريب

في كتابه الشعري «تحدّث أيها الغريب تحدّث» الصادر عن منشورات المتوسط/ إيطاليا 2019 يستعير غسان زقطان قناع الغريب، ليستدّل على الغائب، يدوّن سيرته، منحازاً إلى تمثيل خلاصه، ومحتفياً بحريته الشائهة، وبشهوة «الحديث» الذي يجعله الغريب قرينه، وهاجساً لوعي وجوده، ودافعاً لمواجهة ذاكرة الوصايا، إذ تكون حريته هي استعارته الكبرى، وهي شغفه في كتابة المختلف، وفي الكشف عن المخفي، فالغريب الذي يشبهه هو ذاته الكائن المتمرد على وجوده ومنفاه، مثلما هي القصيدة التي تستغرقه في سعة ما تراه الأنا، وفي سعة «النص المفتوح» الذي يجعله حراً، لكن ليس للتحرر من ذاكرة الغناء، بل لكي يهب القصيدة «سعة الخبرة» التي تُعطي للشاعر فرادته، ليس للانعتاق من «عباءة محمود درويش»، بل لتكون تلك الخبرة وعياً بالتجاوز، وطاقة بصناعة ما يشبه «معجزة القصيدة» التي تتمثلها أصداء الغربة، وأصداء الذات القلقة، المسكونة باليومي والذاتي، واللا مألوف، وربما المفتوحة على ما تنزفه الذاكرة وهي ترقب ما تصنعه قسوة الغياب، وما يتعطب من الذات النازفة في أمكنة تضيق، لكنها تتحفزُ بعناد، لتقفزَ باستعاراتها ومجازاتها إلى أفقٍ يكون الغريب هو شاهده الأكثر جرأه، وحامل زوادته في البحث عن الغائب.

امكث قليلاً أيها الغريب،

لن أسألك عن اسمك أو وجهتك،

فقط اجلس تحت ضوء الشمعة

التي أشعلتها من أجلك.

لا تذكر الهيئة التي كنتها،

وتحدّث، تحدّث أيها الغريب،

تحدّث لأجدَ صوتي

الذي أخذته الرياح حمالة الرمل..

الشاعر وتقانة الإيجاز

كثافة الشعري في تجربة زقطان لا تكتفي بتقانة الإيجاز، ولا بحيوية الجملة القصيرة، بل تكشف عن هوس الشاعر بالمغايرة، وبما يجعل هذه الثنائية شغفاً بتجاوز السائد، وكتابة القصيدة التي تحتشد بالإشارات، والأصوات التي توقظ المخفي، فيستدعي لها شفرات الصوفي واليومي والمثيولوجي والسيروي، وكأنه يصنع عبر التشكيل ما يُبرر شغفه بالطقس الذي يحتفي بالحياة عبر ما يصنعه الغريب في سيرته وتجواله.

رأيت الكثير من العيون،

تلمُّ صنعتي،

سرقتُ خوفها، ألمها وأحزانها،

وبعتها لأغرابٍ جاءوا للفرجة..

تحتشد هذه الجمل الشعرية الفعلية بإيحاءات لاستحضار الوجع الذاتي، وبهواجس الغربة والقلق، التي تضع الشاعر إزاء محمولات رمزية لما يحمله وجعه الوجودي، حيث الغياب القاسي والحضور الفاجع، وحيث النقائض التي تستلبه، وحيث يكون «الوعي القاسي» تمثيلاً لسؤال الفلسطيني الذي يساكن اللغة بوصفها سحراً للتطهير، وبلاداً للاستعارات، يكون الشاعر فيها باحثاً، ومهجوساً برعب هذا السؤال، والإنصات إلى علاماته الخبيئة، تلك العلامات التي تختصر زمنه النفسي، أو سيرته المفتوحة على تراجيديا الغياب.

اللغة عند الشاعر هي معادل وجوده الغرائبي، وربما معادل غيابه، لذا تضج القصيدة بأصواته الضاجة، جملها المكثفة واخزة ومُستَفِزة، تكشف عن المخفي من النقائض، وعن شهوة البقاء، إذ يعمد عبر «قصيدته الشخصية» إلى اصطناع وعي لمفهوم الحضور بمعناه الفلسفي، أو حتى بمعناه الصوفي، بوصف الكتابة هي التجليات العالية، وهي الحساسية الفائرة، التي تدفعه إلى الكتابة المغايرة، بوصفها مغايرة اغتنت بتجارب واسعة، تسعى للتحرر من عقدة الصوت الدرويشي، بوصف الحرية - هنا - قناعاً آخر للوعي القاسي، الذي لا يبحث عن الوجود المغاير فقط، بل عن الأفق المغاير واللغة التي يصنعها، لتقويل العالم بأشياء مختلفة، تتقشر فيها اللغة عن تاريخها الغنائي والاستعاري، ليبدو عريها مكشوفاً وفاضحاً، صانعاً لدهشة الافتراق، ومكشوفاً على ما هو مغاير في ثنائية التجاوز والمغايرة، وإعادة توصيف «الذات» الفلسطينية، ليس بوصفها التاريخي، بل بوصفها المثيولوجي الذي تستغرقه أساطير الغياب والعودة، وحتى أساطير سرّاق الحكمة، وأصحاب العبث السيزيفي.

لم نكد نتبع الحلم

حتى أفقنا،

وكي أستطيع التذكّر

إنّا مشينا وراء عتمة البئر

حتى وصلنا معاً

وافترقنا..

ولما شربنا من الماء سبعاً،

ولمّا ارتوينا وكدنا

شرقنا!


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».