ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت

القصة التي تخطت المحلية لتصبح إحدى الأساطير المؤسسة للحب الإنساني

ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت
TT

ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت

ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت

قلّ أن عرفت قصة من قصص الحب عند العرب ذلك القدر من الشيوع والانتشار الذي عرفته قصة ليلى بنت المهدي وقيس بن الملوّح. ومع أن القصة المذكورة كانت واحدة من قصص الثنائيات العاشقة التي ارتبطت أسماء أبطالها الذكور بحبيباتهم، كما هو حال عروة عفراء وجميل بثينة وقيس لبنى وكثيّر عزة، إلا أنها استطاعت أن تتعدى كونها جزءاً لا يتجزأ من الأساطير المؤسسة للذاكرة والوجدان عند العرب، لتصل تردداتها لمسامع الأمم الأخرى وتؤثر بشكل واضح في آدابها ومخيلة كتّابها وتصوراتهم عن الشرق.

ومع أن قصة قيس وليلى تتقاطع من حيث وقائعها وتفاصيلها مع القصص المختلفة لشعراء بني عذرة، فإن ما انفردت به عن سواها هو جنون بطلها العاشق واختلاط عقله، ثم التوحد والانفصال عن الواقع وملازمة الوحوش في البراري. وإذا كان شعراء بني عذرة أحيطوا بالكثير من الشكوك من قبل بعض الدارسين، وفي طليعتهم طه حسين؛ حيث ذهب إلى التشكيك في أن يكون قيس بن الملوح شخصاً تاريخياً وُجد وعرفه الناس واستمعوا إليه: «أزعم أن قيس بن الملوح هو شخص من الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، أو شخص اخترعه نفر من الرواة ليلهو به الناس أو ليُرضوا به حاجة أدبية أو خلقية».

إلا أن شخصية المجنون المولود وفق معظم الروايات عام 645 م لا تعود لتاريخ بعيد ليسهل التشكيك بوجودها. وإذا كان بعض أخباره وأشعاره اختلط بأخبار الآخرين فهذا الاختلاط لا يمس وجوده بالذات، خصوصاً أن من نقلوا أخباره ووقائع حياته كانوا رواة موثوقين ومشهود لهم بسعة الاطلاع، من أمثال إسحاق الموصلي ومصعب الزبيري وأبو عمرو الشيباني والمدائني. في حين أن تداخل نصوصه مع نصوص أترابه من شعراء الحب ليس أمراً محصوراً بالشعر العذري وحده، بل ظاهرة تنسحب على نصوص الكثير من الشعراء الأقدمين، إما بسبب اختلاف أهواء الرواة ونقص مصداقيتهم، أو لتأثر بعض الشعراء بالبعض الآخر لحد السرقة والانتحال.

اللافت أن صاحب «حديث الأربعاء» استند فيما أبداه من شكوك بشأن المجنون لكتب التراث نفسها بخاصة ما ورد في كتاب «الأغاني» من شواهد ومرويات. فالأصفهاني يشير إلى أن غير واحد من بني عذرة ادعى عشقه لليلى، وبينهم قيس بن معاذ ومهدي بن الملوح، فيما يزعم ابن الكلبي أن الشعر المنسوب إلى قيس وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يُظهر للناس ما بينه وبينها فوضع حديث المجنون. كما ينقل عن أحد رجال بني عامر قوله «أوَقد فرغنا من أشعار العقلاء حتى نروي أشعار المجانين؟»، وحيث يظهر هذا النوع من الحب بوصفه هشاشة و«تخنثاً» لا يليقان بقبيلته، يضيف الرجل مستنكراً: «بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في اليمانية الضعاف قلوبها والسخيفة عقولها، وأما نزار فلا». وإذ يرى الأصمعي بأن ما أصاب قيساً هو نوع من اللوثة العقلية وليس جنوناً كاملاً، يروي أنه سأل أحدهم عن المجنون فأجابه: «لقد كان فينا جماعة رُموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ فقلت عن الذي كان يشبب بليلى، فقال كلهم كان يشبب بليلى»، ثم أنشده أبياتاً متفرقة لكل واحد منهم. ويحرص الأصفهاني على نقل الحقيقة من زاويتها الأخرى، فينقل عن أبي ثمامة الجعدي قوله: «لا يُعرف فينا مجنون سوى قيس بن الملوح».

يتناول الكتاب قصة الحب الشهيرة بين قيس بن الملوّح وليلى بنت المهدي، ويفند الشكوك الكثيرة التي أحاطت بها من قبل بعض الدارسين، وفي طليعتهم عميد الأدب العربي طه حسين، حيث ذهب إلى التشكيك في وجوده، وزعم أنه شخص من الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، وللهو أيضاً.

أما عن نشأة قيس وصباه، فإن المصادر التراثية لا تنقل عنه سوى ما اتصل بعلاقته بليلى، كما لو أن هذه الأخيرة هي التي منحته ولادته الحقيقية، فضلاً عن اسمه وشعره ومعنى وجوده. وتجمع هذه المصادر على أن قيساً بن الملوح وليلى بنت مهدي العامرية، وكنيتها أم مالك، كانا يرعيان في صغرهما مواشي ذويهما، إلى أن تمكن كل منهما من قلب صاحبه. وفي ذلك يقول قيس:

تعلقتُ ليلى وهي غرٌّ صغيرة

ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ

صغيرين نرعى البُهم يا ليت أننا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ

وحيث لم تشر المصادر إلى علاقة المجنون بنساء سوى ليلى، يروي السراج في «مصارع العشاق» أن قيساً كان يرتبط بعلاقة غرامية مع امرأة من بني الحريش مات زوجها، وأنه كان يبعث بها إلى ليلى لتسهيل لقاءاته بها. وحين علم ذوو ليلى بما يحدث عمدوا لزجر المرأة ونهيها عما تقوم به، ثم شكوا قيساً إلى مروان بن الحكم الذي طلب من عامله إبلاغه بالكف عن رؤية الفتاة، مهدداً بهدر دمه ما لم يمتثل للأمر.

كما تتعدد الروايات حول جنون قيس واختلاط عقله، فيشير بعضها إلى أن ذلك الجنون لم يحدث دفعة واحدة، بل بدا مع حرمانه من رؤية ليلى، ثم تدرج صعوداً مع رفض والدها تزويجها منه بدعوى تشبيبه بها. وقيل إنها حين تقدم لخطبتها كلٌّ من قيس وورد العقيلي أجبرها أهلها على اختيار الأخير، قائلين: «والله لنمثلنّ بك إن لم تختاري ورداً». وتنسب إحدى الروايات إلى أبيه قوله إن ابنه كان أجمل الفتيان وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب، ولكن ما أصابه من أعطاب في جسده وعقله، كان بسبب إعراض ليلى عنه وإقبالها على سواه. وقيل إنه بعد اختلاطه «كان لا يلبس إلا خرقة، ولا يمشي إلا عارياً ويجمع العظام من حوله، حتى إذا ذُكرت ليلى أنشأ يحدّث عنها بكامل عقله». وحين أخذه أبوه إلى مكة لقضاء فريضة الحج، سمع صائحاً في الليل يصيح يا ليلى، فصرخ صرخة كادت تتلف معها نفسه، وأنشد قائلاً:

وداعٍ دعا إذ نحن بالخيفِ من مِنى

فهيّج أحزان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائراً كان في صدري

ثم طلب أبوه إليه أن يتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله طالباً شفاءه من بلائه، فلم يكن منه إلا أن هتف بحرقة: «اللهم زدني لليلى حباً وبها كلفاً ولا تُنسني ذكرها أبداً». وحين تفاقم اضطرابه بدأ يهيم في البرية فيأكل من نبات الأرض ويشرب من ينابيعها وطال شعر رأسه حتى ألفته الظباء والوحوش ولم تعد تنفر منه. وذكر هيثم بن عدي أن المجنون التقى صدفة بزوج ليلى، وإذ فاجأه بالسؤال:

بربّك هل ضممت إليك ليلى

قبيل الصبح أو قبّلت فاها

وهل رفّت عليك قرون ليلى

رفيف الأقحوانة في نداها؟

أجابه زوجها بالقول: «اللهم إذ حلّفتني فنعم»، فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر وما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه وعض على شفته فقطعها. وقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً منه، ومع أن علاقة قيس بفتاته تكاد تخلو من الطابع الجسدي والشهواني، فقد حُكي أنه حين بلغه تعرّض ورد له بالسوء لم يتردد في أن يرسل له أبياتاً فضائحية تكشف عن علاقته الجسدية بزوجته ويقول فيها:

وأشهد عند الله أني رأيتها

وعشرون منها إصبعاً من ورائيا

أليس من البلوى التي لا شَوَى لها

بأن زُوّجت كلباً وما بُذلت ليا

وأغلب الظن أن المجنون قد نظم هذه الأبيات تنفيساً عن شعوره بالغيرة والغضب وإغاظة للزوج الشامت، وقد تكون منحولة من قبل الرواة.

أما فيما يخص أيامه الأخيرة، فرُوي أن المجنون كان يتردد إلى جبل يقال له التوباد؛ حيث كان هو وليلى يرعيان غنم أهلهما، وحين ذهب عقله بات يهيم على وجهه ويذرع القفار الشاسعة بين بلاد الشام وتخوم اليمن، متسائلاً عن موقع التوباد. فلما اهتدى إليه أنشد قائلاً:

وأجهشتُ للتوباد حين رأيته

وكبّر للرحمن حين رآني

وأذرفت دمع العين لما عرفته

ونادى بأعلى صوته فدعاني

فقلت له قد كان حولك جيرة

وعهدي بذاك الصرم منذ زمانِ

فقال مضوا واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثانِ

وقد بلغ نفوره من البشر حد أنه لم يعد يأنس إلى أي منهم باستثناء من يردد على مسامعه اسم ليلى وأشعاره عنها. كما نُمي عنه أنه كان يدخل في بعض حالات الوجد القصوى في نوع من الحلول الصوفي فيظن نفسه ليلى وينادي على قيس. وقد ظل ذووه يجرون خلفه في القفار ويتركون له الطعام ثم يتوارون عن مدى ناظريه حتى وجدوه ميتاً في وادٍ كثير الحجارة: «لم تبق فتاة من بني جعدة وبني الحريش إلا وخرجت حاسرة، فما رؤي من باكين وباكيات على رجل ميت أكثر مما رؤي في ذلك اليوم».


مقالات ذات صلة

«نتفليكس» تكسر «عزلة» ماركيز بالتعاون مع ولدَيه

يوميات الشرق الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز كاتب «مائة عام من العزلة»

«نتفليكس» تكسر «عزلة» ماركيز بالتعاون مع ولدَيه

بإشراف ولدَيه تنتقل رواية ماركيز «مائة عام من العزلة» إلى شاشة نتفليكس» في مسلسل وصفته المنصة بأنه «أحد الإنتاجات الأكثر طموحاً في أميركا اللاتينية حتى تاريخه»

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون محمد أبو زيد

سردية الحيوانات والطيور في عيون الكتاب

شغلت عوالم الحيوانات والطيور الكتاب والشعراء والفنانين على مر التاريخ، وتعددت دلالاتها ورموزها على مختلف المستويات الفنية والإنسانية

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمد برادة

هل هجر المغاربة الرواية إلى القصة القصيرة؟

يحق البدء في هذه الكتابة، بطرح الأسئلة التالية: هل انتهى زمن الرواية؟ وهل أوفى هذا الجنس المفتوح على التعدد الإحاطة الشاملة بالقضايا كلها؟

صدوق نورالدين
ثقافة وفنون قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)

شخصية يوسف في مرايا الأدب والفن

يستعرض المقال شخصية سيدنا يوسف وينطلق من إرثها الديني المعروف، وموقفه من زليخة المرأة التي حاولت غوايته بعد أن بهرها جماله الرباني... ثم يحلل مرايا يوسف من خلال رمزية قميصه وكيف وظّفها الكثير من الشعراء والكتاب والفنانين التشكيليين في أعمالهم

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «السيدة مليحة»... جالسة ويداها ممدودتان للأمام

«السيدة مليحة»... جالسة ويداها ممدودتان للأمام

يتحدث المقال عن تمثال صغير الحجم في «مركز مليحة للآثار» بإمارة الشارقة، يمثل امرأة جالسة في وضعية ثابتة، مادّةً يديها إلى الأمام، ويحلل جمالياته وآثاره الفنية من خلال أشباهه في بعض المتاحف العالمية.

محمود الزيباوي

هيراكليس الإغريقي في جزيرة فيلكا

هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
TT

هيراكليس الإغريقي في جزيرة فيلكا

هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا
هيراكليس كما يظهر في ثلاثة مجسّمات من جزيرة فيلكا

يحتفظ متحف الكويت الوطني بثلاثة مجسمات من الحجم الصغير تمثّل هيراكليس، البطل الإغريقي الذي نجح في القيام بسلسلة من الأعمال الخارقة لم يكن ليستطيع أي من البشر الفانين القيام بها، وحصد شهرة واسعة في العالم اليوناني القديم كما في سائر أنحاء الشرق الهلنستي المتعدّد الأقاليم. خرجت هذه المجسمات من جزيرة فيلكا التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من الخليج العربي، وهي من القطع الفنية المعدودة التي تشهد لحضور نادر لهذا البطل في شبه الجزيرة العربية.

تُعدّ جزيرة فيلكا من أقدم مواقع شبه الجزيرة العربية الأثرية التي تزاوجت مع حضارات أخرى على مدى تاريخها الطويل، ومنها حضارة الإغريق. شكّلت هذه الجزيرة جزءاً من إقليم دلمون الذي برز في الماضي على الطريق البحري بين بلدان الشرقَيْن: الأوسط والأدنى، وهي كذلك من المواقع التي قصدها نيارخوس، أحد ضباط جيش الإسكندر الأكبر، في أثناء قيامه برحلته الاستكشافية الطويلة التي انطلقت من نهر السند وبلغت ساحل الخليج العربي. يرى البعض أن اسم فيلاكو مشتق من «فيلاكيو»، وهي كلمة يونانية تعني الموقع البعيد، كما أنها تشير إلى نقطة تمركز، والأكيد أن اليونانيين أطلقوا عليها «إيكاروس»، تيمناً بجزيرة إيكاروس الواقعة في بحر إيجه، كما تشير مصادر أدبية عدة يعود أقدمها إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد.

تمتدّ فيلكا على مساحة قدرها 43 كيلومتراً مربعاً، تضمّ 106 مواقع أثرية، منها تل يقع في الطرف الغربي الجنوبي من الجزيرة، يضمّ دارتين تشير أسسهما إلى قصر ومعبد برجي متجاورين. في هذا المعبد الذي قامت بعثة فرنسية باستكشافه في عام 1983، تمّ العثور على تمثالين صغيرين من الحجر الرملي يمثلان رأسين آدميين لا يتجاوز طول كل منهما 9 سنتيمترات. ملامح هذين الوجهين واحدة، وهي الملامح الخاصة بالبطل الإغريقي الخارق هيراكليس الذي وُلد بحسب الرواية المتوارثة من علاقة جمعت بين ابن زيوس، سيّد معبودي الإغريق، وألكميني، ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، في شبه جزيرة بيلوبونيز، جنوب اليونان. يتشابه هذان التمثالان اللذان وصلا بشكل مجتزأ كما يبدو، غير أنهما لا يتماثلان؛ إذ يبدو أحدهما بيضاوياً، فيما يبدو الآخر دائرياً.

ملامح الوجه البيضاوي أكثر نتوءاً. العينان لوزتان واسعتان وفارغتان، يعلوهما حاجبان مقوّسان منفصلان. الأنف مثلث مجرّد من أي تفاصيل تشير إلى تجويف المنخرين. الفم شفتان مطبقتان، يفصل بينهما شق بسيط. الأذنان حاضرتان، وكل منهما على شكل نصف دائرة مجرّدة. أعلى الرأس مقوّس، وهو مكلّل بشعر تحدّ خصلاته شبكة من الخطوط المتوازية، تشكل مجموعة من الكتل المتراصة هندسياً. تحدّ اللحية طرفي الخدين، وتلتف حول الذقن، وتبدو أشبه بكتلة هلالية غابت عنها تقاسيم الشعر. في المقابل، يحمل الوجه الدائري هذه السمات، غير أن أنفه يبدو أفطس، وأعلى رأسه مسطّحاً، وتحدّه خصل من الشعر تلتف من حوله على شكل عقد، كما أن اللحية أكثر كثافة، والفم شبه ذائب في الكتلة الحجرية.

يعود هذان الوجهان إلى القرن الثالث قبل الميلاد بحسب أهل الاختصاص، ويتميّزان بخروجهما عن النسق اليوناني التقليدي، وبتبنّيهما النسق الشرقي الذي شاع في نواح عدة من الشرق القديم. في تلك الحقبة، تجلّى هذا النسق في عدد كبير من التماثيل الخاصة بهيراكليس، أشهرها تلك التي خرجت من موقع «مسجد سليمان» في محافظة خوزستان، جنوب غربي إيران. وقد ظلّ هذا التقليد الشرقي حياً في فترات لاحقة، كما تشهد مجموعة كبيرة من تماثيل هيراكليس خرجت من مدينتَي دورا أوروبوس وتدمر في الصحراء السورية، ومملكة الحضر في الجزيرة الفراتية.

إلى جانب هذين الوجهين الحجريين، يحضر مجسّم من الطين المحروق، عثرت عليه البعثة الفرنسية عام 1985، في أثناء مواصلتها أعمال المسح والتنقيب في مسكن مجاور لما يُعرف بالقلعة الهلنستية الكبيرة التي تقع في «تل سعيد»، في أقصى الجنوب الغربي من ساحة الجزيرة. يبلغ طول هذا المجسّم الصلصالي 19 سنتيمتراً، وهو على الأرجح من نتاج النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد، ويتبع الطراز اليوناني الكلاسيكي بشكل جليّ. تمثّل هذه القطعة الأثرية قامة رجل منتصب، فقد للأسف رأسه والجزء الأسفل من ساقيه. مفاصل البدن تتبع التشريح الواقعي، وتصوّر الجسد الحي المتناسق الذي يخلو من أي عيب، مع انحناءة بسيطة من الخاصرة اليمنى تميّزت بها الجمالية الكلاسيكية اليونانية.

يقبض البطل بيده على هراوة يستند إليها، وتُعد هذه الهراوة من المفردات الفنية الخاصة بهيراكليس، وهي بحسب رواية نقلها مؤسس الشعر الرعوي ثيوقريطس، الهراوة التي صنعها البطل من شجرة زيتون اقتلعها في جبل الهيليكون، قبل أن يصل إلى مدينة نيميا في مقاطعة كورنثيا، في شبه جزيرة بيلوبونيز. بهذه الهراوة، انقض البطل الجبار على أسد خارق لا يخترق جلده سهم، وقضى عليه بعدما تمكّن من خنقه، ثم سلخ جلد ولبسه. وفقاً للنموذج التقليدي الذي ساد غرباً وشرقاً، يظهر هيراكليس في مجسّم فيلكا وهو يلف حول ذراعه هذا الجلد الذي يشكّل كذلك مفردة أخرى من المفردات الفنية الخاصة به. الوجه الخلفي من هذا المجسّم منجز بحرفية عالية، ويختزل كذلك الجمالية اليونانية التي طبعت سائر فنون النحت والتجسيم والنقش.

خارج فيلكا، يحضر هيراكليس في تمثال برونزي عُثر عليه في قرية الفاو في المملكة العربية، وهو من الطراز الكلاسيكي الصرف، ويعود إلى القرون الميلادية الأولى. كما يحضر البطل الإغريقي بشكل بدائي مبسط على نصب جنائزي مرمري من نتاج القرن الرابع، مصدره شبوة في اليمن. تشكل هذه القطع مجموعة صغيرة تشهد لحضور هيراكليس في الجزيرة العربية، غير أن هذا الحضور يبقى خجولاً كما يبدو في غياب مكتشفات أخرى تجسّد هذا البطل.