«سفنكس الحِجر» في محافظة العُلا يحمل مؤثرات يونانية

لبؤة مجنّحة برأس امرأة من القرن الأول قبل الميلاد

«سفنكس الحِجر» في محافظة العُلا يحمل مؤثرات يونانية
TT

«سفنكس الحِجر» في محافظة العُلا يحمل مؤثرات يونانية

«سفنكس الحِجر» في محافظة العُلا يحمل مؤثرات يونانية

تحوي الجبال المحيطة بسهل مدينة الحِجر الأثرية في محافظة العُلا سلسلة من القاعات الجنائزية المنحوتة في الصخور الرملية، تعود إلى عهد استيطان العرب الأنباط هذه البقعة من الجزيرة الذي امتد من منتصف القرن الأول قبل الميلاد إلى مطلع القرن الثاني للميلاد. تتميّز مجموعة من هذه القبور بواجهاتها المزينة بحُلل منقوشة تتبنّى النسق متعدّد الأساليب الذي ابتكره الفنانون الأنباط في تلك الحقبة. تعتمد هذه الحُلل على عدد من العناصر التصويرية، منها الـ«سفنكس» الذي يظهر بشكل استثنائي على واجهتين من هذه الواجهات البديعة.

تتوزع مقابر الحِجر النبطية على نواحٍ عدة من الجبال الرملية التي يغلب عليها الأحمر، وتشكّل سلسلة من المجموعات تُعرف اليوم بأسماء أطلقها عليها علماء الآثار، منها مجموعة «قصر الفهد» شمالاً، ومجموعة «قصر البنت» في الوسط، ومجموعة «جبل الخريمات» غرباً. تُعرف مجموعة «قصر الفهد» كذلك بمجموعة «المدقة والهاجري»، وتضمّ 14 قبراً، منها قبر يتميّز بحضور فهدين مجنّحين متماثلين في الحجم يحتلان وسط الواجهة. فقد وجها هذين الفهدين ملامحهما، إلاّ أن ما تبقّى منها يشير إلى سمات آدمية أنثوية تُحيل على نموذج تصويري يُعرف في كل اللغات باسم «سفنكس».

وفقاً للتقليد السائد، زُيّنت واجهة هذا القبر بعمودين عريضين يحدّان بابه، يعلو كلّا منهما تاج مسطّح. فوق هذين التاجين، تستقرّ القوصرة الأفقية التي تعلو حسب هذا التقليد الباب المستطيل، وهي هنا على شكل قوس ناتئ تتوسّطه دائرة ورديّة متقنة. يعلو هذا القوس في الوسط تاج بسيط، ويحيط به من كل جانب «سفنكس» ينتصب على قائمتيه الأماميتين فوق قاعدة أفقية بسيطة. صدْرُ كلٍّ من الفهدين المجنحين مشوَّه، غير أن قالب الجسم سليم، وتشكّل القائمتان الأماميتان أبرز معالمه، وهما منتصبتان بثبات، وتحدُّ طرف كل منهما كفٌّ تحتوي على أربعة مخالب حادة. حافظ كلّ من هذين الفهدين على جناحيه، وهما جناحان مقوّسان، يتكون كل منهما من مساحتين منقوشتين. زُيّنت المساحة السفلى بسلسلة نقوش بيضوية مترابطة في مساحات أفقية متوازية، وزُيّنت المساحة العليا بنقوش مقوّسة مترابطة في مساحات عمودية متوازية، وتشكّل هاتان المساحتان ريش الجناح ذي الطرف المقوّس.

يتكرّر ظهور هذا الـ«سفنكس» على واجهة قبر من مجموعة جبل الخريمات، التي تعد، على قول الدكتور بدر بن عادل الفقير في كتابه «الطبيعة والآثار في محافظة العُلا»، «واحدة من أروع الواجهات العملاقة في مجموعة الخريمات، وقد سَلمتْ معظم عناصرها من التلف، وتضم على منتصفها وعلى جانبيها عناصر متميّزة تتمثل في رقاب الأعمدة القصيرة والأعمدة الطويلة المحمّلة بالتيجان النبطية». يستقر الباب في وسط القسم الأسفل من الواجهة، بين عمودين يعلوهما شريط إفريز أفقي تزيّنه خمس دوائر ورديّة. فوق هذا الشريط، تحضر القوصرة، وهي هنا «يونانية» تقليدية تتمثّل بمثلث ناتئ.

كشفٌ أثريّ في منطقة الحجر بمحافظة العلا لمجموعة من الفهود تشير إلى سمات آدمية أنثوية تُحيل إلى نموذج تصويري يُعرف في كل اللغات باسم «سفنكس».

فوق جانبي المثلث، يظهر الفهدان المجنحان، ويحتلاّن معاً وسط القسم الأعلى من هذه الواجهة. فقد الـ«سفنكس» المرابط على الجانب الأيسر رأسه، وحافظ الـ«سفنكس» الآخر على رأسه جزئياً، وبقيت ملامح العينين جلية، مع غياب سمات الأنف والفم. الوجه دائري، ويعلوه شعر تنسدل منه سلسلة ضفائر تحدّ الخدين. عند أسفل البطن، تظهر سلسلة نقوش متوازية تبدو أشبه بالحلمات، مما يوحي بأن هذا الفهد ذا الوجه الأنثوي هو في الواقع لبؤة مجنّحة لها رأس امرأة، وهو الشكل الذي عُرف به الـ«سفنكس» اليوناني التقليدي في فنون العالم القديم.

حسب أهل الاختصاص، ظهر الـ«سفنكس» أولاً في مصر، في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتكوّن في البدء من جسم أسد له رأس رجل آدمي يعتمر غطاء الرأس المخطط الذي يرتديه الملك، ويُعرف بالنمس الفرعوني. في الألفية الثانية قبل الميلاد، ظهر هذا الـ«سفنكس» في بلاد ما بين النهرين، مع جناحين ورأس رجل يعلوه قرنا ثور، وامتزجت صورته بصورة الثور المجنّح الذي يُعرف باسم شيدو لاموسو. في المقابل، اتّخذ هذا الكائن طابعاً أنثوياً في الهلال الخصيب، وظهر هذا الطابع في تصوير الوجه كما في تصوير صدر الجسم. في الربع الأخير من الألفية الثانية قبل المسيح، دخل الـ«سفنكس» العالم اليوناني، وحمل الطابع المصري، ثم الطابع السوري، فغدا لبؤة مجنحة لها رأس امرأة. وفي القرن الثامن قبل الميلاد، اتخذ قالباً محلياً صِرفاً تحدّدت معالمه وثُبّت بعد قرنين من الزمن.

اسم «سفنكس» مؤنث باليونانية، وهو لمخلوقة وحشية والدها طيفون، أخطر وحوش الإغريق وأشدّها قوة. حسب الرواية المتوارَثة، استقرّت هذه المخلوقة الوحشية على صخرة عند أبواب مدينة طيبة، وتربّصت بالمارة من الشبان، وراحت تلقي عليهم هذا اللغز: «ما الكائن الذي يمشي أحيانا على القدمين، وأحياناً أخرى على أربع، وأحياناً ثالثة على ثلاث، ويكون سيره أسرع حينما يستخدم أقل عدد من الأقدام؟» وكانت تنقضّ على كل مَن لم يستطع حل هذا اللغز، ثم تلتهمه، إلى أن استطاع أوديب حل اللغز، ورأى أن هذا الكائن هو الإنسان في أطوار الطفولة والشيخوخة، فارتاعت لأنه أماط اللثام عن لغزها. وقيل في رواية إنها قتلت نفسها، وفي رواية أخرى إن أوديب قتلها برمحه.

في البتراء، عاصمة الأنباط وشقيقة الحِجر الكبرى، يحضر الـ«سفنكس» في منحوتة محفوظة في متحف هذه المدينة الأردنية، يطغى عليها الطابع اليوناني الكلاسيكي الصِّرف. وفي الحِجر، يحضر في قالب شرقي يتمثّل باعتماد التحوير والتجريد في التصوير. في شرق الجزيرة العربية، ينحصر حضوره كما يبدو بظهوره الاستثنائي في الحِجر. وفي جنوب هذه الجزيرة، يظهر هذا الكائن بشكل محدود في مجموعة أعمال يعود أقدمها إلى القرن الأول قبل الميلاد.

حسب العالمة الألمانية أيريس غارلاش، دخل هذا الكائن متأخراً عالم «العربية الجنوبية» آتياً من الشرق الأوسط، وحمل مؤثرات يونانية طبعت هذا الإقليم الشرقي في تلك الحقبة. حمل الـ«سفنكس» في «العربية الجنوبية» طابعاً خاصاً، وظهرت معالم هذا الطابع بشكل خلاّق في الجزء الشرقي من جزيرة العرب، كما تشهد مجسّمات الحِجر الأربعة.


مقالات ذات صلة

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

يوميات الشرق المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج بجنوب مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

«اليونيسكو» تحذر إسرائيل من استهداف آثار لبنان

أثمرت الجهود اللبنانية والتعبئة الدولية في دفع منظمة اليونيسكو إلى تحذير إسرائيل من تهديد الآثار اللبنانية.

ميشال أبونجم (باريس)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.