طه حسين... سبق عصره ولا يزال «عابراً للأجيال»

كتاب مصريون يتحدثون عن عميد الأدب العربي في الذكرى الـ«50» لرحيله

كرمة سامي
كرمة سامي
TT

طه حسين... سبق عصره ولا يزال «عابراً للأجيال»

كرمة سامي
كرمة سامي

بعد خمسين عاماً على رحيله، لا يزال عميد الأدب العربي طه حسين (15 نوفمبر «تشرين الثاني» 1889 - 28 أكتوبر «تشرين الأول» 1973) يتمتع بحضور فاعل في الوجدان الثقافي العام، بمواقفه وآرائه وكتاباته ومعاركه الأدبية، ورؤيته النقدية الجسورة لمشروع النهضة العربية... في هذا التحقيق يتحدث كتاب ومثقفون مصريون لـ«الشرق الأوسط» عن درس طه حسين، وكيف نستفيد منه من أجل مستقبل أفضل. وأجمعوا على أن طه حسين سبق عصره، فرغم مرور نصف قرن على رحيله، لا يزال يتمتع بحضور قوي في الثقافة العربية بما طرحه من آراء وأفكار حية، وكان جسوراً في معالجة قضايا التراث، برؤية منفتحة ومنهج نقدي ثاقب.

حسين محمود

جسارة الرؤية في تحديث الثقافة العربية د. حسين محمود ـ أستاذ الأدب الإيطالي

لا يزال طه حسين حاضراً في الجدل الثقافي في عالمنا العربي، متجاوزاً ما واجهه من أزمات وصلت للذروة خلال حياته، وجعلته يخوض كثيراً من المعارك الفكرية وانتصر فيها. جسارة طه حسين لم تتجسد في استعداده لخوض المعارك، ولا يمكن تصويره على أنه كان يهواها؛ لكنه كان صنديداً في إعلانه عن مشروعه النقدي ورؤيته للنهضة العربية وسبل الوصول إليها، ودفاعه العقلاني والمنطقي عن هذه الرؤية. ولولا جسارته في تقديم رؤيته لكنا الآن في وضع حضاري يشبه وضعنا في بداية القرن العشرين أو أشد تخلفاً. ولو استسلم للماضويين الذين حاربوه باسم الأصالة والحفاظ على قدسية الموروث العربي، لظللنا نعيش في ثقافة عاجزة عن مواجهة العصر واحتياجاته، فنظريته النقدية القائمة على الشك لم تتجاهل ثراء وعظمة التراث الإبداعي العربي. كان جسوراً في دعوته لتحديث الثقافة العربية بقدر ما كان صادقاً في هذه الدعوة. لم يكن خائفاً من تحدي السائد المتصلب والمتشدد في النظر إلى التراث العربي، وقام بنفسه بتطبيق الأساليب النقدية الحديثة في عمله الشهير حول «الشعر الجاهلي»، حيث طرح فكرة إعادة النظر فيما ورثناه من آراء يمكن أن تكون زائفة أو تعرضت للتحريف لأسباب مختلفة، وهو ما أثار المحافظين فاتهموه بالردة، لكن النيابة المصرية المنصفة برأته.

كان جسوراً عندما دعا في «مستقبل الثقافة في مصر» إلى التوجه غرباً، لانتمائنا الطبيعي والجغرافي لغرب العالم، حيث يقع البحر المتوسط، وهو ما عدَّه مجالنا الثقافي الحقيقي. والحقيقة أن هذا هو الاتجاه الحضاري الذي يدفع إلى التقدم الذي أخذت به كل الدول التي أرادت أن تتقدم. وكان جسوراً عندما نادى وعمل على تعليم المرأة، واصطف بجانب أعلام النهضة الكبار، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، وكان رأيه أن تعليم المرأة هو السبيل الوحيد لتمكينها، وهذه الأفكار التقدمية هي التي انتصرت في النهاية. باختصار: كانت كل أعمال طه حسين، سواء النقدية أو الإبداعية، حتى محاضراته الجامعية، تنطلق من رؤية شجاعة لمستقبل الثقافة العربية، لا نزال في أشد الحاجة إلى أن نعيها ونأخذ بها.

طه حسين

أول نموذج للمثقف العضوي د. كرمة سامي ـ رئيسة المركز القومي للترجمة بالقاهرة

طه حسين كان جسوراً صاحب همة ونفس مؤمنة «إيمان القلب والعقل والضمير». تميزت مسيرته عبر تاريخه بالشجاعة في التعلم والتعليم والكتابة النقدية والسردية والذاتية، ومواجهة النقائص الثقافية والتفاني في علاجها. كان أول نموذج واضح للمثقف العصري العضوي، يناقش قضايا مجتمعه بنور بصيرته، ويشكله بأفكاره التقدمية، ويختلف ويخالف ويعارض، لكنه يشجع.

اقرأوا بتمعن «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي صدر عام 1936، ستكتشفون كأنه كتب لعام 2036... ادرسوا خطته المتكاملة في هذا السِّفر الضخم لمحو الأمية اللغوية والمعرفية، ورأب الصدع بين التلميذ وتراثه الثقافي، وإزالة آثار العداء بين الثقافة القومية والعربية، ومشروعه المتكامل لبناء «الأمة الراقية» و«تيسير علوم اللغة»، ومطالبته بمناهج «واضحة سهلة قريبة إلى العقول والقلوب». ولو كان بيننا لهاجم الأسلوب الذي تُدرس به سيرته الذاتية «الأيام» لطلاب المدارس؛ لأنه أراد أن تكونَ اللغةُ العربية «أقربَ إلى نفوس التلاميذ».

اجتهد طه حسين في دراسته في جامعة «السوربون» فكان يدرس كلاسيكيات الغرب صباحاً، ثم يجلس ظهراً مع زوجته في إحدى الغابات الصغيرة المحيطة بباريس، تقرأ عليه الروايات المسلسلة ذات الشعبية الطاغية، ومنها استلهم مساره السردي الفريد الذي ميزه عمن سبقه وعاصره أو جاء بعده. وخرج بقوالب سردية أدهشتنا حين خالفت إطارها الزمني في «دعاء الكروان»، و«خطبة الشيخ». ولهذا يكتشف الباحثون عند قراءة أعماله الأدبية نتائج مدهشة وموقفاً إنسانياً مستنيراً يسبق عصره. يضع به «آمنة» بطلة «دعاء الكروان» التي كتبها ببصيرته عام 1924 قبل «ليلى» بطلة لطيفة الزيات في «الباب المفتوح» 1960، و«مريمة» بطلة رضوى عاشور في «ثلاثية غرناطة» 1994. كتب طه حسين مقالاً نشر في كتاب «اليونيسكو» احتفالًا بمئوية غوته الثانية عام 1949، ووصفه بـ«التوازن» وحياته بأنها «منسجمة كأنها مقطوعة موسيقية جميلة». وأحسب أن هذا الوصف ينطبق على مسيرة طه حسين وأعماله التي تمتد آثارها تناغماً واتساقاً وصدقاً، حتى بعد رحيله بالجسد بخمسين عاماً.

أماني فؤاد

منظور عقلاني في قراءة التاريخ د. أماني فؤاد ـ ناقدة وأكاديمية

حين أعمَل طه حسين عقله فيما قرأه من الموروثات الخاصة بالسيرة؛ وجد أن أغلب ‏الخطابات والمرويات لا يمكن إثباتها تاريخياً، كما أنها تتضمن مبالغات بلا حصر، وبها ‏قدْر عالٍ من تمجيد المواقف، والنزوع بالأحداث نحو «الأسطرة»، ولذا ارتأى بدلاً من ‏تقويضها بالمنهج العقلاني والتاريخي، أن يتفاعل معها فنياً وأدبياً، ويعيد إنتاجها كما يفعل الغرب مع موروثاتهم ‏الأدبية، هذا هو ما يستشعره القارئ لمقدمة كتاب «على هامش السيرة». أراد طه حسين بهذا الصنيع أن يدفع بالعقل العربي ليناقش ويسائل كل الموروثات، حتى ‏التي أكسبها الأقدمون بعض صفات القداسة، وهي ليست كذلك. ربما أراد أن يقول إن كل ما وضَعه العقل العربي الإسلامي يمكننا أن نسائله، فهو لا يتضمن ‏قداسة لأنه من تأليف ومخيلة البشر، موروث يلهمنا لإنتاج خطابات أدبية أخرى تجادله ‏وتتناص معه، لا بوصفه حقائق تخضع للعقل. وهذا الصنيع هو بعض ما يجعل الجميع ‏يقول عن طه حسين إنه الرائد والمعلِّم الأول للتنوير، وعلى خطاه سار كبار الباحثين ‏العرب يسائلون التراث.‏

تعامل طه حسين مع هذه الموروثات بمنطق الفن، مادة تستفز حالة من الجدل مع مضمونها، ‏ومن ثم الإلهام، والبناء عليها فنيّاً، الخيال الذي يستهدف المتعة، لكن لم يتعامل معها ‏كحقائق تاريخية، أو أنها تخضع للبحث العلمي،‏ فهذا نهج غير عقلاني. إن المقدمة التي كتبها طه حسين لكتابه «على هامش ‏السيرة»، تنص صراحة على أن ما ورد بالكتاب ليس سوى إبداع على موروثات السيرة الأسطورية في أغلبها، وأنه أراد ‏كتابة أدبية تخيُّلية، لا تنضوي تحت التاريخ ولا العقلانية. ‏يتحدَّث الكاتب عن أدب، وليس عن أخبار تاريخية ‏وسِيَرِيَّة، وكلنا يعلم أن الجزء المتخيَّل في الأدب هو الذي يهيمن على الخطاب الفني.

ثم يتحدَّث طه حسين عن إلياذة هوميروس، وأنها لم تزل تُلهِم الكتَّاب حتى عصره، ‏ويعقِّب بَعدها قائلاً: «إن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكبِرون العقل، وأحبُّ أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس مَلَكاتٍ أخرى».

سهير المصادفة

تأثير أدبي عابر للأجيال سهير المصادفة ـ كاتبة روائية

كثير من البنات كنّ يتسربن من حصّة اللغة العربية، بينما أنتظرها بشغف، لكي أجيب عن أسئلة المدرس بعد أن يقرأ فقرة من «الأيام» لعميد الأدب العربي طه حسين المقررة علينا: «يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان من العسير عليه أن يتخطاه إلى ما وراءه». تكاد قدماي تتحركان لتحملا الصبي وتعبرا به السياج، لكن هل كان الصبي سيسمح لأي مَن كان أن يساعده؟ هو الذي كان يكره الشفقة، وأن يعامله الآخرون معاملة خاصة، فاجتاز وحده كل الأسيجة التي اعترضت طريقه، حتى خرج من الظلمات إلى النور.

لقد أثرت «الأيام» على جيلي وأجيال أخرى من الكتاب، كان نور عقله المشع يتسلل إلى عقولنا الصغيرة آنذاك فيتناثر شهباً. أسمّي شارعاً باسمه في أولى رواياتي: «لهو الأبالسة»، وأختار في إحدى محاضراتي مفتتح «الأيام» كأروع وأنجح الفقرات الاستهلالية لكتاب يجعل القارئ يخمن عنوانه دون أن يراه: «لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريباً». والآن ورغم مرور السنوات، ما زال «طه حسين» الأكثر تأثيراً وإثارة للمعارك الكبرى، فلقد كان يخلخل منظومة الثبات والركود بألمعية وإيمان، لا من أجل الهدم، وإنما لكي ينطلق بتراثه إلى آفاق أرحب، فيحقق لأمته التفوق والتنوير؛ في التعليم الذي أصر أن يكون كالماء والهواء، وفي الثقافة، وفي تنقية الإرث العربي من الخرافات، وفي حقّ المرأة في الحياة. مَن يصدق أنه رغم مرور تلك السنوات، ما زلت أبكي حين أسمع صوته الرخيم مع نهاية فيلم «دعاء الكروان»، المأخوذ عن روايته الأشهر التي تحمل الاسم نفسه، وهو يقول: «أترينه كان يرجّع صوته هذا الترجيع حين صُرعتْ (هنادي) في ذلك الفضاء العريض!».

إيهاب الملاح

إعادة اكتشاف التراث العربي إيهاب الملاح ـ مؤلف كتاب

«تجديد ذكرى عميد الأدب العربي»كان طه حسين أول من ألقى بحجر ثقيل للغاية في المياه الراكدة للفكر العربي الحديث، بعيداً عن قضية الشعر الجاهلي، أو بعض الأسطر التي اقتطعت من سياقها وتم التمسك بها من جانب تيارات التشدد والجمود والفكر المحافظ، وإشهارها في وجه عميد الأدبي العربي بهدف إدانته. لقد كشف برؤاه الفكرية الشجاعة عن وجود تيارات لا تقبل النقد أو إعمال العقل في تراثنا ومروياتنا، وترفض بشكل حاد وعنيف أي اختلاف في الرأي.

تعرض طه حسين لأكبر محاولة في تاريخنا الثقافي الحديث لإسكات مثقف كبير وابتزازه وإرهابه، من خلال تأليب الرأي العام عليه، والادعاء بأن نقده للتراث هو بمثابة تطاول على المقدسات، وهي اتهامات عارية عن الصحة وكاذبة شكلاً ومضموناً، فما قدمه صاحب «الأيام» للثقافة العربية من مؤلفات تراثية حققها وعلّق عليها وشرحها لم يقدمه أي باحث أو مثقف آخر ينتمي للتيار المحافظ. وعلى سبيل المثال، كان طه حسين أول من قدم شرحاً وافياً عصرياً، واكتشافات مدهشة، لجماليات شعر ما قبل الإسلام، ثم الشعر في العصر العباسي، عبر الدخول إلى غاباته الكثيفة وتذليل معانيه وتقريبها إلى القارئ العام، كما في كتبه مثل: «حديث الأربعاء»، و«صوت أبي العلاء»، و«مع المتنبي»، و«من حديث الشعر والنثر».

لقد ساهم طه حسين في اكتشاف مناطق مجهولة أدبية وفكرية من تراثنا وتقديمها إلينا، إما تحقيقاً ودراسة وإما تنويهاً وكتابة، وإما بإيفاد البعثات للكشف عن تلك المخطوطات.

 

مقتطف من كتاب «الأيام» لطه حسين

> «وقد أخذ الفتى يتهيَّأ لإتقان الفرنسية من جهة، وتعلُّم اللاتينية من جهةٍ أخرى، فالتمس لنفسه معلماً خاصّاً يُعينه من ذلك على ما كان يريد. وقد جعل رفاقه يبحثون له عن المعلم الذي يلائمه حتى قيل لهم: إن صاحبكم مكفوف، وليس له بدٌّ من أن يتعلم كتابة المكفوفين وقراءتهم، ليستطيع أن يعتمد على نفسه في تحصيل ما يريد أن يحصِّل من العلم. ثم قيل لهم: إن في تلك المدرسة من مدارس المكفوفين أستاذاً ضريراً قد يعين صاحبكم على حاجته، فسعَوْا إلى هذا الأستاذ، وقدَّموا إليه صاحبهم. وأعلن الأستاذ إليهم أنه زعيم بأن يعلِّم رفيقهم الكتابة والقراءة الفرنسية واللاتينية جميعاً، ولم يطلب على هذا إلا أجراً ضئيلاً في نفسه، ولكنه كان ثقيلاً على هذيْن الأخوين اللذين كانا يعيشان بمرتب شخص واحد. وقد قَبِل الفتى مع ذلك أن يشق على نفسه وعلى أخيه، وأن يؤدي إلى الأستاذ أجره الذي طلبه، وكتب إلى الجامعة يستعينها فلم تبخل عليه بالعون، وقامت عنه بأداء هذا الأجر. وأقبل الفتى على الكتابة البارزة يتعلمها، فلم يلبث أن أحسنها، ولكنه عندما حاول أن ينتفع بها في درسه لم يجد إلى الانتفاع بها سبيلاً؛ فلم تكن الكتب التي كان يحتاج إلى قراءتها قد طبعت على هذه الطريقة الخاصة، وكان ربما أتيح له الكتاب المطبوع على هذه الطريقة، فلا يكاد يأخذ في قراءته حتى يضيق بهذه القراءة أشد الضيق، وينفر منها أعظم النفور، فهو قد تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه».



في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب