طه حسين و «مستقبل الثقافة في مصر» الذي لم يتحقق

دعا للانفتاح على أوروبا من أجل أن نتعلم منها أسرار التقدم

طه حسين و «مستقبل الثقافة في مصر» الذي لم يتحقق
TT

طه حسين و «مستقبل الثقافة في مصر» الذي لم يتحقق

طه حسين و «مستقبل الثقافة في مصر» الذي لم يتحقق

في العقود الأولى من القرن العشرين، والنهضة العربية المشرقية بلغت أوجها في مصر، كان يدور جدل كبير ومتصل عن العلاقة بين الشرق والغرب. بين مصر وأوروبا. بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. كانت أسئلة الانتماء والهوية والخوف من الحداثة والتغريب في أوجها. كان هناك شد نحو أفكار التحديث والتقدم واللحاق بالعصر، التي كان النموذج الواضح لها -إن لم يكن الوحيد- هو أوروبا. ولكن كان هناك جذب من الماضي والتقاليد والهوية الوطنية والدينية والخوف عليها من عواقب اقتفاء أثر المدنية الأوروبية، حتى من قبل بعض أولئك الذين أدركوا حتميتها. وكان هناك أيضاً نوع من التضارب الوجداني بين كون أوروبا هي قوة الاحتلال البغيض في الشرق المطلوب التحرر منها من ناحية، وبين كونها النموذج الأوحد للتقدم أو العصرانية العلمية والسياسية والاجتماعية.

من هنا كانت المشاعر والمواقف تجاه أوروبا لدى الطبقة المثقفة، وربما أيضاً فيما وراءها، تتراوح ما بين الإعجاب والكراهية، ما بين الرغبة والنفور، أو بخليط منها جميعاً.

من بين مثقفي تلك الفترة كان طه حسين، الذي نتذكره هذه الأيام بمناسبة مرور نصف قرن على وفاته سنة 1973، في طليعة دعاة الأوْرَبَة بلا قيد ولا شرط. في وقت كان كثيرون فيه يدعون للانفتاح الثقافي على أوروبا من أجل أن نتعلم منها أسرار التقدم، كانت قناعات طه حسين تتجاوز ذلك بشوط بعيد. فكان يؤمن بأن المصريين والأوروبيين كليهما نتاج لثقافة واحدة هي ثقافة حوض البحر المتوسط الإغريقية. من منطلق هذا التصور كان ما يقوله حسين للمصريين فعلياً هو أنهم باحتذاء النموذج الأوروبي لن يكونوا بصدد التحول إلى شيء غريب عليهم. إنما عليهم فقط أن يعترفوا بأصلهم الثقافي الحقيقي، ذلك الأصل الذي ربما أخفته عنهم أحداث التاريخ وآماد طويلة من الظلامية الفكرية.

هذه خلاصة دعوته في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» الذي نشره في أوج توهجه الفكري سنة 1938، وهو يشارف الخمسين من عمره.

في ذلك الكتاب يبذل طه حسين قصارى جهده ليفصم الصلة بين مصر وبين ما يُسمّى بالشرق، ليضعها في سياق أوروبي صرف. ولما كانت الحضارة الأوروبية هي سليلة الحضارة الإغريقية، فإنه يجد ذلك مدخلاً مناسباً لطرحه الأساسي. ذلك أنه إذا ما أثبت صلة فكرية قوية ما بين الإغريق والمصريين القدماء، فإنه سيكون في وضع منطقي يسمح له بطرح فكرة التماثل في النظرة إلى العالم بين مصر وأوروبا. ومن هنا يؤكد أن التفاعل بين العقل المصري والعقل اليوناني في العصور القديمة كان أمراً افتخر به الإغريق الأقدمون، على نحو انعكس في نتاجهم الشعري والمسرحي، وفي كتاباتهم الفلسفية والتأريخية.

ويواصل طه حسين طارحاً أنه من بعد فتح الإسكندر الأكبر مصر فإنها تحولت إلى دولة يونانية، كما أصبحت الإسكندرية واحدة من أعظم العواصم اليونانية على الأرض. وعندما وقعت مصر تحت الحكم الروماني فيما بعد، فإنها استمرت في دورها كمأوى للثقافة اليونانية. ومن هنا فإن مصر لا صلة لها بثقافات الشرق، لا صلة لها بأمم مثل الصين واليابان والهند وما جاورها. وإن كان للعقل المصري أن تكون له صلة قُربى فإنها لا تكون إلا بالأمم التي نمت حول حوض البحر المتوسط. ولا يستطيع طه حسين أن يخفي دهشته من أن المصريين المحدثين يفكرون في أنفسهم باعتبارهم شرقيين، وليس فقط من جهة الموقع الجغرافي وإنما أيضاً ثقافياً. ولا يتردد في نفي هذه الفكرة بوصفها بلا أساس. أما الأوروبيون الذين هم أيضاً يعدُّون المصريين شرقيين، فهذا مردُّه عنده إلى الاعتبارات السياسية والأطماع الاستعمارية التي تدفعهم إلى تجاهل البراهين التاريخية الناصعة.

ولكن قد يقول البعض إن مجيء الإسلام إلى مصر قد أدى إلى إحداث تمايز ثقافي بين الحضارتين الإغريقية والمصرية. لكن طه حسين عنده الرد جاهز. فالإسلام قد تأثر بالفلسفة اليونانية بقدر ما تأثرت المسيحية. ولذلك فإنه إن كان من الصحيح القول إن العقل الأوروبي ظلَّ إغريقياً في جوهره رغم اعتناقه المسيحية، فإنه أيضاً من الصحيح أن نقول إن العقل المصري احتفظ بخاصيته اليونانية رغم اعتناقه الإسلام. وإنما هي الظروف التاريخية وحدها، خصوصاً السيطرة العثمانية الطويلة، هي ما نشأت عنها الفجوة بين الثقافتين، مما سمح لأوروبا بأن تتطور، بينما توقف نمو العقل المصري. إلا أن ما يهم هو أن جوهر العقل الأوروبي والعقل المصري هو جوهر واحد.

هذا المفهوم النظري عند طه حسين قام بترجمته إلى إجراءات عملية متى ما وجد نفسه في موقع رسمي يتيح له أن يترجم القناعات إلى سياسات، فكان هو من أدخل الدراسات اليونانية واللاتينية في جامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقاً)؛ بل إنه طرح وجوب إدخال تلك اللغتين القديمتين في المستوى الثانوي.

وبعدما فرغ من تقرير الأصول الجغرافية والتاريخية لتصوراته عن التماثل بين الأسس الفكرية للحضارتين المصرية والأوروبية، فإنه يمضي ليبين كيف أن العصر الحديث جاء ليعيد ربط الأواصر التي انقطعت. فهو يؤكد أن نهضة مصر الحديثة قد تأسست بأكملها على النموذج الأوروبي مادياً ومعنوياً. فعنده أن المصريين في كل شرائحهم الاجتماعية قد تبنوا النموذج الأوروبي للازدهار المادي؛ بل يرى أن الحياة المعنوية للمصريين أيضاً انبنت على النموذج الأوروبي، سواء في نظام الحكم أو نظام التعليم، أو حتى فيما يخص إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية. ولا يستثني من ذلك الميول الأوتوقراطية للأسرة الملكية الحاكمة في مصر وقتها، فلا ينسبها إلى النموذج العثماني للسلطان عبد الحميد الثاني، ولكن إلى ملك فرنسا في القرن السابع عشر، لويس الرابع عشر.

ومن المفارقات أنه لم يكن عند طه حسين (ولم يكن وحده في ذلك) أي شك في أن الهدف الوطني لمصر في تلك الفترة -وهو التخلص من السيطرة الأوروبية في شكل الاحتلال البريطاني- ليس من سبيل إليه سوى الاقتداء بالنموذج الأوروبي. فهو يقرر أن السبيل إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي «أن نرى الأشياء كما يراها الأوروبي، ونقوّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها»، ويبلغ من حماسه لأَوْرَبة التعليم أنه يرى أن التمكن من لغة أوروبية شرط أساسي في تدريب المعلمين، لا يستثني من ذلك حتى معلمي اللغة العربية. ذلك أنه لا يستطيع أن يتصور أن «معلماً لأي مادة من مواد الدرس في التعليم العام يجهل الحياة الأوروبية، ويعجز عن أن يتصل بها اتصالاً مباشراً من طريق لغة من لغاتها الكبرى».

على أن افتتان طه حسين بالحضارة اليونانية، وإيمانه بأنها تمثل الأساس الفكري ليس للحضارة الأوروبية وحدها، وإنما أيضاً لمصر وشرق المتوسط عامة، هو أقدم من كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» (1938) وإنما كان الكتاب مجالاً لتفصيل وتطوير آراء عبَّر عنها قبله بمدة طويلة، خصوصاً في كتاب «قادة الفكر» المنشور سنة 1925، والذي ينطوي على عرض لأفكار أعلام يونانيين، من أمثال هومر وسقراط وأفلاطون وأرسطو والإسكندر الأكبر. نلمس افتتانه بالحضارة اليونانية أيضاً في ترجمته مسرحيتي سوفوكليس: «أوديب ملكاً»، و«أوديب في كولونا»، وفي ترجمته لكتاب أرسطو «نظام الأثينيين».

لم يحِد طه حسين عن هذه القناعات التي توصل إليها في صدر حياته الفكرية حتى مماته، وهو ما نراه في حوار أجراه معه الناقد غالي شكري، قبل أشهر من وفاته، ونُشر بعد ذلك في كتيب بعنوان «ماذا يبقى من طه حسين؟» (1974). يؤكد طه حسين لمحاوره أن مجاورة مصر لأوروبا ليست مجرد «جيرة جغرافية؛ بل تاريخية أيضاً، أي أنها جيرة حضارية. أما العرب فإن وحدة اللغة والدين تجعل ارتباطنا بهم أقوى، إنه ارتباط الثقافة والعقيدة. ولكننا جميعاً -مصريين وعرباً- نحتاج إلى التفاعل الحضاري مع أوروبا احتياجنا إلى الحياة نفسها. وما أقوله بوضوح هو أن شعوب البحر المتوسط مؤهلة أكثر من غيرها لهذا التفاعل». وفي موضع آخر من الحوار يؤكد أن «الدرس الذي يجب أن نتعلمه في نهاية الأمر، هو أن الحضارة كالحرية، كل لا يتجزأ. فكما لا نستطيع أن نأخذ الحرية السياسية دون الحرية الاقتصادية، لا نستطيع أن نأخذ من الحضارة الماكينات والآلات الكهربية ونترك الفكر والأدب والفن».



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.