ناي آخر الليل منفرد بين الخيام

وليد خازندار يغني وطنه السليب بطريقته الخاصة

ناي آخر الليل منفرد بين الخيام
TT

ناي آخر الليل منفرد بين الخيام

ناي آخر الليل منفرد بين الخيام

معضلات كثيرة يضعها النقّاد في دراستهم الشّعر، يمكن تشبيه أمرها بمَثَل العربة توضع أمام الحصان. يعرّف أريشبالد مكليش القصيدة بأنها «صرخة في الظّلام»، وهذا ليس تعريفاً؛ وإنما وصف أدبي. ولو قارنّا ما يقوله بورخيس: «الشّعر هبة مفاجئة من الرّوح»، بما أتانا به نابليون بونابرت: «الشّعر علمٌ مجوّف» لوجدنا أن رجل الحرب كان أكثر قرباً من واقع الحياة وواقع الأدب.

الشّعر هو كلّ شيء في الوجود، عدا ما يخطّه الشّعراء بأقلامهم، حين تفتقر إلى الصّرامة التي يقتضيها إبداع الفنّ. هنالك من يحاول إحداث ثقب في الزّورق، ومن يريد أن يبحر، والاثنان يعملان على سطح المركب نفسه. في الأنغلو - سكسونية القديمة كانت الكلمة المرادفة لشاعر هي «خالق»؛ كلمة تدمج معنيين؛ هما صَوغ الكلمات مع بناء العالم المادي، وفي القرون الوسطى كان الآيرلنديّون يرون أن وظيفة الشّعراء هي حماية حقول القمح والشّعير من الكائنات الضّارّة، عن طريق نظم الشّعر الذي يدفع الجرذان إلى أن تموت. الشّاعر إذن عرّافٌ ورَاقٍ وساحرٌ، وهذا ما قالته العرب في زمانها.

هل كانت رؤية وليد خازندار للشّعر مشابهة، والجرذان صارت عدوّاً غاصباً لأرضه؛ فلسطين المحتلّة؟ يمكننا الجواب بـ«نعم» كبيرة، ودليلنا أن الشّاعر قضى حياته مختفياً عن الأنظار، ولا يكاد يُسمع صوته. لا يشترك في احتفال ولا يظهر على الشّاشة، ولا توجد غير صورة واحدة له في «ويكيبيديا». لقد نجح في أداء دور الرّاقي المشغول طوال الوقت بعمله، وقصائده أقرب إلى الهمس المطبوع في التّعاويذ والتّمائم، كما أن حبّ الوطن يحتاج إلى براعة وتجربة وخبرة:

«هذه البلاد

جارحةٌ مثل طائر مجروح

الحبّ يملأها ولا تكتفي

لا ترقُّ إلا حين ينخفضُ الغناء

كلّ ليلة خوفٍ ليلةُ حُبّ

كأنها الأولى»

وليد خازندار كلِفٌ بحبّ وطنه السّلِيب، والعُدوان مستمرّ على شعبه منذ عقود، فهو يخفض صوته في أثناء إنشاده أغنية الحبّ، ليكون مفعول السّحر أقوى، ويطلب من القارئ أن يتمثّل معه هذه الطّريقةَ في الغناء. إن كلّ تجربة حبّ عظيمة فيها شيء من الدّعامة التي تستند إليها رؤية خازندار الشّعريّة؛ لأن الحبّ يقوم عند تأسيس مملكته على السّحر في جمع العناصر اللازمة للحياة في تربته، ويراهن خازندار على قدرة القصيدة عندما تستعير من السّحر والحبّ طاقاتها. لقد استعاد الشّاعر وظيفَتَه القديمة، عندما كان ممارسةً صوفيّةً من نوع مختلف.

من الصّعوبة الإحاطة بتجربة خازندار في دراسة واحدة، فهو يغيّر أدواتِه وطريقةَ عملِه من كتاب إلى آخر، ويحذف أحياناً أكثر مما يكتب، على طريقة الرّسم الحديث، لكنّ السّجيّة العامّة في شعره هي الصّمت والسّكون اللّذان يستنفدان القصيدة عن طريق تبديد طاقاتها المنبريّة والموسيقيّة الضّاجّة. ولتحقيق هذه الغاية يذهب الشاعر إلى هندسة نحويّة جديدة، يؤخّر الأفعالَ ويقدّم المفاعيلَ ويشاغب في توزيع الصّفة، والظّرف الزّماني والمكاني، قاصداً أن يستحوذ بهذه الطريقة على جوّ الحروف، ويشكّلها بطريقة بدائيّة إلى حدّ أن اللّغة الجديدة تبدو ثقيلة، لكنّها عذبة على نحو غامض:

لا شيءَ، غرفتُها الفارغة.

لا نأمةٌ.

البنفسجُ لائذٌ بالجدار.

الغيمُ يوغلُ خلفَ الزجاجِ، في الزرقةِ الغامضة.

فجأةً

وقعٌ خفيضٌ ناعمٌ في الممر.

فجأةً، عميقاً عارماً

يملأ الغرفةَ، غيابُها.

كان خازندار يخطّط منذ البداية لتأسيس عالم جديد، فيه لغته الخاصّة وبلاغته وهندسته. إن جميع الفتوحات في الشّعر هندسيّة بحتة، من الشّطرين إلى التّفعيلة، ومن هذه إلى القصيد الحرّ، ثم النّثر، ولا نعرف إلى أين تتّجه بوصلة الفاتحين في المستقبل. الحياة تمضي، والقلوب تنبض، والشّعر يتجدّد بالنّتيجة.

إن تهشيم اللّغة الذي يقوم به شاعرنا لا يشبه الانزياح المعروف في الشّعر الحديث؛ لأن الثاني يتناول المعنى، بينما يقصد خازندار شكل القصيدة وبناءَها اللّغوي، ويحصل في الأخير على طريقة في التّصوير من زاوية نظر شاذّة ونادرة، يرسم عن طريقها الدّاخل كما الخارج، والباطن كما الظّاهر، تُساعده الدقّة البالغة في اختيار المفرَدة، والقدرة على إخفاء الصنعة. ما يريد أن يقوله غيره في عشرة أسطر، يختزله خازندار في شطر واحد:

«رعشَتْ في يديهِ، إذْ غفاَ، عاداتُهُ/ الخزفُ الأزرقُ ما يزالُ مُهَدَّداً بِحُمْرَةٍ

شفيفةٍ/ والصَّدْعُ في الجدارِ صاعدٌ في انشقاقِهِ/ إلى السّقفِ الذي ما زال

ينخفضُ/ والغبارُ، طلعُ الغيابِ/ ذاهلٌ على الأشياءِ كُلِّها».

إننا نشهد أعمال القصف والتّدمير التي تقوم بها إسرائيل في هذه اللّوحة، من دون إشارة إلى أفعالها الوحشيّة، ويتمّ التّركيز، بدلاً من ذلك، على النّتائج. هنالك عادات انقطعت؛ لأن حياة الشّاهد في القصيدة انقلبت عاليها سافلها، وهنالك صدع في الجدار وسقف يتهدّم، وخزف ينزف دماً، والغبار اكتنز برائحة الذين غابوا، فصار بذراً لثمار أكيدة.

يغلب السّرد في دواوين خازندار الأخيرة، وبين الشّعر والنّثر خصائصُ مشتركةٌ؛ لأن مهمّتهما الرّئيسية هي اختراق سطح الأشياء، والنّظر من كثب. يشبّه «أورهان باموق» هذا الفعل بما يقوم به الماء والنّمل، وهما يجوسان في الأعماق، يخوضان تجربة الحياة إلى النّهاية، وهذا هو صميم خلاصة وظيفة الأدب. النّاي في هذه القصيدة يشرح قصّة الماضي والحاضر:

«كان الكبارُ بنوا بيوتا/ قبل هذه التي انقصفت/ الصّغارُ يعرفون الطّريق إليها/ يستعيدون بالأغاني بهجة البناء./ حتى إنك تسمع ناياً آخر اللّيل/ منفرداً بين الخيام».

وليد خازندار

من شعر خازندار الأخير قصيدة أعطيتُ عنوانها اسماً للمقال: «ما نسيتُ أن أقول عن آمنة»، وهي من الشّعر البسيط، والمفهوم دون الحاجة إلى إعمال الذّهن. فتاة توفّيت وبقيت ثيابها منشورة على الحبل، وكيف تراها الأم، وكيف يراها أبوها:

«تمايلَتْ ولعبَتْ بَعْدَ ذاكَ أيّاماً/ أسبوعينِ، ثلاثةً، في فستانِها/ لا خالتي تلمُّهُ

عن الحبلِ/ ولا يستجري أحدٌ.

وددتُ لو أفُكَّ عنه ملاقطَهُ/ يأخذهُ العصفُ إلى من حيث يعصف/ زوج خالتي

على كرسيِّهِ/ عيناهُ ثابتتانِ عليهِ/ لا أعرفُ إن كان يراها».

الأهمّ في هذه القصيدة، في رأيي، هو عنوانها؛ لأن خازندار يقدّم لنا من خلاله تعريفاً جديداً للشّعر؛ إنه السّرد أو الحدث أو القول والكلام الذي لا يُروى، وهو كذلك السّرد والحدث والكلام الذي يُنسَى. بكلام آخر؛ فإن الشّعر هو ما نرمز إليه في أثناء الحديث، ولا نقوله مباشرة، وهذا ما تقوم به التّعويذة عندما نحملها في رقابنا، وكلّنا أملٌ في أنها سوف تكون رُقيَةً نوعيّة تبعد عن أرضنا الجرذان والكائنات الخبيثة المؤذية.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».