باحثة أميركية تقرأ حجارة فلسطين

كتابها يكشف عن قدرة على الربط بين النصوص ودلالات المكان

باحثة أميركية تقرأ حجارة فلسطين
TT

باحثة أميركية تقرأ حجارة فلسطين

باحثة أميركية تقرأ حجارة فلسطين

أعادتني الأحداث الهائلة التي شهدتها الأراضي المحتلة في فلسطين مؤخراً، بمباهجها المبكرة ومآسيها اللاحقة، إلى مراجعة سبق أن نشرتُها في مجلة «الأدب العالمي المعاصر (World Literature Today)»، وهي مجلة فصلية تصدرها جامعة أوكلاهوما، لكتاب الباحثة الأميركية باربرا بارمينتر Parmenter في أواسط التسعينات من القرن الماضي*.

وبارمينتر، التي درّست أنظمة المعلومات الجغرافية والتخطيط الحضري في جامعة «تفتز (Tufts)» بولاية ماساتشوستس الأميركية على مدى 27 عاماً، أستاذة متقاعدة حالياً، ويبدو أن اهتمامها بالأدب الفلسطيني جاء من زاوية تخصصها، وليس من حيث هي معنية بالأدب العربي بصفة خاصة. لكن كتابها، الذي طلبت مني المجلة الأميركية المشار إليها كتابة مراجعة له، يشير إلى معرفة ممتازة، نسبياً، بالأدب الفلسطيني، وأهم من ذلك أنه يتأسس على رؤية متعاطفة بصفة عامة مع القضية العربية الأولى. تركيز الكتاب على علاقة الأرض بالأدب يضيف بعداً لافتاً للقراءة النقدية، لا سيما أن بارمينتر تصدر عن معرفة جغرافية دقيقة، ومقدرة على الربط بين النصوص ودلالات المكان.

محمود درويش

فيما يلي ترجمة ببعض التصرف لما نشرتُه في المجلة الجامعية المشار إليها (شتاء 1995). وفي تقديري أننا بالاطلاع على رؤية باحثة أميركية للصراع المتواصل الذي يخوضه الفلسطينيون ضد العدو الصهيوني الغاصب، وللقضية العربية المركزية، قضية فلسطين، نستطيع استيعاب رؤية الآخر، وكيفية تفاعله مع تلك القضية، لا سيما أنه لم يُعرف عن الباحثين الأميركيين كبير اهتمام بالأدب العربي الفلسطيني بصفة خاصة. عنوان الكتاب «منح الحجارة صوتاً» يحمل المعنيين: دور الشاعر/ الكاتب في ما يمكن اعتباره الاستنطاق المؤسس والأهم على المستوى الأدبي، وكذلك دور الباحث/ الناقد في استنطاق الحجارة ضمن سياقها الأدبي. وبالطبع، فإن من غير الممكن تجاهل دور الحجارة كسلاح في النضال الفلسطيني ضد المحتل، وإن لم تكن هذه هي الدلالة الأبرز في كتاب الباحثة الأميركية.

غسان كنفاني

المفترض ألا يندهش أحد لتداخل المكان بالهوية في أدب كالأدب الفلسطيني. لقد استرعى ذلك انتباه النقاد الفلسطينيين من أمثال سلمى الجيوسي، كما في «مختارات من الأدب الفلسطيني» للجيوسي (1992)، حين أشاروا إلى أهمية المكان في التجربة الفلسطينية منذ بدء شتاتهم عام 1948. غير أن مناقشة باربرا بارمينتر لتلك المسألة تذهب إلى أبعد من التناول الموجز، لتقدم تحليلاً عميقاً ومتماسكاً لذلك الجانب من الأدب الفلسطيني بتأسيس ذلك على البعد الجغرافي.

بعد الفصل الذي يمثل مقدمة للكتاب، تقدم المؤلفة عرضاً سياقياً ومقارناً عاماً للكيفية التي شكّل بها الغرب صورة بلاغية للأراضي المقدسة مازجاً العلم بالأساطير المستمدة من الكتاب المقدس؛ أي التوراتية/ الإنجيلية. تمخضت تلك الصورة المكثفة، كما تقول المؤلفة، عن صور لفلسطين اختفت منها الأرض الفعلية وسكانها، من خلال تصويرهم كما لو لم يكونوا «منتجات لتاريخهم»، وإنما «شخوص في تاريخنا». المسح الذي تقوم به بارمينتر لـ«خطاب الأرض» في الأدب الفلسطيني بعد عام 1948 يُظهر تطوراً تدريجياً من الرؤية المجردة التي تنامت في فترة مبكرة، والتي باعدت ما بين الأرض والتجربة المعيشة إلى العلاقة الحميمية التي برزت مع الجيل الجديد من الكتاب؛ ذلك الجيل الذي وُلد إما في المنفى وإما تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ أي جيل محمود درويش وغسان كنفاني، أضاف جوانب مرهفة ومركّبة للخطاب المتنامي.

سلمى الخضراء الجيوسي

في الفصل الرابع من كتابها تقف بارمينتر على ما تُسميه «مشاهد المنفى»– المدينة، الصحراء، ومخيم اللاجئين. تبرز هذه بوصفها المواقع الرئيسية لكتاب ما بعد 48. ينظر إلى المواقع الثلاثة من حيث بدائل قسرية للوطن، ربما باستثناء المخيم؛ لأنه يرمز إلى المقاومة. غير أن المفارقة في كل هذا هي أن إحساس الفلسطينيين بالمكان، كما تقول بارمينتر، يحتد في المنفى، مثلما كان إحساس اليهود قبل مجيئهم إلى فلسطين. ومع ذلك، فإن هذا التشابه ينتهي بمجرد تأسيس الإسرائيليين مكانهم بإعادة تشكيل الطبيعة، وحين يستمد الفلسطينيون الإلهام والدعم من التشبث بالأرض التي ينتمون إليها.

يتضح من مناقشة بارمينتر للمواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الفصل الأخير من كتابها، أن خطاب الفلسطينيين يترك أثره على تصورهم لأرضهم وعدوهم، أثراً لا يخلو من مفارقات، من حيث إن الخطاب يبعدهم عما يفترض أنه يقربهم إليه. ومع ذلك، فإن المقارنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين هنا، وفي مواضع أخرى من الكتاب، تأتي على حساب الأدب العربي، السياق الذي لا يقل أهمية إن لم يكن أهم.

الفرضية التي تنطلق منها المؤلفة أن الكتاب الفلسطينيين بعد 48 «صاروا أكثر عزلة عن الحركات الأدبية العربية الرئيسية»، ليست صحيحة تماماً، كما وضّح ذلك عدد من الكتاب والباحثين، ومنهم كنفاني والجيوسي. ولكن، حتى لو كانت تلك الفرضية صحيحة، فإن مقارنة بين تجربة الفلسطينيين للمكان وتلك التي نجدها لدى رصفائهم العرب الذين كتبوا الكثير عن فلسطين، ستكون مفيدة.

الحكم الخاطئ الذي تتوصل إليه بارمينتر حول متانة العلاقات الفلسطينية- العربية يستمر، كما يبدو، في استنتاجها أن الشعراء الفلسطينيين نظروا باستمرار إلى المدن العربية بكراهية. هذا لا يصدق بكل تأكيد على صور بيروت ودمشق والقاهرة في شعر درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو (وهذا الأخير شاعر فلسطيني مهم لا يرد ذكره في الكتاب مطلقاً). في الشعر الفلسطيني الأحدث، كما يتمثل في قصائد شاعر مثل وليد خازندار، وهو شعر لم تأخذه المؤلفة في الاعتبار، تبدو المدينة العربية وقد تم استيعابها بوصفها وطناً.

تقدم المؤلفة عرضاً سياقياً ومقارناً عاماً للكيفية التي شكّل بها الغرب صورة بلاغية للأراضي المقدسة

انتهت المراجعة التي نُشرت قبل نحو ثمانية عشر عاماً، وأود هنا أن أضيف عبارات وردت في كتاب بارمينتر، ولم يسمح بإضافتها ضيق المساحة المخصصة للمراجعة في المجلة الأميركية. تقول المؤلفة مميزة نظرة الفلسطينيين إلى أرضهم عن نظرة اليهود القادمين من الغرب والمسيحيين المساندين لهم: «كان المشهد المكاني في فلسطين حياً بالمعنى والقيمة لسكانها، مثلما كان للمسيحيين واليهود الغربيين. لكن بالنسبة للفلسطينيين، نبعت هذه المعاني والقيم من التجربة اليومية والتفاعل المجتمعي مع الناس في بيئتهم. كان المشهد بالنسبة لهم مشهد وطن، وليس تاريخاً مستمداً من الكتاب المقدس، أو التجربة الرومانسية، أو تحقق النبوءة... المواد وحياة الناس الروحية كانت متعالقة مع الأرض بأشد الطرق حميمية وأساسية. مقولة الفلاح عبّرت عن هذه العلاقة ببساطة وبإيجاز: (لا نستطيع الوصول إلى سماء الله، فلذلك نقبل الأرض)».

* باربرا ماكين بارمينتر: «منح الحجارة صوتاً: المكان والهوية في الأدب الفلسطيني» Giving Voice to Stones: Place and Identity in Palestinian Literature (أوستن: جامعة تكساس، 1994).


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة
TT

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة

«شبح عبد الله بن المبارك»... رواية تستلهم التراث بروح معاصرة

عن دار «الشروق» بالقاهرة صدرتْ حديثاً رواية «شبح عبد الله بن المبارك» للكاتب المصري ماجد طه شيحة، الذي يستلهم فيها حكاية تراثية شهيرة لشخص يُدعى «عبد الله بن المبارك» يقال إنه شُوهد بمكانين مختلفين في وقت واحد. يستعيد المؤلف تلك الحكاية من خلال بناء درامي معاصر يقوم على ثنائية الأستاذ الجامعي والطالب، التي تبدو بدورها استلهاماً لثنائية الشيخ والمريد، إذ يروى الأستاذ تلك القصة على تلميذه من أجل سماع رأيه فيها.

يبحث الطرفان معاً حقيقة الرجل الصالح الذي شُوهد في مكانين خلال وقت واحد، في البيت الحرام وهو يحج، يحدث هذا وهو وفي دكانه بمدينته، وهل يمكن أن يقبلا بالتفسير الشعبي الذي طرحه الناس على ذلك بأن الله أرسل ملاكاً يحج نيابة عنه لأنه ساعد بأموال حجه امرأة مسكينة.

تجعل تلك المناقشة الأستاذ المتخصص في فيزياء الكم أكثر قرباً من تلميذه، فيهديه هاتفاً مغلقاً كأمانة، ويطلب منه ألا يسلمه لأحد إلا بعد سماع خبر موته. يتضح أن الهاتف يخص زوجة الأستاذ الذي اكتشف عبره رسائل غرامية بينها وبين حبيب مجهول. يختفي الأستاذ في ظروف غامضة ليجد الطالب نفسه في مأزق وحيرة كبيرين. تتصاعد الأحداث ويتعمق المأزق بظهور الزوجة ومطالبتها باسترداد الهاتف، مدعمة مطلبها برواية أخرى مختلفة عن رواية الزوج المختفي.

يتخذ المؤلف من تلك القصة منطلقاً لطرح تساؤلات ذات طابع فلسفي عن علاقات الأجيال، ومعنى الأمانة، وحدود المسؤولية الأخلاقية في إطار من التشويق والغموض.

وماجد طه شيحة، روائي مصري، مواليد 1978 بمحافظة كفر الشيخ، صدرت له مجموعتان قصصيتان «كل الحبال الرديئة» و«متاهة الغول»، وأربع روايات هي: «سلفي يكتب الخطابات سراً» و«درب الأربعين» و«إيلات» و«المعبر»، حاصل على جائزة «محمود أمين العالم في القصة القصيرة» في دورتها الأولى عن قصة «أشياء البحر».

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«الباب المقفول يرد القضاء المستعجل.

تقول أمي، تصوب النظر إلى وجهي وتبتسم كأنها تعتذر، وتتوه في الاحتمالات.

مجرد افتراض، فالافتراض هنا هو متن الحكاية وهامشها المسند، والحكاية تُروى عبر افتراضات تطرحها الحقيقة. والمتن أن أمي أيقظها دق على باب بيتنا المغلق، والافتراض ماذا لو ظلت نائمة بدورها أو استيقظت ولم تفتح الباب؟ فمن يدري من يدق الباب قبل منتصف الليل بقليل؟ أو فتحت الباب واعتذرت للطارق: إنني نائم وأن نومي ثقيل وإيقاظي متعذر؟ ماذا لو لم تدعه للدخول وانصرف خائباً؟ هل كان سيذهب إلى حال سبيله وما كنت أنا راوياً لهذه الحكاية؟

قالت أمي وهي توقظني: الأستاذ يريدك ثم انصرفت.

عندما رأيت وجهه لم يبد لي أن خلفه حكاية طويلة، لا شيء يدل على أنه تقصّد المجيء إليّ أنا بالذات ولولا توقيته لقلت إنه يمر فتذكر أمراً، فهذه أول زيارة له بالرغم من صلتنا التي ظلت تتوثق عبر الأشهر الأخيرة، والتي كانت محل غبطة أمي وأبي، ابننا يمشي مع الأستاذ، عند الأستاذ سهران، مع الأستاذ، ولكن دوام الحال من المحال، سرعان ما ستنقلب هذه العلاقة إلى مثار سخط لا ينقطع.