تناول كثير من الدراسات المسرحية في الوطن العربي تأثير «ألف ليلة وليلة» في المسرح، لكن لم تُفرَد دراسة موسعة لدور السير الشعبية في المسرح العربي، وكيف أثْرَتْ الحركة المسرحية العربية.
عن دار «بتانة» بالقاهرة، صدر كتاب «تجليات السيرة الشعبية في المسرح العربي» للباحث المسرحي الدكتور عبد الكريم الحجراوي. ويتناول الكتاب مجموعة من المسرحيات العربية التي استلهمت السيَرَ الشعبية، في الفترة ما بين عامي 1967 و2011.
يتعامل المؤلف مع السيرة الشعبية بوصفها رافداً مهماً من روافد المسرح العربي، نهض عليها واتخذها ركيزة يعبّر بها عن هويته. فالسير، بالإضافة إلى الحكايات الشعبية، وقصص «ألف ليلة وليلة»، وغيرها من الموروثات، عملت على خلق اتجاه عربي خاص في المسرح. وقد تناول كثير من الدراسات المسرحية في الوطن العربي تأثير «ألف ليلة وليلة» في المسرح، لكن لم تُفرَد دراسة موسعة لدور السير الشعبية في المسرح بالبلدان العربية بشكل عام، وكيف أثْرَتْ الحركة المسرحية، وشكلت مصدراً مهماً من مصادر الإبداع في هذا السياق.
ويستشهد الباحث بتجربة الكاتب المغربي عبد الكريم برشيد حول أسباب تأليفه مسرحية «عنترة في المرايا المكسرة» حيث استلهم برشيد سيرة عنترة بن شداد بعد نكسة 1967. عنترة قوي؛ لكن في زمن الانكسارات، يُطلب منه، كما يُطلب من الشعب، أن يدافع عن وطنه، وهو المهزوم من طرف وطنه؛ فكيف للمهزوم أن يفعل؟ هكذا يتساءل برشيد. إذا كنت أنت في وطنك تشعر بأنك تُظلم، ولا تأخذ حقك، فكيف يمكنك أن تقاتل عدواً أجنبياً خلف الأسوار؟ الأساس هو العدالة الاجتماعية، وأن تشعر بأن لديك كرامة حقاً؛ في التعليم والصحة، وأن وطنك يقدرك؛ لذا ستحارب من أجله وستموت من أجله، أمّا أن تجد وطنك يدفعك إلى الهروب منه، والموت في قوارب الهجرة، فنحن بحاجة إلى منظومة فكرية جديدة، ومنظومة علاقات إنسانية أخرى. هكذا يخلص الكاتب المغربي إلى رؤى نهائية.
وتستحضر مسرحية «أبو زيد في بلدنا» للكاتب المصري أبو العلا السلاموني شخصية «أبو زيد» الأسطورية المعروفة في سيرة بني هلال؛ ولكن في قرية مصرية معاصرة، من أجل توعية أهلها بمصالحهم، وجعلهم يقفون في وجوه ظُلّامهم من الأعيان والإقطاعيين القدامى، فلول النظام القديم الذين قضت عليهم ثورة يوليو (تموز) 1952م، فـ«أبو زيد» القادم من العصر الماضي يحاول إقناع الفلاحين بأن لكل زمن أبطاله، وأنه غير صالح لأن يكون بطلاً في الزمن المعاصر، وعلى الجميع أن يكونوا أبطالاً لينتصروا على الظلم، وبلغة المسرحية، على الجميع؛ نساءً ورجالاً، أن يكونوا «أبو زيد»، فقد انتهى عصر البطل الفرد الذي يقود الجماعة للانتصار، وأتى زمن البطولة فيه جماعية.
وتدور أحداث مسرحية «الليلة الحالكة»، للكاتب العُماني أحمد بن سعيد الأزكى، ما بين الخير والشر، وفيها تتداخل قصتان: قصة «عنترة بن شداد»، ذلك الفارس الأسود، وقصة «عطيل»، البطل التراجيدي في مسرحية شكسبير الشهيرة. أيضاً تتداخل الشخصيات بشكل عجائبي؛ ليتضح أن الفارسين الكبيرين يحملان القيم نفسها من رفض الظلم، ويفعلان المستحيل من أجل الحصول على ما يبغيان، ممثلان بذلك جانب الخير والنبل.
يقاتل «عنترة» و«عطيل» من أجل الشرف والحرية، إلا إنه مع تداخل الزمن تجد «عبلة» نفسها مع «عطيل»، و«ديديمونة» مع «عنترة»، في رحلة يبحث الكل فيها عن استعادة حبيبه الحقيقي، وأن يعيد للآخر محبوبه. في المقابل، فإن شخصية «ياجو» هي التي تمثل الشر، وتعمل على عدم حدوث هذا التلاقي، شخصية تشبه ما كان يقوم به «عمارة بن زياد» في سيرة «عنترة» الأصلية، وتشبه أيضاً ما قامت به «سعاد» أخت التُّبَّع حاكم اليمن، التي أشعلت نار الفتنة بين بني مُرّة وبني ربيعة. يسعى «ياجو» إلى إشعال الصراع بين «عنترة» و«عبلة» من جانب، وبين «عنترة» و«عطيل» من جانب ثانٍ، وبين «ديديمونة» و«عطيل» من جانب ثالث.
ويتجلى في مسرحية «سهرة مع أبي ليلى المُهلهِل» مدى اهتمام الكاتب الأردني، من أصل فلسطيني، غنّام غنّام بتجسيد الطقس الشعبي في رواية السيرة، ربما أكثر من أي إسقاط سياسي على الواقع، وهو ما يظهر في المقدمة التي وضعها الكاتب لمن يتصدى لتقديم النص بوصفه عرضاً مسرحياً؛ حيث يذكر أن كتابة النص تمت بالاستفادة من جنوح خيال السيرة الشعبية، ومن ثمَّ بُني العرض بقوة من الروح الجماعية، ودورها في إنجاز الأسطورة الشعبية. والهاجس الأكبر بالنسبة لغنّام هو طقسي شعبي فني بحت، لكن هذا لا يمنع من وجود إسقاط سياسي في النص الذي ينتصر فيه طرف على آخر انتصاراً ساحقاً، فعلى العكس من مسرحية «الزير سالم» لألفريد فرج، التي كان يراعي فيها صلة الدم، ويسعى إلى التوفيق بين أبناء العمومة والمصالحة من أجل مواجهة الأعداء الحقيقيين للعرب، وعدم ربط مصير الأمة بحدث وقع في الماضي، نجد أن أبناء العمومة هنا محكومون بخصومة تاريخية أخطر من الخصومة مع الغرباء. في هذا النص المسرحي يتمتع «جسّاس بن مرة» بصفات الخسّة والخيانة، ولا يتورع عن أن يقتل ابن عمه من الظَهر، فيما يبدو «الزير» في طرف المُدافع عن حقه في الثأر لأخيه بقتل الآلاف من بني مرة.

