إطلاق «معجم الرياض» بـ120 ألف مدخل

يوفر المادة اللغوية الحديثة ويهمل القديم

يوظف المعجم تقنية خاصة للتحديث المستمر للمحتوى برصد المصطلحات والمفردات الحديثة (مجمع الملك سلمان)
يوظف المعجم تقنية خاصة للتحديث المستمر للمحتوى برصد المصطلحات والمفردات الحديثة (مجمع الملك سلمان)
TT

إطلاق «معجم الرياض» بـ120 ألف مدخل

يوظف المعجم تقنية خاصة للتحديث المستمر للمحتوى برصد المصطلحات والمفردات الحديثة (مجمع الملك سلمان)
يوظف المعجم تقنية خاصة للتحديث المستمر للمحتوى برصد المصطلحات والمفردات الحديثة (مجمع الملك سلمان)

أطلق مجمع الملك سلمان العالمي للُّغة العربية، الأربعاء، «معجم الرياض» الأغنى بالمفردات المعاصرة، وذلك برعاية الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي، رئيس مجلس أمناء المجمع.

وقال الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان عبر حسابه على منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي: «من عمق الحضارة العربية، وأرض الضاد، يأتي (معجم الرياض) بأكثر من 120 ألف مدخل معجمي، و145 ألف معنى، و35 ألف مترادف ومتضاد».

وأشاد الدكتور عبد الله الوشمي الأمين العام المُكلّف للمجمع، بجهود القيادة السعودية في دعم اللغة العربية ونشرها في العالم، وقال، إن «المعجم يُعد مُنجزاً نوعيّاً من حيث التوقيت والدلالة؛ إذ شهد خلال مراحل إعداده تناغماً فريداً بين التقنية الحاسوبية وفريق العمل المُعجمي، بالاعتماد على التقنيات الحديثة، وقواعد بياناتها ومدوّناتها اللُّغوية؛ لتحقيق سرعة الإنجاز، ودقة مُخرَجاته»، مبيناً أنه يستهدف عموم مُستخدمي اللُّغة العربية من المثقفين والكُتّاب والأدباء والباحثين والطلاب، من أبنائها وغيرهم.

أشاد الوشمي بجهود القيادة السعودية في دعم اللغة العربية ونشرها عالمياً (مجمع الملك سلمان)

ونوّه الدكتور الوشمي بالدعم الدائم الذي يقدمه وزير الثقافة لإخراج المشروع لعموم المستفيدين، حيث يثبت إصدار المعجم دوره في قيادة زمام التحول الرقمي في مجال خدمة العربية، ببناء التقنيات التي تخدمها استعمالاً وتحليلاً وفهماً وإنتاجاً وتطويرها، ومساندة المبتكرين والمبدعين في المجالات التقنية اللغوية؛ وهو ما يعزز قدرة السعودية على الابتكار والبقاء في طليعة التقدم الرقمي.

ويوظف المعجم تقنية خاصة للتحديث المستمر للمحتوى عن طريق رصد المصطلحات والمفردات الحديثة المستخدمة، كما توفر منصاته وسائل تمكّن الجمهور من الإسهام في إثراء المعجم على المستويين الدلالي والسياقي. ويمكّن محرّك البحث فيه المبرمجين والمطورين من بناء تقنياتهم وتطبيقاتهم وألعابهم الخاصة المعتمدة على المعجم، مع المحافظة على حداثة المحتوى.

ويهدف المعجم إلى توفير المادة اللغوية الحديثة، وإهمال القديم الذي هُجِرَ في الاستعمال اللغوي، وإيجاز الشرح والتفسير، والنأي عن الإيجاز المخل، إضافة إلى توظيف إمكانات الحاسوب في سعة التخزين، ودقة التنظيم، وجمال العرض، وبدائل البحث، وتنمية الملكة اللغوية لدى المستخدم، فضلاً عن تطوير تطبيق له لاستخدامه في الأجهزة الذكية.

ويتألّف المعجم من أكثر من 120 ألف مدخل رئيسي، وقد قُرِنت مداخله بمقابلاتها الإنجليزية، ورُصِدَ لكل مدخل معناه أو معانيه مزوَّداً بمثال توضيحي أو أكثر، كما أورد لكل مدخل ما يندرج تحته من مداخل فرعية؛ سواءٌ أكانت من قبيل المسكوكات أم المتلازمات. ولمزيد من إثراء المحتوى المعجمي للمدخل الواحد رُبط بينه وبين المداخل المرادفة أو المضادة. ومن مميزاته احتواؤه على ناطق صوتي لقراءة المحتوى النصي، مع إمكانية البحث عن الكلمات المستخدمة في كل مناطق الوطن العربي.

يمثّل المعجم نقلة نوعية بما يحمله من تقنيات حديثة لخدمة اللغة (مجمع الملك سلمان)

ولتحسين المعاجم العربية وتطويرها؛ أطلق المجمع مؤخراً مسار «بناء المعاجم الرقمية»، الذي يهدف إلى تمكين صناع المعاجم ومحرريها من التقنيات الحديثة المستعملة في البناء، وترجمة المحتوى الرقمي للعربية، وتدريبهم على استعمال المعايير الحديثة المتبعة في الصناعة المعجمية، وهو يتكون من أربعة مجالات رئيسية، هي معاجم «المفردات، والتراكيب، والمصطلحات، والاستعمالات والدلالات».

ومن المقرر أن يُطلق المجمع لاحقاً - بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) - النسخة الأولى لمنصة «معجم المصطلحات العربية الموحدة» بصيغة رقمية؛ لتسهيل وصول المستفيدين إليها، وتطويرها، وتحديث بياناتها بما يستجد من مصطلحات.

يتميز المعجم باحتوائه على ناطق صوتي لقراءة المحتوى النصي (واس)

ويُعَدّ إصدار «معجم الرياض» رسالة تأكيد لدور السعودية الاستراتيجي في دعم جميع القضايا المتعلقة باللغة العربية، وتعزيز رسالة المجمع في استثمار فرص خدمتها، والمحافظة على سلامتها ودعمها نطقاً وكتابة، والسعي للوصول إلى شرائح المجتمع بالعمل اللغوي الحيوي المرتبط بمجالات الحياة والثقافة.


مقالات ذات صلة

الرياض تستضيف فعاليات «أيام باكستان» لإبراز تنوعها الثقافي

يوميات الشرق الفعالية جاءت ضمن مبادرة «تعزيز التواصل مع المقيمين» التي أطلقتها السعودية تحت شعار «انسجام عالمي» (الشرق الأوسط)

الرياض تستضيف فعاليات «أيام باكستان» لإبراز تنوعها الثقافي

عاش زوار حديقة السويدي في الرياض من السعوديين والمقيمين تجربة غنية بالتفاعل مع الثقافة الباكستانية خلال فعالية «أيام باكستان»، التي بدأت الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق كتاب «العلا موطن الحضارات» باللغة الإنجليزية

السعودية تقدم حضارتها وآثارها القديمة وموروثها الشعبي على ظهر جمل

قدّمت السعودية حضارتها وجوانب رائعة من آثارها ومعالمها التاريخية الخالدة إلى أطفال العالم من خلال مجموعة قصصية أبطالها حقيقيون وشواهدها ماثلة للعيان إلى اليوم.

بدر الخريف (الرياض)
يوميات الشرق تجاربَ متعددة وفعاليات متنوعة مليئة بالثقافات المختلفة في حديقة السويدي بالرياض (واس)

«حديقة السويدي بالرياض»... منصة للتعرف على ثقافات العالم

يعيش زوار حديقة السويدي في الرياض تجارب وفعاليات متنوعة مليئة بالثقافات المختلفة ضمن مبادرة «تعزيز التواصل مع المقيمين» التي تأتي تحت شعار «انسجام عالمي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق جانب من لقاء الملك جيغمي بالأمير بدر بن عبد الله بن فرحان في الرياض (واس)

ملك بوتان ووزير الثقافة السعودي يبحثان تعزيز التعاون

بحث العاهل البوتاني جيغمي كيزار نامجيل وانجشوك مع الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي، سبل تعزيز التعاون الثقافي بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون الدكتور خالد السليطي المدير العام لمؤسسة الحي الثقافي يسلم الفائزين جائزة «كتارا» (تصوير: ميرزا الخويلدي)

«كتارا» تتوّج الفائزين بجائزة الرواية العربية

توّجت مؤسسة الحي الثقافي بقطر «كتارا»، الخميس، الفائزين بجائزتها للرواية العربية في دورتها العاشرة 2024.

«الشرق الأوسط» (الدوحة)

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين
TT

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

أتيحت لي في الأسبوعين الماضيين تجربةٌ جميلة قرأتُ فيها كتابيْن مميّزين عن طبيعة الفعل القصصي (السردي). الكتاب الأوّل عنوانه: «الرواية الفلسفية كنوعٍ أدبي - the Philosophical Novel as a Literary Genre» لمؤلفه مايكل ميتياس Michael Mitias، والكتاب من منشورات عام 2022. الكتاب الثاني عنوانه: «كيف تعمل القصص - How Fiction Works» لمؤلفه الناقد الأدبي ذائع الصيت جيمس وود James Wood الذي يكتب منذ سنوات عديدة في مطبوعات ومواقع عالمية أهمها النيويوركر. صدر كتاب وود عام 2009، وتتوفر له ترجمة عربية أنجزها فلاح رحيم. قادتني هاتان القراءتان إلى التفكّر الحثيث في إشكالية العقل الفلسفي مقابل العقل القصصي: هل هي إشكالية حقيقية؟ هل ثمّة تعارض مؤكّد بين العقليْن؟ وهل منطق الفلسفة يلغي بالضرورة منطق القصة؟ انتهيتُ إلى أننا لسنا في حاجة لتجسير الهوّة بينهما؛ لأنّها (الهوة) مفترضة ونتاجُ وهمٍ راسخ لأسباب تعليمية ومهنية. يعمل المنطق الفلسفي والقصصي (السردي) في كلّ عقل بشري بطريقة متزامنة، وهذا ليس محض رغبة شخصية بقدر ما هو وسيلة تكيفية لعيش حياة طيبة ورفيعة في معاييرها المُشخّصة.

ظهر الفلاسفة منذ أكثر من 5 آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. منذ البدء رأى الفلاسفة في صناعة الحُجج (Arguments) وظيفة أساسية لهم؛ لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يوماً ما. تنازعوا فلسفياً بشأن موضوعات عديدة: من أين جاء العالم؟ ومِمّ صُنِع؟ ولماذا وُجِدنا نحن البشر في هذا العالم؟ على الرغم من الحجاج القاسي بين الفلاسفة فإنّهم اتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعتماد عليها في التفكير. هُمْ رأوها وسيلة لا تخلو من جنبة انحيازية (تمييزية)، ووسيلة تتبع هوى خالقها، ومغاليةً في الاعتماد على الحقائق الحاضرة؛ لذا كرّس الفلاسفة أنفسهم لإيجاد أداة تفكير أكثر صرامة، وشيئاً فشيئاً تشاركوا قناعة راسخة بأنّ تلك الأداة هي المنطق Logic.

في سنة 350 قبل الميلاد تمكّن الفيلسوف المقدوني متعدد الاشتغالات (Polymath)، أرسطو، من جمع وتوحيد الأقيسة المنطقية المتناثرة بعمله الكبير: الأورغانون (Organon). جابهت سطوة المنطق الأرسطيّ العتيدة تحدياً بيّناً خلال عصر النهضة الأوروبية، عندما عمد الفلاسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (من أمثال ليوناردو دافنشي، وغاليليو غاليلي، وويليام هارفي) إلى استبعاد (بل وحتى مهاجمة) الكتب المدرسية الخاصة بالمنطق الأرسطيّ؛ لأنهم وجدوه قصير النظر محدوداً، تنخره الهشاشة، وغير ذي فائدة؛ لكنّ المنطق استعاد بعض مجده الغابر فكانت له عودةٌ خلال عصر التنوير بفعل جهود ديكارت وعبارته التأسيسية في «الكوغيتو» (إشارة إلى العبارة اللاتينية: Cogito Ergo Sum - أنا أفكّر إذن أنا موجود)، وكذلك علم الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحاق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الذي جاء به إيمانويل كانْت. منذ تلك الجهود المتقدّمة في جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفعُ حثيثاً في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة. مع أواخر القرن التاسع عشر صار المنطق الأرسطيّ أساساً في انبثاق الفلسفة التحليلية (Analytic Philosophy)، عندما وسّع غوتلوب فريغه (Gottlob Frege) من نطاق القوانين المنطقية الأرسطيّة لتكون حساباً (Calculus) يمكنه تناول أي محاججة.

هذا هو ما جعل الفلاسفة (وعامة الإنتلجنسيا والأكاديميين) يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهشةٌ مديدة راسخة بلحظات الإلهام واسعة النطاق التي تأتي مع الفلسفة، ابتداءً من الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جاءت مع نشر كتب فتغنشتاين وتأسيس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. من المشروع أن نتساءل: ما الذي يمكن أن يكون خاطئاً مع هذه النسخة من المقايسة الفكرية؟

لم يكن الفلاسفة ومريدوهُمْ مخطئين بشأن اعتبار المنطق تفكيراً. هُمْ أخطأوا في اعتبار المنطق الشكل الأوحد للتفكير. السبب وراء هذا الأمر هو وجود - على الأقل - طريقتيْن للتفكير: المنطق والقصة. كلٌّ من المنطق والقصة بوسعه حلُّ معضلاتٍ ليس في استطاعة الآخر تقديم حلّ مناسب لها، وكلٌّ من المنطق والقصة بمستطاعه تخليقُ أشياء لن يستطيع الآخر تخليقها أبداً.

ثنائية الذكاء هذا (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضُها بمقاربتيْن: تحليلية وتجريبية. في المقاربة التحليلية: توظّفُ القصة والمنطق طُرُقاً إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة المساواتية (Equation)، أو بطريقة أكثر دقّة من الوجهة التقنية: الاستدلال الارتباطي (Correlational Reasoning) الذي يستبعدُ المؤثرات الفردانية؛ في حين تعتمد القصة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: التأمّل السببي (Causal Speculation). كلُّ مقاربة لها نطاقها الإجرائي الخاص: المنطق ثابت يعتمد على تكرار كثرة من الوقائع؛ في حين أنّ القصة متطايرة تمتاز بالخفة، وقد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج إلى أي منها (تخليق ذهني خالص أو ما يسمى في العادة رواية الأفكار Novel of Ideas).

في المقاربة التجريبية: يمكن اقتفاءُ أثر كلّ من القصة والمنطق في عمليات ميكانيكية مختلفة في الدماغ البشري. هذا مكافئ للقول (وعلى خلاف ما ظنّه كثير من العلماء الإدراكيين من قبلُ، ولا يزال قسمٌ ضئيل منهم يعتقد به) إنّ الدماغ البشري لا يعملُ كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنّه يعمل جزئياً كحاسوب (أي مُعالِج منطقي)؛ لكنّ الدماغ البشري يعمل في معظم فاعلياته كماكينة سردية لأنّ واحدة من بين غاياته الرئيسية التي تطوّرت عبر الفاعلية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيفي مناسب يستفيد من فواعل التغذية الاسترجاعية الحسية (الخبرة). هذا الفعل يتطلبُ تأمّلاً تسبيبياً؛ أي بعبارة أخرى: يتطلبُ تفكيراً قصصياً.

هذا ما تغافله الفلاسفة والإنتلجنسيا. هُم حسبوا أنّ الذكاء يمكن اختزالُهُ في آلية (ميكانيزم) مفردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مكافئة للمنطق بات من البديهي أن تُترك للقصة وظيفةٌ وحيدةٌ باقية هي مناقلة الأفكار. كان الفلاسفة غارقين في لجّة الثقة المفرطة بهذا الاستنتاج إلى الحد الذي جعلهم يغفلون أو تناسون عقبةً بيّنة: تستطيعُ القصة مناقلة الأفكار فقط عندما يمتلك الدماغ القدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، أي: عندما تقترن القدرة المنطقية مع القدرة السردية (الحكائية)، وبعكس هذا لن تستطيع القصة التأثير السلس والتلقائي فينا. ما رآه الفلاسفة طرداً للقصة من مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيداً لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الأساسي للذكاء البشري. هذا النسق هائل التعقيد للتداخل الخلاق بين المنطق والقصة هو ما ساعد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الإبداعية الخلاقة لكلّ شيء في الحضارة البشرية على المستويين المادي والرمزي.

الدور القيادي الرائد للفاعلية السردية يعني - بين ما يعنيه من تفاصيل كثيرة - أنّ المنهاج الدراسي المُؤسّس على المنطق الذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببيْن على الأقل:

أولاً: لأنّه قلّل إلى حد بعيد من قيمة الكيفية الأساسية التي يفكر بها الكائن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الأمر نتائج سلبية عميقة الأثر من حيث مترتباتها الاجتماعية. مأسَسَت المناهج الدراسية القائمة على المنطق الخالص لفعالياتِنا المدرسية ودفعت بالتلاميذ إلى مهاوي الحَيرة، والشعور بالخجل والفشل، وكبحت التنامي المتوقّع للأخلاقيات الرفيعة عندما تعاملت مع التلاميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة منطقية كلاسيكية صارمة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، والتفكير النقدي، والتعليل الكمي... وهذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من البشر بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا المحمولة. أكّدت المناهج الدراسية أيضاً، وبكثير من الحماسة المفرطة، على الأقيسة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية الفردية والكينونة الذاتية (Depersonalization)، والهشاشة، والاحتراق النفسي...

ثانياً: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلك التاريخ يشوبه الغموض. هذا صحيح تماماً، لكنْ برغم هذا نحنُ نعلم أنّ التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية ليست انعطافة تطورية حديثة أطاحت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثيرُ من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أنّ آليات التطور الدارويني ابتغت طرح القصة جانباً وتركها تذوي بعيداً عن متناول فاعلياتنا الدماغية لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة على أدمغتنا بدلاً من أن يرتضي التعايش مع التفكير القصصي. تقودُنا هذه الحقائق الأساسية إلى استدعاء العديد من الأسئلة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: ماذا لو أنّ الفلاسفة قدّروا القصة (التفكير القصصي) كما فعلوا مع المنطق؟ أظنّهم لو فعلوا لكنّا انتهينا إلى إشكالية غريبة: ربما لو تعاملنا مع القصة مثلما تعاملنا مع المنطق لخسرنا القوة الذاتية الكامنة في التفكير القصصي، ولجعلنا التفكير القصصي أقرب إلى المهارات الشائعة التي تفتقد ندرة العبقرية الفردية والكشوف الذاتية المتفرّدة على المستويين التقني والرمزي.

القصة تسعى لتقديم إجابات وقتية لها حد كافٍ (Good Enough) من القدرة على تناول المعضلات الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة من الإجابات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي. مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حيواتنا الأرضية أكثر مناعة ضد الهشاشة والانكسار، وأكثر صحّة جسدية ونفسية وذهنية، وأكثر سعادة. لا أظنّ هذا المسعى أقلّ أبداً من شرف المسعى الذي ظلّ جوهر الفعل الفلسفي ومبتغاه منذ بواكير الفلسفة وحتى يومنا هذا.