هاني نقشبندي... لم يكتب روايته الثامنة

كان يسعى إلى إبداع عمل يجعله أقرب إلى الحقيقة

غلاف الخطيب
غلاف الخطيب
TT

هاني نقشبندي... لم يكتب روايته الثامنة

غلاف الخطيب
غلاف الخطيب

ذكر الصديق والإعلامي والروائي الراحل هاني نقشبندي، أنه يريد أن يرحل عن عالمنا خاوياً، أي أن لا تبقى في جعبته أي مشروعات يزمع كتابتها لكنه تحدث لنا بأنه ينوي كتابة رواية تدور أحداثها في المقبرة، عن شاب يزور قبر أبيه، ليجد هناك ثلاثة أشخاص يقولون له: أنت ترانا ولكن لا أحد غيرك يرانا، إلا أن القدر شاء أن تبقى هذه الفكرة جنيناً في رأسه ولم تولد رواية مكتوبة على أساس ستكون روايته الثامنة.

رغم دراسته وعمله في ميدان الإعلام، كان يسعى إلى إبداع عمل روائي يجعله أقرب إلى الحقيقة، إيماناً منه بأن الوصول إلى الحقيقة يتم عن طريق الخيال، أي من خلال الغوص في عالم الشخصيات الحائرة والقلقة عبر لغة يقرأها الجميع، ولم يتوان عن طرق الموضوعات الساخنة والمتلهبة في عالمنا العربي، منتقداً المحرمات التي يفرضها المجتمع من دون وعي في كثير من الأحيان.

قارئ رواياته يجد المتعة والحبكة والجدل والثراء الفلسفي، بلغة خاصة به، أسلوب اجترحه من خلال سعيه وراء التميّز والجديد، إذ بقي لصيقاً بقضايا مجتمعه وعالج أخطرها وأكثرها حرارةً والتهاباً مثل التطرف والانفتاح والحرية والتشتت والحروب والخطباء وغيرها من الثيمات التي تنتشر في ثنايا رواياته. اختار الكاتب لغة السهل الممتنع لكي يحملنا إلى عوالمه الروائية، غير المطروقة، بحيث لا تنتهي من قراءة رواية له إلا وتقطف منها ثمرة فلسفية عبر لسان شخصياته، جامعاً بين المتعة والحبكة المبتكرة والخيال، كتب رواياته في أماكن مألوفة إلى روحه: جدة، ودبي، وغرناطة، ومدينة الشاون. استطاع هاني نقشبندي أن يتفاعل مع كل من المجتمع السعودي والخليجي والعربي من أوسع الأبواب: الخيال. وصدرت رواياته في ظروف انتقالات وتحولات في بنية مجتمعاتنا، إلا أنها أثبتت أن مصيرها هو الانفتاح والحرية. صدرت لوحاته في طبعات عديدة ومختلفة، واستحقت معظمها أن تترجم إلى اللغات العالمية منها الإنجليزية والإيطالية.

تميّز الكاتب بجرأة طرحه لموضوعات ما تُسمى بـ«التابو»، أي المحرمات أو الممنوعات: التاريخ، المواطن، التراث، والإرهاب. ومن أجل ذلك طرح خطاباً جديداً في رواياته، فقد كان يكافح ضد النمطية والقوالب الجاهزة، ساعياً إلى إثارة الحراك التنويري الحديث، حاملاً مضامين اجتماعية وسياسية توزعت على رواياته السبع، جميعها نُشرت في «دار الساقي»، وتم توزيعها في بلده وفي العالم العربي، فاستطاعت أن تتجاوز القيود والحدود المحلية.

كان الكاتب الراحل دؤوباً على الإنتاج، إذ ما إن ينتهي من كتابة رواية حتى يبدأ بكتابة أخرى. كان يؤكد أن نهاية كل رواية من رواياته هي بداية لكتابة رواية أخرى، كما أنها تتميز بنهايات مفتوحة غير خاضعة لمنطلق أو عقلانية معينة، فهو يعطي القارئ حريته في التخييل والرؤية.

هكذا ينتقل من هذا الموضوع ليطرح موضوعاً ملتهباً، وهو التطرف الديني الذي عالجه روائياً بكل حكمة وعقلانية، فهو في الرواية يبحث عن أسباب هذا التطرف والظروف التي أدت إلى استفحاله في المجتمع العربي.

في رواية «اختلاس» يغوص في عالم المكبوتات التي يعاني منها المجتمع، عاداً الموروث حافزاً لاستعادة التاريخ لا لتشويهه وفرض سطوته، ويقيم تضاداً بين هاجس المرأة وجموح الرجل.

وفي روايتي «طبطاب الجنة»، و«الخطيب»، عمد إلى رصد تأثير الخطاب الديني في الشارع العربي؛ الرواية الأولى تدور أحداثها في مدينة جدة في مقبرة «أمنا حواء»، حيث يلازم الشاب سلومي القبر أمام قبر سلمى حبيبته، وهو لا يتناول سوى الحلوى الشهيرة في السعودية «طبطاب الجنة»، مبدياً منها رمزية عالية. وفي الجهة الأخرى، ثمة فتاة تدعى «غرسط» تراقبه من نافذتها. إنه جنون الحب يطرحه الكاتب بطريقته الرمزية، وهي يتحدث عن ظلم المرأة. ومن خلال هذه الحبكة يدخلنا الكاتب إلى عالم القبور الحزين، ويجيب على الأسئلة الوجودية في الحياة والموت والحب والعشق والوله كأنه يتحدث عن قيس وليلى، لكن بطريقة عصرية، حيث تتقاطع مصائر بطليها، مع مصائر بطلي هذه الرواية. من خلال أحداث هذه الرواية، يسعى الكاتب إلى تجسيد سوداوية الواقع من خلال حبكة روايته الممتعة. أما في رواية «الخطيب»، فهو يمزج الواقع بالخيال، متناولاً قصة خطيب تقليدي يؤدي عمله حرفياً وبانتظام. لكن ما وقع فيه الخطيب أنه ألقى خطبة واحدة جاءت مختلفة عن خطبه السابقة، كررها عن طريق الخطأ. من هذه النقطة، بدأ الخطيب والمؤذن، الذي هو مساعده، يفكران في أمرين: الأول، كيف لم ينتبه أحد من المصلين إلى أن الخطبة الأخيرة جاءت مكررة، ما يعني أن أحداً لم يستمع من قبل لها؟ والأمر الثاني، ومن أجل ذلك، يقترح المؤذن على الخطيب أن يجعل خطبته أكثر التصاقاً بحياة الناس، ومعالجة همومهم اليومية. رواية «الخطيب» عمل أدبي ضد الغلو والتطرف والتعصّب والتكفير، يسعى الكاتب من خلالها إلى إحداث هزة في علاقة الخطيب بالجمهور، وعلى الاثنين أن يفكرا بإيجاد علاقة أخرى بينهما قائمة على فهم مشترك للحياة العصرية، كما يعيشها الملايين حالياً، وأولى هذه الرسائل هي: التعايش السلمي بين جميع الأطياف في المجتمع، وتجديد الخطاب الديني، وعدم إقصاء الآخرين، والانفتاح على الحياة المعاصرة. تميزت الرواية بجرأة الطرح لموضوع جوهري لم تتطرق إليها الرواية العربية.

في رواية «سلّام» ينتقل الروائي إلى التاريخ، لكن ليس بطريقة كتابة الرواية التاريخية، بل من خلال رواية التخييل التاريخي، عبر فكرة عن التاريخ الأندلسي، واحتلال إسبانيا لها، جاعلاً منها رواية مستقبلية عن فكرة الاحتلال وتوثيق ما يدور بالذهن العربي. وهو كسر الفكر السائد من أن الأندلس كانت جنتنا الموعودة، لأننا كنا نصنع أوهاماً حولها، حسب رؤية الروائي. ولا يزال تاريخنا مليئاً بالحروب والغزوات والموت. هكذا لا يستسلم الروائي إلى الواقع والتاريخ المكتوب، بل ينطلق من الخيال لكي يصل إلى جوهره، ولا يؤمن الكاتب بما نطلق عليه الحقيقة المطلقة لأنه يؤمن بأن الروائي له رؤيته عن هذه الحقيقة. وبطل روايته «سلاّم» رجل يرفض بناء قصر حمراء آخر، بل ويبدأ بالظن في كل التاريخ الذي ورثه بل ويعده أسطورة من الأساطير عبر تقنية المونولوغ؛ أي الحوار الداخلي للشخصيات.

غلاف سلام

ثم ينتقل الروائي نقشبندي إلى العوالم الغرائبية، كما في رواية «نصف مواطن محترم»، وينقلنا إلى حبكة تدور حول موظّف بسيط يرافق زوجته إلى المستشفى، لإجراء عملية جراحية طارئة، فيكتشف أن البلاد كلّها في حالة حداد عام على أحد أقرباء الزعيم مما يؤدي إلى تأجيل موعد العملية لأسبوع فيفقد أعصابه وينتفض ضد هذه الإجراءات. وعلى أثر ذلك، يتم سجن الرجل بتهمة تحريض الشعب على الثورة. لذلك يستعين محفل الوطن به لتهدئة الانتفاضة، فيُنصّب عضواً في المحفل نفسه، ويُعلَن بطلاً يقود البلاد للخروج من الأزمة. عبر هذه الحبكة استطاع أن ينقلنا الكاتب إلى عالم اللامعقول عبر أحداث عادية مألوفة.

وبما أنه عاش فترة طويلة في دبي، فقد كتب عنها روايته «ليلة واحدة في دبي»، وهي قصة متخيلة يستيقظ فيها البطل على معجزة بناء عمارة بسرعة خارقة، ترتفع إلى السماء. وفي ليلة واحدة أصبحت مائة طابق وما زالت تشقّ طريقها في السماء. لقد حجبت العمارة ضوء الشمس عن حجرة نومها. أحست بالخوف وأخذت تسأل: أين أنا؟ ثم ما لبث أن ضاع اسمها، نسيته وراحت تبحث عمن يعرفها كي يذكّرها به من دون أن توحي أنها نسيته. قدمت إلى دبي لتبدأ حياة جديدة بعد زواج دام شهرين، إذ تتوظّف في شركة كبيرة لكنّها لم تشعر بالاستقرار والطمأنينة مع العزلة التي أخذت تكبر في أعماقها كل يوم. فذكرى حبيبها الذي التقته بعد الطلاق وتخلّيه عنها، لا تزال تطاردها، لكنها في النهاية تفتح قلبها إلى الحارس الهندي في البناية لتبوح له بما يشغل بالها. رغم أن أحداث الرواية تدور حول دبي لكنها في حقيقة الأمر ليست دبي الواقعية، بل دبي الذي تخيلها الكاتب شأنها شأن العواصم المتروبوليتية كنيويورك وباريس والقاهرة وغيرها. من خلال فكرة بسيطة، تمكن الكاتب من خلق أجواء كابوسية يعاني منها الإنسان العصري في كل مكان، خصوصاً في المدن الكبيرة المزدحمة.

أما روايته السابعة فهي «قصة حلم» التي تم إخراجها مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان «صانع الأحلام» من «قناة أبوظبي». يطرح الكاتب موضوع الحلم باعتباره رؤية فانتازية ذات أبعاد مستقبلية. لذلك نجده يمزج بين ابن سيرين، أهم مفسري الأحلام في التاريخ العربي، وبين بطل روايته إسماعيل عمران، أستاذ جامعي فيزيائي يعيش في مصر. ورث عن أبيه علم تفسير الأحلام، إضافة إلى مهارته في الفيزياء. يطرح البطل أحلامه في مؤتمر، ويفاجئ الجميع بأن الإنسان إنما يصنع أحلامه بنفسه.


مقالات ذات صلة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثقافة وفنون ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

تحدثت سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمّق في كتبه وأفكاره».

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي

رواية عُمانية عن لعنة الخوف الذي يأكل الأرواح

رواية عُمانية عن لعنة الخوف الذي يأكل الأرواح
TT

رواية عُمانية عن لعنة الخوف الذي يأكل الأرواح

رواية عُمانية عن لعنة الخوف الذي يأكل الأرواح

بعد النجاح الذي حققته روايته «تغريبة القافر»، والتي تُوجت بجائزة «البوكر العربية»، صدرت عن دار «مسكيلياني» للروائي العماني زهران القاسمي روايته الجديدة «الرَّوع» التي تدور في عالمه الأثير، وهو البيئة العمانية الريفية من خلال القرى والجبال والمنحدرات والسهول وما يكتنفها من مفارقات ودراما خلف هدوء الطبيعة الخادع.

ويشير عنوان الرواية إلى تلك الفزاعة أو التمثال المزيف الذي ينتصب في الحقول وحول المزارع في المناطق المفتوحة غير الآمنة، بهدف إخافة الطيور والحيوانات نهاراً واللصوص ليلاً، حيث أبدع بطل النص «محجان» في تشييد «الرَّوع» الخاص به من أجود أنواع الأخشاب وغطاه بالأقمشة على نحو متقن وبارع، حتى إنه هو نفسه يندهش مما صنعته يداه: «وقف مطوَّلاً أمام عمله البديع متأملاً التفاصيل التي ساعدت في اكتماله، شيء لا يُصدّق؛ كيف استطاع أخيراً صنعه، وبذلك الكمال لدرجة أن الحياةَ ستدبّ في أوصالهِ؛ سَيجْري الدم في العروق، وينتشر الدفءُ فيه؟ شعَر بفخرٍ ونشوةٍ خرجتْ على شكل نفَسٍ عميقٍ وزفرةٍ طويلةٍ حتى كادَت رئتاه تخرجان مع الهواء».

تتطور الأحداث سريعاً لتصاب القرية بلعنة الجفاف وغيرها من المصائب الموسمية، فتكون المفاجأة أن أهاليها يلقون باللائمة على روع «محجان» وقد تحول في نظرهم إلى أصل كل الشرور، لكن الأكثر غرابة هو انتفاء الحد الفاصل بين الواقع والخيال في علاقة «محجان» بتمثاله؛ إذ يسكنه خوف مقيم ورعب حقيقي من «الرَّوع» وقد بدا له أنه لعنة تطارده في الصحو والمنام.

و«محجان» هو لقب بطل الرواية؛ إذ إن اسمه «عبيد بن ربيع»، لكنه لُقِّب بـ«محجان»؛ لأنه «يشبه (محجان) الراعيات، تلك العصا الطويلة التي يخبِطنَ بها أوراقَ الأشجارِ العاليةِ لتتساقط إطعاماً للماشية. فما إن أكملَ سنواتِ طفولته حتى صار أطولَ مَن في القريةِ».

ومن أجواء الرواية، نقرأ:

«جثّةٌ بلا رأس، بلا كفَّيْن أو قدمَيْن، تَمْثُلُ مصلوبةً على روع الحقل. كانت تستقبلُ بصدرها الغربَ، عاريةً إلّا من خرقةٍ ممزّقةٍ تستر وسطَها وقد نزَّ الدمُ من رقبتها وسالَ على صدرِها وتخثّر. رجلاها مربوطتان على الجذع دونَ أن تلامسَ أصابعُهما التراب. لمن هذه الجثّة يا إلهي؟ من أين جاءت؟ كيف وصلَتْ إلى المكان؟ ومن أتى بها؟

سقَطَ محجان لهول المفاجأة، وظلَّ في إغماءته تلك زمناً قبل أن يستيقظ ثانيةً ليُشاهدَ ذلك الجسدَ الممزّق بالطعنِ والجروح في كلِّ جزءٍ منه. ازدادَ جحوظُ عينَيه وتشنُّجُ قسماتِ وجهه. وأخذت أصابعُه تنبشُ في التّرابِ عميقاً لعلّه يحفرُ مخبأً يقيه من الموت الجاثم أمامه؛ إذ لَمْ يسبق له أن رأى شيئاً كهذا في حياته. اسودّت الدنيا في عينَيه، وكأنّ جاثوماً يضغطُ عليه ويُكبّل حركتَه وهو يحاولُ جاهداً الخروجَ من الكابوس، يحاولُ أن يقفز أو يهوي، وبعدَها يصحو، وليَكُنْ ما يكون.

ورغم ذلك، فإنّ الخوف الذي امتلأتْ به تلك اللّحظة، وجسدُهُ مُلقًى على التراب، لم يمنَعْ ضحكةً سمجةً من التجاوب في صدرِه؛ إذ سخرَ فجأةً من الموقف كلّه، ووصَفه بالكذبة. فلطالما سمعَ الأكاذيب وعاشَ في متاهاتها. ألَمْ يكن كُلُّ مَنْ حَوْلَهُ يكذب؟ والدموعُ التي فاضت ذاتَ يومٍ على فقيدٍ في القرية، ألَمْ تسبقها لعناتٌ كثيرةٌ عليه؟ وماذا يخفي الحبّ، خلفَ أقنعة الوجوه، غير الكراهية والحقد؟ والطّاعةُ؟ ألا يتوارى بين طيّاتها عصيانٌ بغيض؟

رفعَ عينَيه إلى السماء مُستجدياً، فلمحَ قبيلةً من الغربان. ركضَ وتعثّر، قامَ وسقط، إلّا أنّه لم يجرؤ على الاستسلام. تعثّر مرّةً أخيرةً قُبيلَ خروجِه من مزرعته. تلقّفَ الأرض براحتَي يدَيه كي لا يرتطمَ وجهُه بالطمي، وأحسّ بالمكان يجتذبُه إليه ليعيقَه عن الذهاب، وشعرَ بكائناتٍ سوداء تسحبُه محاوِلةً إرجاعَه إلى الروع.

- حسّيت كأنّي أنا المصلوب.

تلك هي الجملة الّتي سيظلّ يُردّدُها وهو يحكي الحكايةَ مرّاتٍ عديدةً لزوجته وأهل قريته المشدوهين».