«نخلة تاروت» من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت

مزخرفة بنقش متقن يجمع بين التصوير والتجريد

النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت
النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت
TT

«نخلة تاروت» من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت

النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت
النخلة كما تظهر على قطعتين اثريتين من جزيرة تاروت وقطعة من مقاطعة جيفروت

يحتفظ المتحف الوطني في الرياض بمجموعة كبيرة من الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، مصدرها جزيرة تاروت التابعة لمحافظة القطيف في المنطقة الشرقية. تحوي هذه المجموعة إناءً أسطواني الشكل تزيّنه أربع نخلات متوازية تتبع نسقاً واحداً في التأليف والنقش، كما تحوي كسراً جزئياً من آنية تزيّنه نخلة مماثلة.

عُرضت هذه الآنية ضمن مجموعة مختارة من أواني تاروت في معرض «طرق الجزيرة العربية» الذي انطلق في باريس صيف 2010 وجال العالم خلال السنوات التالية، وهي من الحجم الصغير، طولها 11.5 سنتيمتراً وقطرها 7.5 سنتيمتر، ومساحة ظهرها مزخرفة بنقش متقن يجمع بين التصوير والتجريد. يتكوّن هذا النقش من أربع نخلات متجاورة تلفّ بسعفها فضاء مساحة الآنية، من الأسفل إلى الأعلى. تتبع هذه الشجرات الأربع مثالاً واحداً جامعاً، تتجلّى سماته في تصوير الجذر والجذع والتاج التي تتكوّن منها النخلة.

ينتصب عمود الجذع في الوسط، وتكسوه قشرة خشبية على شكل شبكة من المربعات المتوازية المتساوية في الحجم. يخرج هذا الجذع من جذر يتكوّن من سلسلة خطوط متعرّجة. يشكّل هذا الجذر قاعدة للجذع العمودي، ويستقر التاج فوق هذه الساق، وتمتدّ سعفه المنبسطة في فضاء التأليف. يتميّز هذا التاج بضخامة سعفه، ويبدو الجذع في وسطها ضئيلاً في حجمه. يعلو الجذع عمود مجرّد يمثّل على الأرجح ما يُعرف بقلب النخلة، وهو «الجمّار» الذي تنبت منه الأغصان. تشكّل هذه الأغصان مثلثاً يمتدّ عمود القلب في وسطه، وتعلو هذا المثلّث شبكة من الخطوط المتوازية تمثّل ورق السعف المعروف باسم الخوص. في أسفل هذا المثلث، تخرج سلسلة أخرى من الأغصان تتدلّى نحو الأسفل وتبلغ في تدلّيها جذر الجذع. تشكّل هذا الأغصان قوساً ينتصب عمود الجذع في وسطه، وتؤلّف شبكة أخرى من السعف صيغ خوصها بالأسلوب نفسه. بين المثلث والجذع، يخرج من كل جهة غصن صغير منحنٍ نحو الأسفل، ويبدو أن هذين الغصنين يمثّلان «الشماريخ» التي تحمل عادةً الرُّطب.

يظهر هذا النموذج التشكيلي للنخلة مع اختلاف بسيط في التفاصيل على قطعة أخرى من تاروت صُنعت كذلك من حجر الكلوريت، وهي عبارة عن كسر من آنية مماثلة على الأرجح. عُرضت هذه القطعة الجزئية عام 2003 في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك، ضمن معرض حمل عنوان «فن المدن الأولى»، حوى مجموعة من القطع الأثرية التي خرجت من جزيرة تاروت. طول هذا الكسر 10 سنتيمترات، وعرضه 12 سنتيمتراً، ومساحته الصغيرة مزيّنة بنخلة ضاع جذرها. يرتفع الجذع في الوسط، ويعلوه مثلث عمودي يمثّل «الجمّار» الذي تتشكلّ من حوله السعف على شكل مروحة. حول الجذع، تنبت مجموعة من الأغصان تشكل كتلتين مقوّستين متوازنتين من السعف. عن يمين الجذع، يخرج غصن تتدلى من طرفه شبكة من الرطب. وعن يساره، يخرج غصن مماثل فقد شبكة رطبه للأسف.

يتكرّر نموذج «نخلة تاروت» في النتاج الواسع «متعدد الثقافات»، والأمثلة لا تُحصى، ومنها قطع خرجت من نيبور في منطقة الفرات الأوسط العراقية

قال أبو العلاء المعري خلال العصر العباسي: «وَرَدْنا ماءَ دجلة خير ماءٍ - وزُرنا أشرف الشجر النخيلا». وقال السري الرفاء: «فالنخل من باسق فيه وباسقة - يضاحك الطّلعَ في قُنْوانه الرُّطَبا». قبل ذلك بزمن طويل، في الألفية الثالثة قبل الميلاد، تغنّى السومريون بالنخلة، كما يشير الكثير من الشواهد الأدبية، منها نص يشير إلى خلق شجرة النخيل ويعدّد منافعها، ونص وصل باللغة الأكدية، ينقل سجالاً بين شجرة النخلة وشجرة الأثل. يقول النص الأول: «هذه النخلة، وليدة مجرى الماء - الشجرة الأبدية، لم يشهدها قبلاً أحدٌ قط - لسناها سوف يمنحنا لبّاً - ومن لحيتها ذات الألياف سوف تُنسج الحصر - مبارك هو وجودها في الأرض الملكية - وأقراط تمورها بين سعفها الكثيفة - سوف توضع كتقدمات». في النص الثاني، تتباهى النخلة وتجاهر بتفوّقها على غريمتها، وتقارن نفسها بتربة الأرض، فهي تتغذّى النبات والحبوب، وتسعد البشر على اختلاف طبقاتهم، من المُزارع إلى المَلك، وهي البطلة التي ليس لها منافس، ومن ثمارها تقتات «الفتاة اليتيمة والأرملة والرجل الفقير دون حساب».

في تلك الحقبة كذلك، تظهر صور النخلة التشكيلية وتتشكّل نماذجها، والشواهد الأثرية الخاصة بهذه الصور كثيرة في بلاد ما بين النهرين، وأشهرها ختم أسطواني محفوظ في متحف اللوفر يعود إلى عام 2250 قبل الميلاد، وفيه تظهر النخلة المنتصبة في الأفق، وتعلوها بضعة أغصان مورقة ترتفع نحو الأعلى، ومن جذر هذه السعف، تتدلى بضعة أغصان تحمل أطرافها تموراً كروية كبيرة، تشابه في حجمها ثمار التفاح والبرتقال.

تعود «نخلة تاروت» كذلك إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتمثّل نموذجاً تشكيلياً مغايراً. ينتمي هذا النموذج إلى أسلوب جامع ظهر في نواحٍ متباعدة جغرافياً، ووُصف لهذا السبب بـ«متعدد الثقافات». ظهر هذا الأسلوب في مملكة ماري، على الضفة الغربية لنهر الفرات في سوريا، كما ظهر في نواحٍ عدة من بلاد الرافدين. كذلك، راجت هذه المدرسة في ساحل الخليج، وبرزت في جزيرة تاروت السعودية، كما جزيرة فيلكا الكويتية ومنطقة سار البحرينية. وازدهرت في جنوب شرقي إيران، بين مقاطعتي بلوشستان وكرمان، كما تشهد مجموعة هائلة من أواني الكلوريت خرجت من مقاطعة جيروفت.

يتكرّر نموذج «نخلة تاروت» في هذا النتاج الواسع «متعدد الثقافات»، والأمثلة لا تُحصى، ومنها قطع خرجت من نيبور في منطقة الفرات الأوسط العراقية، وأخرى خرجت من جيفروت، في منطقة نهر هليل، جنوب وسط إيران. يماثل إناءَ تاروت الأسطواني الشكل في بنيته كما في زينته التصويرية إناءان خرجا من جيفروت، وهما أصغر حجماً، وتزين كلّ منهما أربع نخلات صيغت في أسلوب مشابه، مع اختلاف في بعض التفاصيل يظهر في تنسيق السعف وتوزيع حللها.

يسود هذا النموذج الخاص بالنخلة في هذا النتاج المتعدد الأقطاب، لكنّ هذه السيادة لا تمنع ظهور نموذج يتمثّل بارتفاع جذع النخلة، في صورة تشابه في تأليفها المثال السومري. على سبيل المثل، يحضر هذا النموذج المغاير على إناء مخروطي طويل من جيفروت، يزيّنه نقش يمثل أسدين متواجهين يحتلّان النصف الأسفل من التأليف. وسط هذين الأسدين، تنتصب نخلة ممتدة القامة، يعلوها تاج مجللٌ بأغصان من السعف، تشكل أوراقها شبكة زخرفية تحتل القسم الأعلى من الإناء.


مقالات ذات صلة

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)
يوميات الشرق إطلالة على مدينة طرابلس اللبنانية من أعلى قلعتها الأثرية (الشرق الأوسط)

«جارة القلعة» تروي حكاية طرابلس ذات الألقاب البرّاقة والواقع الباهت

لا يعرف معظم أهالي طرابلس أنها اختيرت عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، لكنهم يحفظون عنها لقب «المدينة الأفقر على حوض المتوسط».

كريستين حبيب (طرابلس)
شمال افريقيا مبنى المتحف القومي السوداني في الخرطوم (متداول)

الحكومة السودانية تقود جهوداً لاستعادة آثارها المنهوبة

الحكومة السودانية عملت على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية وتأمين 76 موقعاً وصرحاً أثرياً تاريخياً في ولايات نهر النيل والشمالية، وجزء من ولاية الخرطوم.

وجدان طلحة (بورتسودان)
يوميات الشرق من أعمال التنقيب في موقع زبالا التاريخي المهمّ على درب زبيدة (واس)

السعودية... آمالٌ تُفعّلها المساعي لالتحاق مواقع بقائمة التراث العالمي

العمل قائم على تسجيل مواقع جديدة في القائمة الدولية للتراث العالمي، من أهمها دروب الحج القديمة، لا سيما درب زبيدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى تشمل الأنظمة المائية.

عمر البدوي (الرياض)

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان
TT

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط الذي التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

إدوارد سعيد

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

جامعة كولمبيا، نيويورك.