تعويذة لدرء الشر أم أداة طقسية تنشد الخصوبة؟

الدمية الأثرية المتحرّكة من قرية الفاو

تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق
تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق
TT

تعويذة لدرء الشر أم أداة طقسية تنشد الخصوبة؟

تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق
تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق

يحتفظ متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض بمجموعة كبيرة من القطع الأثرية التي عُثر عليها في قرية الفاو، منها تمثال أنثوي صغير مصنوع من العظم يمثّل نسقاً فنياً خاصاً يُعرف اليوم بـ«الدمية المتحركة». تتميّز هذه الدمية بأعضاء مستقلة موصولة بالصدر، مما يسمح بتحريكها، وفقاً لتقليد فني قديم شكّل أساساً للتقليد الحديث المتّبع حتى يومنا هذا في صناعة اللعب.

يبدو تمثال الفاو الأنثوي أشبه بقطعة منمنمة، فطوله لا يتجاوز 8 سنتيمترات، وذراعاه مفقودتان للأسف، وهما في الأصل مستقلّتان، كما يُستدلّ من الثقب الظاهر بشكل جلي في أعلى الكتف اليمنى. خصّص هذا الثقب لوصل الذراع الضائعة بخيط، وفقاً لنسق فني شاع في العالم القديم، تعود أقدم شواهده الأصلية إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، منها ما صُنع من الخشب ومنها ما صُنع بتقنية الطين المشوي، ومصدرها مصر. أشهر هذه النماذج الأولى هي تلك المحفوظة في متحف الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، وهي النماذج التي أشارت إليها الباحثة الأميركية كاتي ألدركين في مقالة علمية نُشرت في عام 1930 في «مجلة علم الآثار الأميركية» العريقة، تحت عنوان «الدُّمى المتحركة في العالم القديم».

تتبع هذه النماذج الأولى الأسلوب المصري بشكل كامل، وتتمثّل خصوصيّتها في أذرعها المستقلّة المثبّتة بأطراف أكتافها. استمرّ هذا التقليد في مصر، كما يشهد تمثال عاجيّ محفوظ في متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك، مصدره مجهول، وهو على الأرجح من نتاج القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويُعد من أقدم الدُّمى المصنوعة من العاج. بعد مرور قرون عدة، ظهرت في مقاطعة بيوتيا اليونانية دُمى متحركة مصنوعة من الطين المشويّ، وهي من النسق الإغريقي «البدائي»، وتتبع أسلوباً زخرفياً خاصاً، كما أنها تتميّز بسيقانها الموصولة، لا بأذرعها التي تشكّل جزءاً من كتلتها، بخلاف التقليد المصري. وصلت إلينا مجموعة كبيرة من هذه الدُّمى، توزّعت على عدد من المتاحف الأوروبية، وأقدمها يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ويشكّل انطلاقة جدية لهذا النهج.

 تبدو وظيفة الدُّمى الشرقية المتحركة ملتبسة إذ إنها مختلفة عن وظيفة نظيراتها الغربية على الأرجح

بعد مرور ما يقارب القرنين من الزمن، ظهر في العالم اليوناني نوع جديد من هذه الدُّمى يتبع أسلوباً متقناً في التجسيم الواقعي. اتخذت التماثيل طابعاً واقعياً، وأضحت أذرعها وسيقانها متحرّكة، وباتت بالفعل دُمى خاصة بالفتيات، كما تشير النصوص الأدبية المعاصرة لها، والصور الناتئة التي تظهر فيها صبايا يحملن بين أيديهن تماثيل أنثوية منمنمة. تشير المصادر الأدبية إلى أن الصبايا كنّ يقدّمن هذه الدُّمى الأنثوية نذوراً إلى كبرى المعبودات في سن البلوغ كعلامة تعبّد، وطلباً للشفاعة والحماية، وتبدو هذه المقولة صحيحة، إذ عُثر على دُمى من هذا الطراز بين أطلال معابد مكرّسة على أسماء «أرتيميس» شفيعة العذارى وحاميتهنّ، و«أفروديت» سيدة الحب والجمال والنشوة، و«أثينا» سيدة الحكمة والقوة، و«ديمتر» سيدة النبات والخصب والفلاحة.

تَواصل هذا التقليد الفني في الحقبة الهلنستية، إذ دخل العالم المتوسطي الشرقي، وبقي حياً في العالم الروماني حيث جرى التخلّي كما يبدو عن تقنية الطين المشوي، وشاعت تقنية العظم والعاج. وصلت إلينا من تلك الحقبة زهاء مائة دمية، تميّزت صناعتها بطابعها الكلاسيكي المتقن، كما تميّزت بتعدّد أعضائها الموصولة بأوتاد محكمة. تعود دمية قرية الفاو إلى القرن الأول أو الثاني حسب أهل الاختصاص، أي إلى تلك الحقبة، وتماثل من حيث التأليف الدُّمى الغربية، غير أنها تحمل سمات مغايرة تماماً، مما يوحي بأنها تتبع تقليداً مختلفاً، يمثّل جمالية لا تتبع الناموس اليوناني الكلاسيكي.

في الجمالية الكلاسيكية كما هو معروف، يتألف طول الجسد من خمس وحدات، وفقاً للتشريح الواقعي. يخرج تمثال الفاو الأنثوي عن هذا التقليد، ويجنح نحو التحوير. النسب بعيدة كلياً عن المنطق الواقعي. تتضاءل قامة الجسد أمام اتساع كتلة الوجه. تتكتّل الأشكال، وتتوالد التقاسيم الدائرية في تحديد الوجه، والشعر الكثيف الذي يعلوه، والعينان الجاحظتان، كما في إبراز مختلف أعضاء الجسد. تبدو خصلات الشعر أشبه بقبعة كبيرة تكسوها شبكتان من النقوش المربّعة، يفصل بينهما شقّ غائر ومستقيم في الوسط. وتبدو العينان أشبه بلوزتين ضخمتين مجردتين. الأنف قصير وصغير، والثغر منمنم، ويتألف من شفتين مطبقتين ترسمان ابتسامة خفيّة. الصدر عامر، ويخلو من أي تفاصيل. الخصر مثلّث تتوسّطه سرّة كبيرة. الحوض ضخم، وتحدّه فخذان مكتنزتان. الركبتان ممحوتان، والقسم الأسفل من الساقين ضائع.

يماثل تمثال الفاو تمثال من محفوظات متحف بغداد، مصدره مدينة سلوقية القديمة على ضفة نهر دجلة، كما يماثل تماثيل مشابهة محفوظة في متحف بنسلفانيا، مصدرها بابل ونيفور في بلاد الرافدين. واللافت أن هذا الطراز الشرقي يظهر كذلك في الغرب، ولو بشكل محدود، كما تشهد بضعة تماثيل منمنمة محفوظة في متحف الفاتيكان، مصدرها مقابر قديمة في روما تعود إلى الحقبة المسيحية الأولى. ظهر هذا النسق في القرنين الأولين للميلاد، غير أنه يمثّل من حيث الشكل على الأقل امتداداً لتقليد فني موغل في القدم، برز في سوريا كما في العراق. يتجلّى هذا التقليد في مجسمات طينية تمثّل هامات نسائية مجرّدة الملامح، تتميّز بصدرها الكبير وبأوراكها المكتنزة، كما بأحواضها المثلّثة الضخمة.

يمثّل هذا التقليد نسقاً جامعاً راج في تلك الحقبة الموغلة في القدم، وفيه يبدو الوجه ملتصقاً بالجسد من دون عنق، وتغيب عنه السمات والملامح. يحضر القسم الأعلى من الساقين، ويتميّز بفخذين ممتلئتين. كما يبرز القسم العلوي من الجسد بشكلٍ عارٍ تماماً، ويتميّز بصدر ممتلئ وبحوض واسع عريض. تشكل هذه العناصر الجزء الأكثر حضوراً في هذه المجسمّات، وتعيد إلى الذاكرة سيّدة الخليقة «نمو» في الميراث الأدبي السومري، والمعنى الحرفي لاسمها «ماء الأم»، وهي الأم الأولى التي نتج من حركتها تكوّن الكون الأوّل الذي يتضمّن السماء والأرض في حالة تلاصق واندماج.

في هذا السياق، تبدو وظيفة الدُّمى الشرقية المتحركة ملتبسة، وتبدو وظيفتها مختلفة عن وظيفة نظيراتها الغربية على الأرجح. ويرى البعض أنها ليست لعباً فحسب، بل تعويذات لدرء الشر، وأدوات طقسية تنشد الخصوبة والنمو والعطاء.


مقالات ذات صلة

«وسام فلسطين» لرئيس «الآثاريين العرب»

يوميات الشرق الدكتور محمد الكحلاوي يتسلم نجمة الاستحقاق الفلسطينية من السفير دياب اللوح (اتحاد الآثاريين العرب)

«وسام فلسطين» لرئيس «الآثاريين العرب»

منح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الثلاثاء، نجمة الاستحقاق ووسام دولة فلسطين للدكتور محمد الكحلاوي، رئيس المجلس العربي للآثاريين العرب.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من الكشف الأثري في جبَّانة أسوان بجوار ضريح الأغاخان (وزارة السياحة والآثار)

جبَّانة أسوان ضمن أهم 10 اكتشافات أثرية عالمياً في 2024

جاءت جبَّانة أسوان الأثرية المكتشفة بمحيط ضريح الأغاخان في مدينة أسوان (جنوب مصر) ضمن أهم 10 اكتشافات أثرية على مستوى العالم خلال عام 2024.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق واجه الآثاريون مشاقَّ في الوصول إليها والتنقيب في أسرارها وفك رموزها (واس)

مدوَّنة سعودية لحفظ تراث 14 قرناً من نقوش الجزيرة العربية

بعد أن بقيت النقوش القديمة محفوظة على الصخور وبطون الأودية في الجزيرة العربية أضحت تلك الكنوز التاريخية متاحة من خلال مدونة لغوية أطلقتها السعودية للوصول إليها.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق نال الراشد منحة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتاريخ الجزيرة العربية عام 2017 (واس)

«سعد الراشد» حياة في الآثار ودراسة حضارات الجزيرة العربية

مسيرة مهنية فذّة للبروفيسور سعد الراشد في مجال الآثار ودراسات الحضارة والنقوش في الجزيرة العربية انطلاقاً من جوهرة أعماله في استكشاف طريق الحج من الكوفة إلى مكة

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق إقبال كبير على معرض «قمة الهرم» في الصين (وزارة السياحة والآثار المصرية)

معرض «حضارة مصر القديمة» في الصين يتجاوز المليون زائر

حققت المعارض الأثرية التي تقيمها مصر مؤقتاً في الخارج أرقاماً «قياسية» خلال العام الماضي 2024، وفق ما أعلنته وزارة السياحة والآثار.

محمد الكفراوي (القاهرة )

سحر الموجي: إنني مهمومة بالكتابة عن لحظات التحوّل في حياة البشر

سحر الموجي
سحر الموجي
TT

سحر الموجي: إنني مهمومة بالكتابة عن لحظات التحوّل في حياة البشر

سحر الموجي
سحر الموجي

تولي الكاتبة والروائية المصرية سحر الموجي اهتماماً خاصاً في أعمالها بتأمُّل العالم الإنساني وتحوّلاته من منظور وجودي ونفسي يتسع للأسطورة وبراح التخييل. تعمل الموجي أستاذةً للأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، ولها اهتمامات بعروض فن «الحكي»، ومجال «السيكودراما».

من أبرز أعمالها مجموعة «سيدة المنام» و«ن»، التي حصلت على جائزة «كفافيس» 2008، ورواية «مسك التل» التي فازت بجائزة «ساويرس» الثقافية 2019.

هنا حوار معها حول عالمها الروائي وهموم الكتابة:

* استلهمتِ شخصية «كاثرين» بطلة «مرتفعات ويذرنغ» و«أمينة» من عالم نجيب محفوظ، لتكونا بطلتَي عالم «مسك التل» الخيالي. كيف تعاملتِ مع تداخل أزمنة القراءة والكتابة في هذه الرواية؟

- أحب ألعاب الزمن، وربما اكتشفتُ هذا الأمر بعد الانتهاء من كتابة «مسك التل»؛ فأنا مغرمة بهذه الألعاب، وعلاقتي ببطلتَي الرواية مرتبطة بزمن قراءة ممتد عبر السنوات، فقد تعرفت على «كاثرين»، منذ قرأت «مرتفعات ويذرنغ» وأنا طفلة، وعندها أبهرني هذا المكان ببريّته وشخصياته الخارجة عن السياق. وفي عام 1999، زُرت بيت «برونتي» في إنجلترا لأقترب من هذا العالم من جديد في زمن آخر. كانت تجربة مختلفة جداً أن أشاهد ملابسهم وحجم أجسامهم الضئيل، كما درست هذا العمل الأدبي عندما كنتُ طالبة في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. وبعدها بسنوات قمت بتدريسه للطلبة؛ لذلك هو نص أدبي ممتد على مدار عمري. أما شخصية «أمينة»، فلديَّ معها تساؤلات كبيرة. طالما استوقني نقدياً رسم شخصيتها، بعكس تعقيد شخصية «السيد أحمد عبد الجواد». كانت «أمينة» بسبب الوعي النسوي المبكر في عمق اهتمامي بكيفية تقديم الأدب للنساء، وأصواتهن، ليس أبداً من باب فكرة الانتصار لهن، ولكن لفهم هزيمتهن؛ لذلك لحظة التفكير في جمع «كاثرين» و«أمينة» في نص جديد كانت لحظة سحرية بالنسبة لي.

* ما الرابط الذي جعلكِ تجمعين بينهما في نص جديد؟

- لم أكن أعلم السبب بدقة مع بداية كتابتي للعمل. ومع الكتابة أدركت أن ما يجمع بينهما علاقتهما بالسياقات المجتمعية، كيف أن «كاثرين» تقمع الجانب البري في شخصيتها وتستسلم لما يتطلبه منها المجتمع الفيكتوري، وتهزم نفسها بالاستسلام للمتوقَّع اجتماعياً منها، وتدفع ثمن هذا بموتها، وكذلك علاقة «أمينة» بالمتوقَّع منها في علاقتها بالسياقات المجتمعية في الجزء الأول من «الثلاثية» ورضاها عنه، وكيف أنها لا ترى في ذلك أي انسحاق، وهذا ما عبَّرت عنه في شخصيتها في «مسك التل» بأنها راضية وسعيدة بأداء هذا الدور الذي نراه نحن انسحاقاً. كان التحدي بالنسبة لي هو منحهما فرصة لحياة جديدة لهما دون أن أُخلّ بالروايتين.

أنا شخصياً عشتُ أكثر من حياة واحدة؛ كنتُ في لحظة أُشبِه «أمينة» التي تُصدق تماماً ما يقوله المجتمع، وفي لحظة أخرى تمردتُ وخرجت عن هذا المتوقَّع؛ فتمردت على «أمينة» التي بداخلي. منذ تلك اللحظة، وأنا أسأل نفسي عندما تقابلني أي فكرة: هل هذه فكرتي الخاصة أم أنها فكرة المجتمع، ورغم أنني عشتُ حيوات متعددة فإن هناك جوهراً لا يغادرني رغم الطفرات الهائلة التي لحقت بالوعي والاختيارات والشخصية، ومن ثم تبلور السؤال الوجودي الذي يحركني في النص حتى لو لم أكن واعية به لحظة كتابته؛ وهو سؤال: ماذا سنكون لو عشنا أكثر من زمن؟

*هل فكرتِ في أن تكون هذه الرواية بمثابة عالم نسوي مُصغّر؟

- سُئلت في مناقشات حول «مسك التل»: «أين الرجال في النص؟»، وفي الحقيقة لم أكن مُتعمدة هذا، لكن كان يشغلني رؤية العالم بعيون نساء، وأعتقد أن هذا سؤال كبير، هو سؤال الأدب نفسه، فعلى مدار نحو 200 سنة اتسع النهر الذي يجمع كتابة النساء عن أنفسهن والعالم، ومع ذلك ليس لدى كل الكاتبات وعي نسوي.

* هناك من يعتبرن أن الكتابة النسوية تشكل تضييقاً لزاوية رؤية العالم، وهناك مَن يتبرأن منها؛ هل تتعمدين الكتابة بهذه النزعة؟

- لا أتعمد ذلك أبداً، فالكتابة ترجمة لعالم الكاتب عبر التخييل، وبها تظهر همومه وأسئلته التي يطرحها عبر شخصيات مُتخيَّلة. بالنسبة لي لدي وعي نسوي مبكر منذ كان عمري 20 عاماً، لكن في البحث الأكاديمي أستطيع أن أوظِّف النقد النسوي في قراءة عمل، فيما الأمر مختلف في الكتابة الأدبية التي أعتبرها حكاية تطرح أسئلتي أنا؛ كسؤال الموت والزمن وصوت النساء، أسأل نفسي مثلاً: ماذا لو أخذت «أمينة» فرصة حياة أخرى؟ رضوى عاشور على سبيل المثال كانت تقول إنها ليست كاتبة نسوية، وذلك لأن ما كان يُحركها في الكتابة هو قضايا اليسار. أنا لا أريد إثبات شيء أو الانتصار لشيء، ولدي مساحات أخرى تنخرط مع الواقع للتعبير عن قضايا النسوية، مثل ورش العمل. أما منطقة الكتابة فيجب أن نتنبه ألا يكون بها إسقاط أو آيدولوجيات؛ فهاك خط فاصل بين الأسئلة الوجودية والآيدولوجيا.

* الأسطورة، وتحديداً المصرية القديمة، لها حضور بارز في أعمالك، أتذكر حضور «إيزيس» في مجموعتك «سيدة المنام»، و«حتحور» في رواية «ن». حدثينا عن ذلك.

- أنا مهتمة بفكرة زواج الأسطورة وعلم النفس، بالنسبة لي الأسطورة تمنحنا إجابات عن كثير من أسئلة عالمنا الباطني؛ فشخصية «إيزيس» في «سيدة المنام» كانت تلك الذات الأنثوية التي تُعيد ولادة نفسها من جديد، وتعيد رؤية نفسها في مواجهة ما رسخّت له الأسطورة؛ ففي وقت «سيدة المنام» كنتُ أسأل نفسي: لماذا تم الترويج لـ«إيزيس» في الوعي العام بوصفها الأم والزوجة المخلصة وليست كسيدة «قوية» جداً، من دونها لن تكون هناك أسطورة من الأساس؛ فأردتُ في قصتي أن تُلملم «إيزيس» أشلاءها دون استسلام للتأويل العام للأسطورة، وفقاً لقراءات غارقة في مؤسسية بطريركية ورأسمالية وغيرها، أما رواية «ن» فشخصية «حتحور» الربّة المصرية القديمة هي عمودها الفقري: «حتحور» جزء منا جميعاً، بما في ذلك رغبتنا وقدرتنا على الحب والحرية، علاوة على رغبتي في مدّ الجذور لإرث يخصني بشكل شخصي بالاتجاه للأسطورة المصرية القديمة.

* ربما بسبب ذلك، وعلى المستوى الفني، كان لشخصية «حتحور» دور مركزي كراوٍ عليم وشاهد على تحوّلات الحكاية.

- الأسطورة مكان مرن ورحب، لأنها بالأساس منطقة تخييل، بعكس التاريخ الذي يكون مُقيداً بشكل أكبر. الأسطورة شكل للحكي الشعبي: «حتحور» في رواية «ن» كانت بمثابة راوٍ عليم ومُشارِك ومشتبك مع الشخصيات؛ لذلك هي شخصية مُحرِكة للنص، وهذا كان مُرضيا فنياً بالنسبة لي، وجعلني أخلق نسخة روائية لـ«حتحور» تخصني تعبر عن تلك اللحظة من الزمن. كنت ألعب مع الأسطورة في ملعب أكبر، لم تكن مواصفات «حتحور» تؤهلها فقط لأن تكون سارِدة للنص، لكنني أيضاً لاحظتُ أنها لم تحظَ بشعبية داخل الأسطورة المصرية القديمة، في مقابل «إيزيس»، على سبيل المثال، وأردت أن أنتصر لها من هذا التهميش.

* هل تؤرِقك مسألة الإصدار المُتباعد لأعمالك الأدبية؟

- أحتاج إلى وقت طويل كي أصدّق العالم الذي أخلقه، كي أصدق مثلاً أن هناك «بيت سيرنت»، وقد طرحتُ على نفسي هذا السؤال قبل ذلك، وتصالحتُ مع واقع أنني غير مهتمة بمنطق الكمّ؛ فما الذي يُكرسه لديَّ الكم؟ أريد أن أكون راضية عن مستوى أعمالي وليست لدي تطلعات في مسألة عددها؛ فالحياة منحتني أكثر مما تخيّلت، ورهاناتي الفنية والإنسانية بعيدة عن توقعات العالم الذي يرى أن الكاتب يجب أن يكون له عمل روائي جديد على فترات متقاربة، كما أنني أريد أن أنتصر للحياة، مثل عملي وشغفي بالتعلُّم.

*هل كان لذلك علاقة بدراستك لمجال «السيكودراما»؟ وهل رأيتِ أنه سيكون مرتبطاً بمشروعِك الأدبي؟

- أذكر أنني في عام 2010 سُئِلت في إنجلترا عن ماهية الموضوع الذي أكتب عنه، استغربت هذا السؤال، ولكنني عندما تأملت كتاباتي اكتشفت أنني مهمومة بالكتابة عن لحظات التحوّل في حياة البشر، وبعد سنوات عندما التحقت بورش «السيكودراما»، عام 2013، سُئِلت عن سبب انضمامي لها؛ فقلت إنني أعتقد أن هناك رابطاً بين مشروعي في فن «الحكي» وهذا المجال، ولكنني بعد سنوات من دخولي هذا المجال ودراسته علمياً اكتشفت أنني أصبحت أشهد بنفسي لحظات تحوّل في حياة بشر، وأنني أساعدهم في ذلك، فربما هناك عامل مشترك في فكرة تأمل لحظات التحوّل عبر الكتابة والسيكودراما، ولكن السيكودراما تجعلني أشهد ذلك بشكل مباشر، تماماً مثل فكرة آنية الاستقبال في المسرح.

* هل يمكن أن تكتبي عن تجربة السيكودراما أو حتى استلهامها في عمل روائي؟

- البعض تصوّر أن «مسك التل» كان بها تأثيرات من فكرة السيكودراما، لكن في الحقيقة أنني كتبتُ هذه الرواية قبل التحاقي بهذا العالم. أما النص الروائي الذي أعمل عليه حالياً منذ 4 سنوات فبه أعمدة واضحة من السيكودراما.

قبل السيكودراما كانت لدي رحلة طويلة داخل عالمي الداخلي استغرقت نحو 20 عاماً، لذلك فإن السنوات الثلاث التي قضيتها في دراسة نظرية وعملية لهذا المجال أجدها تستحق، حتى لو كنت فكرتُ أنني كان يمكنني خلال هذه الفترة أن أنجز عملاً روائياً فيها.

* لديكِ حضور بارز في مشهد مناقشات الإصدارات الجديدة، وكذلك في لجان التحكيم، كيف تقدرين حالة الصخب التي تواكب كثافة النشر خلال السنوات الأخيرة؟

- من وجهة نظري، فإن أبرز انعكاسات عشوائية المشهد أن هذا الكم من الأعمال الأدبية لا يتناسب إطلاقاً مع القراءات النقدية الموازية، علاوة على أنني ألاحظ صدور كتابات متسرعة، ربما بسبب سهولة النشر إلى حد ما. أما بالنسبة للجوائز فأنا مع جوائز المجتمع المدني ولا أثق في الجوائز الحكومية. وما يقلقني هو أن يكتب الكاتب وعينه على شروط أو مواصفات جائزة بعينها، وألا يكون رهانه الكتابة نفسها. أعرف أنه جهاد حقيقي للنفس؛ أن يخوض الكاتب هذه المعركة مع نفسه، ولا ينشغل بماذا تريد جائزة معينة، أو ماذا يريد الغرب، كل تلك الأسئلة يجب أن يحسمها الكاتب مع نفسه.

وأعتقد أن تجربة الكتب «غير الروائية» من التجارب التي يجدر تسليط الضوء عليها، مثل كتاب إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» كان له دور في دفع هذا النوع من الكتابة، وأرى أنها تحمل رحابة فنية كبيرة، وألعاباً فنية وحركة في الزمن، وهو لون فني مهجور نسبياً في مقابل كثافة الإنتاج الروائي على سبيل المثال.