تعويذة لدرء الشر أم أداة طقسية تنشد الخصوبة؟

الدمية الأثرية المتحرّكة من قرية الفاو

تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق
تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق
TT

تعويذة لدرء الشر أم أداة طقسية تنشد الخصوبة؟

تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق
تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق

يحتفظ متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض بمجموعة كبيرة من القطع الأثرية التي عُثر عليها في قرية الفاو، منها تمثال أنثوي صغير مصنوع من العظم يمثّل نسقاً فنياً خاصاً يُعرف اليوم بـ«الدمية المتحركة». تتميّز هذه الدمية بأعضاء مستقلة موصولة بالصدر، مما يسمح بتحريكها، وفقاً لتقليد فني قديم شكّل أساساً للتقليد الحديث المتّبع حتى يومنا هذا في صناعة اللعب.

يبدو تمثال الفاو الأنثوي أشبه بقطعة منمنمة، فطوله لا يتجاوز 8 سنتيمترات، وذراعاه مفقودتان للأسف، وهما في الأصل مستقلّتان، كما يُستدلّ من الثقب الظاهر بشكل جلي في أعلى الكتف اليمنى. خصّص هذا الثقب لوصل الذراع الضائعة بخيط، وفقاً لنسق فني شاع في العالم القديم، تعود أقدم شواهده الأصلية إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، منها ما صُنع من الخشب ومنها ما صُنع بتقنية الطين المشوي، ومصدرها مصر. أشهر هذه النماذج الأولى هي تلك المحفوظة في متحف الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، وهي النماذج التي أشارت إليها الباحثة الأميركية كاتي ألدركين في مقالة علمية نُشرت في عام 1930 في «مجلة علم الآثار الأميركية» العريقة، تحت عنوان «الدُّمى المتحركة في العالم القديم».

تتبع هذه النماذج الأولى الأسلوب المصري بشكل كامل، وتتمثّل خصوصيّتها في أذرعها المستقلّة المثبّتة بأطراف أكتافها. استمرّ هذا التقليد في مصر، كما يشهد تمثال عاجيّ محفوظ في متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك، مصدره مجهول، وهو على الأرجح من نتاج القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويُعد من أقدم الدُّمى المصنوعة من العاج. بعد مرور قرون عدة، ظهرت في مقاطعة بيوتيا اليونانية دُمى متحركة مصنوعة من الطين المشويّ، وهي من النسق الإغريقي «البدائي»، وتتبع أسلوباً زخرفياً خاصاً، كما أنها تتميّز بسيقانها الموصولة، لا بأذرعها التي تشكّل جزءاً من كتلتها، بخلاف التقليد المصري. وصلت إلينا مجموعة كبيرة من هذه الدُّمى، توزّعت على عدد من المتاحف الأوروبية، وأقدمها يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ويشكّل انطلاقة جدية لهذا النهج.

 تبدو وظيفة الدُّمى الشرقية المتحركة ملتبسة إذ إنها مختلفة عن وظيفة نظيراتها الغربية على الأرجح

بعد مرور ما يقارب القرنين من الزمن، ظهر في العالم اليوناني نوع جديد من هذه الدُّمى يتبع أسلوباً متقناً في التجسيم الواقعي. اتخذت التماثيل طابعاً واقعياً، وأضحت أذرعها وسيقانها متحرّكة، وباتت بالفعل دُمى خاصة بالفتيات، كما تشير النصوص الأدبية المعاصرة لها، والصور الناتئة التي تظهر فيها صبايا يحملن بين أيديهن تماثيل أنثوية منمنمة. تشير المصادر الأدبية إلى أن الصبايا كنّ يقدّمن هذه الدُّمى الأنثوية نذوراً إلى كبرى المعبودات في سن البلوغ كعلامة تعبّد، وطلباً للشفاعة والحماية، وتبدو هذه المقولة صحيحة، إذ عُثر على دُمى من هذا الطراز بين أطلال معابد مكرّسة على أسماء «أرتيميس» شفيعة العذارى وحاميتهنّ، و«أفروديت» سيدة الحب والجمال والنشوة، و«أثينا» سيدة الحكمة والقوة، و«ديمتر» سيدة النبات والخصب والفلاحة.

تَواصل هذا التقليد الفني في الحقبة الهلنستية، إذ دخل العالم المتوسطي الشرقي، وبقي حياً في العالم الروماني حيث جرى التخلّي كما يبدو عن تقنية الطين المشوي، وشاعت تقنية العظم والعاج. وصلت إلينا من تلك الحقبة زهاء مائة دمية، تميّزت صناعتها بطابعها الكلاسيكي المتقن، كما تميّزت بتعدّد أعضائها الموصولة بأوتاد محكمة. تعود دمية قرية الفاو إلى القرن الأول أو الثاني حسب أهل الاختصاص، أي إلى تلك الحقبة، وتماثل من حيث التأليف الدُّمى الغربية، غير أنها تحمل سمات مغايرة تماماً، مما يوحي بأنها تتبع تقليداً مختلفاً، يمثّل جمالية لا تتبع الناموس اليوناني الكلاسيكي.

في الجمالية الكلاسيكية كما هو معروف، يتألف طول الجسد من خمس وحدات، وفقاً للتشريح الواقعي. يخرج تمثال الفاو الأنثوي عن هذا التقليد، ويجنح نحو التحوير. النسب بعيدة كلياً عن المنطق الواقعي. تتضاءل قامة الجسد أمام اتساع كتلة الوجه. تتكتّل الأشكال، وتتوالد التقاسيم الدائرية في تحديد الوجه، والشعر الكثيف الذي يعلوه، والعينان الجاحظتان، كما في إبراز مختلف أعضاء الجسد. تبدو خصلات الشعر أشبه بقبعة كبيرة تكسوها شبكتان من النقوش المربّعة، يفصل بينهما شقّ غائر ومستقيم في الوسط. وتبدو العينان أشبه بلوزتين ضخمتين مجردتين. الأنف قصير وصغير، والثغر منمنم، ويتألف من شفتين مطبقتين ترسمان ابتسامة خفيّة. الصدر عامر، ويخلو من أي تفاصيل. الخصر مثلّث تتوسّطه سرّة كبيرة. الحوض ضخم، وتحدّه فخذان مكتنزتان. الركبتان ممحوتان، والقسم الأسفل من الساقين ضائع.

يماثل تمثال الفاو تمثال من محفوظات متحف بغداد، مصدره مدينة سلوقية القديمة على ضفة نهر دجلة، كما يماثل تماثيل مشابهة محفوظة في متحف بنسلفانيا، مصدرها بابل ونيفور في بلاد الرافدين. واللافت أن هذا الطراز الشرقي يظهر كذلك في الغرب، ولو بشكل محدود، كما تشهد بضعة تماثيل منمنمة محفوظة في متحف الفاتيكان، مصدرها مقابر قديمة في روما تعود إلى الحقبة المسيحية الأولى. ظهر هذا النسق في القرنين الأولين للميلاد، غير أنه يمثّل من حيث الشكل على الأقل امتداداً لتقليد فني موغل في القدم، برز في سوريا كما في العراق. يتجلّى هذا التقليد في مجسمات طينية تمثّل هامات نسائية مجرّدة الملامح، تتميّز بصدرها الكبير وبأوراكها المكتنزة، كما بأحواضها المثلّثة الضخمة.

يمثّل هذا التقليد نسقاً جامعاً راج في تلك الحقبة الموغلة في القدم، وفيه يبدو الوجه ملتصقاً بالجسد من دون عنق، وتغيب عنه السمات والملامح. يحضر القسم الأعلى من الساقين، ويتميّز بفخذين ممتلئتين. كما يبرز القسم العلوي من الجسد بشكلٍ عارٍ تماماً، ويتميّز بصدر ممتلئ وبحوض واسع عريض. تشكل هذه العناصر الجزء الأكثر حضوراً في هذه المجسمّات، وتعيد إلى الذاكرة سيّدة الخليقة «نمو» في الميراث الأدبي السومري، والمعنى الحرفي لاسمها «ماء الأم»، وهي الأم الأولى التي نتج من حركتها تكوّن الكون الأوّل الذي يتضمّن السماء والأرض في حالة تلاصق واندماج.

في هذا السياق، تبدو وظيفة الدُّمى الشرقية المتحركة ملتبسة، وتبدو وظيفتها مختلفة عن وظيفة نظيراتها الغربية على الأرجح. ويرى البعض أنها ليست لعباً فحسب، بل تعويذات لدرء الشر، وأدوات طقسية تنشد الخصوبة والنمو والعطاء.


مقالات ذات صلة

«وسام فلسطين» لرئيس «الآثاريين العرب»

يوميات الشرق الدكتور محمد الكحلاوي يتسلم نجمة الاستحقاق الفلسطينية من السفير دياب اللوح (اتحاد الآثاريين العرب)

«وسام فلسطين» لرئيس «الآثاريين العرب»

منح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الثلاثاء، نجمة الاستحقاق ووسام دولة فلسطين للدكتور محمد الكحلاوي، رئيس المجلس العربي للآثاريين العرب.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من الكشف الأثري في جبَّانة أسوان بجوار ضريح الأغاخان (وزارة السياحة والآثار)

جبَّانة أسوان ضمن أهم 10 اكتشافات أثرية عالمياً في 2024

جاءت جبَّانة أسوان الأثرية المكتشفة بمحيط ضريح الأغاخان في مدينة أسوان (جنوب مصر) ضمن أهم 10 اكتشافات أثرية على مستوى العالم خلال عام 2024.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق واجه الآثاريون مشاقَّ في الوصول إليها والتنقيب في أسرارها وفك رموزها (واس)

مدوَّنة سعودية لحفظ تراث 14 قرناً من نقوش الجزيرة العربية

بعد أن بقيت النقوش القديمة محفوظة على الصخور وبطون الأودية في الجزيرة العربية أضحت تلك الكنوز التاريخية متاحة من خلال مدونة لغوية أطلقتها السعودية للوصول إليها.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق نال الراشد منحة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتاريخ الجزيرة العربية عام 2017 (واس)

«سعد الراشد» حياة في الآثار ودراسة حضارات الجزيرة العربية

مسيرة مهنية فذّة للبروفيسور سعد الراشد في مجال الآثار ودراسات الحضارة والنقوش في الجزيرة العربية انطلاقاً من جوهرة أعماله في استكشاف طريق الحج من الكوفة إلى مكة

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق إقبال كبير على معرض «قمة الهرم» في الصين (وزارة السياحة والآثار المصرية)

معرض «حضارة مصر القديمة» في الصين يتجاوز المليون زائر

حققت المعارض الأثرية التي تقيمها مصر مؤقتاً في الخارج أرقاماً «قياسية» خلال العام الماضي 2024، وفق ما أعلنته وزارة السياحة والآثار.

محمد الكفراوي (القاهرة )

قصة كلب فيلسوف وحيد

كافكا
كافكا
TT

قصة كلب فيلسوف وحيد

كافكا
كافكا

بحلول الوقت الذي توفي فيه الروائي التشيكي فرانز كافكا في عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 عاماً، كان صاغ ثلاث روايات (المحاكمة، والقلعة، وأمريكا) لكنه لم ينته أو ينشر أياً منها في حياته، باستثناء بعض المقتطفات. وقبلها كان نشر رواية وجيزة وعدداً من القصص القصيرة قبل أن يعهد بكل كتاباته التي لم يتخلّص منها إلى صديقه وناشره ماكس برود كي يتولى حرقها في حال وفاته. على أن برود لم ينفّذ الوصيّة، وبعد بعض التدخلات التحريريّة نشر الروايات الثلاث التي أسست لاحقاً - لا سيّما بداية من فترة الستينيات - لسمعة كافكا واحداً من أهم روائيي القرن العشرين على الإطلاق، وأيقونة ثقافيّة عابرة للغات لدرجة أن أكثر القراء التهموا حتى كتاباته الشخصيّة كاليوميات والرسائل والملاحظات غير منشورة، وتناقلوا عنه مقاطع غامضة وزلات لسان، بل ونشر أحدهم مجموعة مختارة من المستندات التي كان يملؤها كافكا في إطار وظيفته اليومية ككاتب لدى هيئة التأمين ضد حوادث العمال.

غلبت على الأعمال التي تركها كافكا ثيمة النقد اللاذع للمؤسسات القانونيّة والبيروقراطيّة التي أنتجتها مرحلة الحداثة، والتنديد بأهوال الأنظمة الإدارية التي تأخذ حياة مستقلة عابرة للأشخاص وتصبح عصيّة على الاختراق بشكل غريب، لكن ثمة مساحة أخرى عُني بها، وإن لم تحظ بالانتشار، تعلّقت بنقد إنتاج المعرفة في الأكاديميا المعاصرة والتي لا تقل «كافكاويّة» في تصنيفاتها ونظم تقييماتها وترقياتها وتراتبياتها وأولوياتها التي يحرّكها السوق عن أي منظومة حداثيّة أخرى.

مقاربة كافكا لعالم إنتاج المعرفة جاءت في نص «أبحاث كلب»، أحد أقل أعماله شهرة، وأكثرها غموضاً، كان كتبه في خريف عام 1922، لكنّه تركه بلا عنوان، ولم ينشر إلا بعد وفاته، بتحرير صديقه برود، الذي جمع عدة كتابات قصيرة ونشرها في مجلد عام 1931 مضيفاً هذا العنوان لذلك النص ليربطه بـ«الأبحاث» الأكاديميّة.

«أبحاث» هي قصة ساخرة فلسفية عميقة لكلب وحيد غير قادر على التكيف مع محيطه ويتحدى العقيدة العلمية السائدة، فينطلق في رحلة بحث سعياً لفهم أفضل لذاته وللعالم من حوله، تأخذه إلى سلسلة من المغامرات النظرّية، تبدأ من استقراء لفضوله وغرائزه الاستقصائية قبل أن ينتقل إلى اللغز الرئيس للوجود معبراً عنه بسؤال «من أين يأتي الطعام؟».

ويبتكر الكلب المتفلسف في سياق بحثه عن إجابات عدداً من التجارب، ويطرح سيلاً لا يتوقف من الأسئلة دون أن يتلق أي إجابات، ثم يصف العقبة التي يصطدم بها عند محاولته استمالة زملاء للانضمام إليه في أبحاثه: الصمت والتخلّي، فكأن لا أحد يرغب بمعرفة الحقيقة. وفي وقت لاحق يطلق مبادرة جذريّة من أجل كشف أسرار التغذية، فيصوم، لكن ذلك كاد يقضي عليه، إذ شارف على الموت جوعاً. وتختتم القصة بتلخيص الاكتشافات الفلسفية للكلب، والتي يمكن تسميتها، «نظام العلوم»، وهو هيكل ذروته علم الحرية - التي ستكون الكلمة الأخيرة في القصة. أثار «أبحاث كلب» اهتمام آرون شوستر، أحد أهم الباحثين المعاصرين في الأنثروبولوجيا الثقافيّة والفلسفيّة القاريّة (الأوروبيّة) الذي رأى فيه تفكيراً رائداً سبق نقد المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان لما أسماه «الخطاب الجامعي» الذي لم يتعلق بسوء إدارة الجامعة الحديثة بقدر ما يتعلق بتسليط الضوء على التحول الواسع في هيكلة السلطة بالمجتمعات المعاصرة، حيث تتحد المعرفة والسلطة لإنشاء أنظمة إدارية تكرّس أوضاعاً معينة تعمل باسم العقل والتقدم التقني. وهنا دور كافكا الرؤيوي، مشككاً في هذا النظام الجديد، ومنقباً عن الجانب الخفيّ من حياده (العلميّ) المفترض، مع اقتراح طرائق أخرى بديلة للتفكير، وربما مخارج.

شوستر قدّم قراءته لـ«أبحاث كلب» في كتاب صدر بالإنجليزيّة حديثاً عن مطبعة «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» بعنوان «كيف تبحث ككلب: علم كافكا الجديد»، معتبراً هذا النصّ القصير لم يحظ بالاهتمام الذي يستحق، وأنّه لا يزال أكثرها غموضاً، ويتعيّن العمل على إعادة استكشافه وتفكيك ألغازه.

ويرى شوستر أن مفتاح النّص قد يكمن في كمّ السخريّة الهائل الذي تحمله «أبحاث كلب» مقارنة بمجمل تراث كافكا الأدبيّ كلّه، ما يجعلها في القراءة الأولى أشبه بنكتة متفلسفة طويلة غايتها الترفيه الفكري المحض. لكن معرفتنا بكافكا، كناقد عميق لمؤسسات الحداثة، تدفع للتساؤل عمّا إذا كانت قصته بمثابة هجاء لحماقات الفلسفة والمتفلسفين في أبراج عاجيّة، وشتيمة لفذلكات التكهنات الميتافيزيقية.

يأخذ شوستر القراءة تالياً إلى ما يشبه الصدمة: حيث لا نرى البشر في عالم الكلب الفيلسوف، لكنّهم أسياد الكون غير المرئيين، وهذه الفجوة الهائلة في الإدراك بين الظاهر ومن يقود العالم هي ما يفسّر للقارئ جميع أنواع المآزق المضحكة والمشاكل الزائفة التي يغرق فيها بطل القصة وراويها، الذي يقول «لقد عمدت مؤخراً أكثر فأكثر إلى النظر في حياتي بحثاً عن الخطأ الحاسم والأساسي الذي يجب أن أكون قد ارتكبته في وقت ما بالتأكيد، ولا يمكنني العثور عليه». إن هذا العمى عن القوة المهيمنة في العالم هو الخلل الأساسي الذي تتحرّاه «الأبحاث».

يقول شوستر إن الهيمنة تبدو في قصّة الكلب المتفلسف أكثر تعقيداً وغير مرئيّة، إذ بعكس «المحاكمة» و«القلعة» تنسحب السلطة المركزيّة إلى درجة تلاشيها من الرؤية تماماً لكن دورها مستمر على مستوى آخر من خلال عملية صناعة المعرفة التي تنتج العقائد والأفكار، لكّن ذلك يجعل السعي إلى الحرية أكثر إلحاحاً، وهو أمر يجعل من الحياة أقرب إلى حالة انتحار فاشلة مستمرة، فيما هذا الفشل تحديداً هو أدق تعبير عن الإيجابية والحياة.

إن «أبحاث كلب» التي كتبت في وقت متأخر من حياة مؤلفها، قد تكون وفق ما يذهب إليه شوستر في قراءته أفضل مدخل لفهم أعمال كافكا الأخرى كلها، ومفتاحاً لكسر مغاليق شخصياته شديدة التعقيد، بل ربما لمقدمة لا بدّ منها لفهم عقل كافكا نفسه.