«الجص» يروي فنون العمارة الإسلامية

أشاد به ابن خلدون وحمل أشعار العرب

«الجص» يروي فنون العمارة الإسلامية
TT

«الجص» يروي فنون العمارة الإسلامية

«الجص» يروي فنون العمارة الإسلامية

الجص لفظ معرَّب، وهو في الأصل أعجمي، لكنه درة التاج في العمارة الإسلامية وأحد أسرار تميزها على مر الزمان. تجده حاضراً في الزخارف والنقوش ويحمل أبياتاً شعرية حيناً وأدعية وابتهالات أحياناً، لكن ظل أحد أهم مفردات الإبداع في يد الفنان المعماري المسلم من الصين إلى الأندلس.

في كتابه «علم هندسة التراث المعماري» الصادر عن «معهد الشارقة للتراث»، يكشف عالم الآثار المصري المختص بفقه العمران د.خالد عزب جوانب خفية وجديدة حول هذا الموضوع.

ويشير في البداية إلى أن الجص يتكون من مواد متعددة؛ منها الأحجار وكبريتات الكالسيوم، تُطحن ويُضاف إليها الماء، وتُطلى به الحوائط، ويُعرف عند العرب بـ«القص». و«الرجل الجصاص» هو صانع الجص، و«الجصاصة» هي الموضع الذي يُطلى به.

وكانت الجصاصات تقع عادةً خارج نطاق المدن، لأنها تعدّ من الحرف الملوِّثة للهواء في المدن الإسلامية. استخدم الفنان المسلم مادة الجص بكثرة لا مثيل لها في زخارف الجدران وتنفيذ النقوش الكتابية في العمائر وأبرز أمثلتها قصور الحمراء في غرناطة، ويرجع ذلك إلى ليونة الجص وسهولة استخدامه في الزخرفة والنقوش.

أما الطريقة التي اعتمد عليها النقّاش في تشكيل الزخارف والنقوش الجصية فهي تلك المعروفة باستخدام «القالب» وفيها يقوم النقاش بصب الجص وهو لين في قوالب منقوشة أُعدت لهذا الغرض، ويُضغط على الجص، وهو لا يزال ليناً، لطبع العناصر الزخرفية المنقوشة عليه، وهذه الطريقة تساعد على تزيين المساحات الواسعة في أسرع وقت وأقل نفقة، فضلاً عن استخراج عدة نسخ متماثلة من أصل واحد.

ويأتي دور التلوين بعد ذلك، وهو كان يتم عادة باللونين الأزرق والأحمر في الأشرطة المحزوزة والنقاط الغائرة، لتتحول مادة الجص بعد ذلك إلى اللون الذهبي الرائع؛ وقد استخدمت هذه الطريقة بمهارة فائقة في مدينة سامراء خلال العصر العباسي.

وهناك طريقة أخرى استُخدمت في تنفيذ النقوش الزخرفية والكتابية في المغرب والأندلس، تُعرف باسم «نقش حديدة» ذكرها ابن خلدون قائلاً: «ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق والتزيين، كما يُصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يُخمّر بالماء، ثم يُشكّل على الجدران وفيه قليل من البلل، فيشكل على التناسب بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورواء».

اقتضت هذه الطريقة تقسيم الجدران إلى قطاعات هندسية من أشرطة وأفاريز يتم توزيعها على الجدار المراد زخرفته توزيعاً يراعى فيه التناسق والتعادل والتماثل، بحيث تبدو متصلة فيما بينها لا تترك للفراغ مساحة، عملاً بمبدأ الهروب من الفراغ الذي انتهجه الفن الإسلامي، بحيث أصبح خاصية من أهم خواصه. ابتكر الفنان المسلم النوافذ الجصية ذات الزجاج متعدد الألوان، والتي عُرفت بالشمسيات، بالإضافة إلى انتشار النوافذ الجصية ذات الزخارف الخالية من الزجاج في العمارة الإسلامية. وكلا الأسلوبين نراه بكثافة في الكثير من المنشآت، فنرى النوافذ المفرغة من الزجاج في واجهات المنشآت، ويقابلها من الداخل ذات الزجاج المعشق. وكان قصد المعمار من ذلك الازدواج أن تقوم النافذة الخارجية بحصر وتركيز الضوء وتسليطه على زجاج النافذة المقابلة لإظهار ألوانها.

وتعد النقوش الزخرفية والكتابية بقصور الحمراء في غرناطة أروع النقوش الجصية، ومن أمثلتها زخارف ما تُعرف بـ«قاعة الأختين». تقع القاعة في القسم الشمالي من «بهو الأسود»، وهي مربعة الشكل، تنفتح فيها أربعة أبواب محورية، قُسمت جدرانها إلى ثمانية أقسام، بكل قسم ثلاثة أبيات شعرية، تتكون من أفريز مستطيل الشكل يتوسطه بيت شعري يحيط به يمنةً ويسرةً جامة مفصصة مستديرة الشكل، يتوسطها بيت شعري. وهكذا يتكرر النسق الزخرفي على الجدران الأربعة للقاعة لينتج عن ذلك مجموع من الأبيات الشعرية في القاعة، وهو أربعة وعشرون بيتاً من الشعر من نظم الشاعر الوزير أبي عبد الله بن زمرك. وتصف تلك الأبيات الشعرية القصر وما يحتويه من زخارف، وتربط بين جماله وبين النجوم والكواكب، ويصوّر الشاعر حواراً دائراً بين النجوم والقصر، ونلاحظ أن ثمانية من الأبيات الشعرية تنحصر داخل أفاريز مستطيلة تنتهي أطرافها بعقود مفصصة، وستة عشر بيتاً داخل إطار دائري مفصص، وقد اندثر البيت الأخير من النقش، وحلت محله زخارف عشوائية، وكل النقوش السابقة ترتكز فيها حروف الكتابة على أرضية من التوريقات النباتية في نسق زخرفي بديع يمثل قمة التطور في نقوش الحمراء.

ويُفهم من أشعار ابن زمرك أن «قاعة الأختين» كانت تسمى «القبة الكبرى».

ومن نصوص النقوش الشعرية المسجلة بالخط الثلث الأندلسي على جدران القاعة، نقرأ ما يلي:

أنا الروض قد أصبحتُ بالحسن حاليا تأمل جمالي تستفد شرح حاليا

...

فكم فيه للأبصار من متنزه تجد به نفس الحليم الأمانيا

تبيت له خمس الثريا معيذة ويصبح معتل النواسم راقيا

به القبة الغراء قل نظيرها ترى الحسن فيها مستكناً وباديا

تمدّ لها الجوزاء كف مصافح ويدنو لها بدر السماء مناجيا

استخدم الفنان المسلم مادة الجص بكثرة لا مثيل لها في زخارف الجدران وتنفيذ النقوش الكتابية في العمائر وأبرز أمثلتها قصور الحمراء في غرناطة

ومن نصوص النقوش الشعرية المسجلة بالخط الثلث الأندلسي على جدران القاعة، نقرأ ما يلي:

أنا الروض قد أصبحتُ بالحسن حاليا تأمل جمالي تستفد شرح حاليا

...

فكم فيه للأبصار من متنزه تجد به نفس الحليم الأمانيا

تبيت له خمس الثريا معيذة ويصبح معتل النواسم راقيا

به القبة الغراء قل نظيرها ترى الحسن فيها مستكناً وباديا

تمدّ لها الجوزاء كف مصافح ويدنو لها بدر السماء مناجيا


مقالات ذات صلة

أبناء منصور الرحباني يُطلقون مئويته ووزارة التربية تتعاون لترسيخ إرثه في المدارس

الوتر السادس أبناء منصور الرحباني يطلقون فعاليات مئوية والدهم (الشرق الأوسط)

أبناء منصور الرحباني يُطلقون مئويته ووزارة التربية تتعاون لترسيخ إرثه في المدارس

بحضور حشدٍ من الشخصيات الثقافية والفنية والإعلامية، أطلق أبناء منصور الرحباني برنامج مئويته من بيروت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة
TT

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة

«أسطورة إيلينا فيرانتي»... المؤلفة الغامضة وسحر المدينة

رغم أن كتاب «أسطورة إيلينا فيرانتي» الصادر عن دار «العربي» بالقاهرة للكاتبة آنا ماريا جواداجني، ترجمة ندى سعيد، يستهدف الكشف عن هوية أكثر أديبات العصر غموضاً وهي تلك الإيطالية التي حققت شهرة عالمية لكنها توقع باسم مستعار هو «إيلينا فيرانتي»، فإن جواداجني تخرج من الإطار الضيق لمغامرتها الصحافية، شديدة التشويق، إلى آفاق أرحب تتعلق بإعادة اكتشاف مدينة نابولي التي تُعد الوجهة المكانية المفضلة في نصوص الكاتبة المجهولة.

وتتعمق هالة الغموض حول «فيرانتي» كونها باعت أكثر من مليون نسخة من مجمل أعمالها التي تُرجمت إلى أكثر من 40 دولة حول العالم، لا سيما رباعيتها الشهيرة «نابولي»، التي تتكون من روايات: «صديقتي المذهلة»، و«حكاية الاسم الجديد»، و«الهاربون والباقون»، و«حكاية الطفلة الضائعة».

ورغم أن اللجوء إلى اسم مستعار هو تقليد قديم في ثقافات ولغات عدة لأسباب مختلفة أشهرها الخوف من مواجهة المجتمع أو الرغبة في التميز، فإن سبب لجوء كاتبة إيطالية إلى هذا الاسم المستعار ورغبتها القوية في عدم كشف هويتها إلا لوكيلها الأدبي يظل لغزاً يستعصي على الفهم.

من هنا جاءت فكرة هذا الكتاب الذي يمزج بين فنون الصحافة، وتحديداً التحقيق الاستقصائي وبين لغة السرد الأدبي؛ حيث تذهب جواداجني في رحلة إلى نابولي مقتفية أثر «فيرانتي» في مدينتها المفضلة لتقترب جداً من عالم الروائية ورباعيتها المذهلة وتعيد اكتشاف الأماكن، والأصوات والشخوص لتخرجها من الصفحات التي كتبتها «فيرانتي» وأذهلت بها العالم إلى الحياة الحقيقية وتتركها تتحدث هي عن نفسها.

لم يكن بحوزة المؤلفة عند نقطة الانطلاق سوى بعض المعلومات الشحيحة؛ منها أن «إيلينا فيرانتي» ولدت عام 1943 في مدينة نابولي، ونشرت عملها الأول عام 1992، وهو كتاب «حب غير مريح»، ثم توالت أعمالها الأدبية ومنها «رباعية نابولي»، التي تروي قصة صديقتين تعيشان في إحدى حارات نابولي الفقيرة، وتشكّلان علاقة إنسانية ثرية ومليئة بالتفاصيل الملهمة.

نجحت المؤلفة في إعادة اكتشاف الكثير من النماذج الحقيقية التي شكلت «مادة خام» لشخصيات «فيرانتي» الحقيقية، لتقدم في النهاية ما يشبه «نصاً على نص» أو سردية جديدة تستلهم نابولي بنماذجها الإنسانية الاستثنائية، وبأحيائها الشعبية العريقة ذات التفاصيل شديدة الخصوصية، التي شكلت الحاضنة الإبداعية والإنسانية لعالم تلك الكاتبة الغامضة. وكم كان دقيقاً أن تختار المؤلفة عنواناً فرعياً هو «رباعية نابولي: المدينة... الرواية»؛ حيث امتلأ الكتاب بالحكايات والقصص الفريدة والإنسانية التي جعلت منه نصاً «متعدد الطبقات». وكان لافتاً أن المؤلفة تحترم حق الأديبة الغامضة في حجب هويتها، مشددة على أنه ينبغي على الجميع احترام رغبتها وعدم التعامل معها باعتبارها مجرماً دولياً ينبغي الكشف عن أرصدته البنكية، على حد تعبيرها.

وتبقى الإشارة إلى أن آنا ماريا جواداجني هي صحافية ثقافية، عملت لفترة طويلة في مجال النشر، وتعمل في صحيفة «Il Foglio»، وقامت بتحرير مجموعات من المقالات ونشرت رواية بعنوان «الليلة الماضية» 1998.