تماثيل وادي الحِجر في «الولاية العربية - الرومانية»

الشاب الأمرد وأصحابه: النسر والجدي والجمل

تماثيل برونزية رومانية من وادي الحِجر
تماثيل برونزية رومانية من وادي الحِجر
TT

تماثيل وادي الحِجر في «الولاية العربية - الرومانية»

تماثيل برونزية رومانية من وادي الحِجر
تماثيل برونزية رومانية من وادي الحِجر

يقع وادي الحِجر في محافظة العُلا، ويُعدّ من أبرز حواضر مملكة الأنباط التي قامت في شمال شبه الجزيرة العربية، وكانت عاصمتها البتراء في الشمال الشرقي من رأس خليج العقبة شرق الأردن. برزت هذه المملكة في القرن الأول قبل الميلاد وامتدّت شمالاً من دمشق إلى وادي الحِجر، ونجحت في الحفاظ على استقلالها إلى أن دخل الرومان سورية في عام 64 قبل الميلاد، فاضطرت إلى مهادنتهم، ثم خضعت لنفوذهم، وتحولت في مطلع القرن الثاني للميلاد ولاية سُمّيت «الولاية العربية - الرومانية».

شكّل وادي الحِجر جزءاً من هذه الولاية، غير أنه لم يتخذ طابعاً رومانياً، كما تشهد أعمال المسح والتنقيب المتواصلة في هذا الموقع. لم ينشئ الرومان في هذه البقعة من هذه الولاية طرقاً بريّة تتبع النسق الذي ابتكروه، ولم يبنوا فيها جسوراً وعبّارات. لا يحوي وادي الحِجر أي أثر لمسرح أو لمدرّج روماني، أو أي أطلال لمؤسسات رومانية، غير أنه يضمّ ثكنة عسكرية ظهرت معالمها أثناء حملة المسح الذي قام بها فريق مشترك فرنسي - سعودي منذ بضع سنوات. جعل الأسياد الجدد من هذه الواحة كما يبدو حصناً حدودياً، وبنوا في القرن الثاني ثكنة عسكرية فوق تلة تقع في الجهة الجنوبية من المدينة التي أطلقوا عليها اسم «حيجرا».

ازدهر وادي الحِجر في زمن الأنباط، وهم «عرب رحّل لا يُعرف على وجه التدقيق الموطن الذي أتوا منه، وربما كان مجيئهم من شمالي الحجاز أو من أواسط الجزيرة العربية»، أقاموا دولة عاشت أكثر من خمسة قرون، «واستمدت نسغ الحياة والقوة من التجارة، وكان لموقعها الحصين أثر كبير في بقائها على قيد الوجود مدة طويلة»، كما يذكر الباحث السوري توفيق برو في «تاريخ العرب القديم». ويضف أن لهم «حضارة عريقة تميزت بطابعها التجاري والعمراني. وهي عربية في لغتها، آرامية في كتابتها، ساميّة في ديانتها، يونانية - رومانية في فنها وهندسة عمارتها؛ لذلك فهي مزيج حضارة مركبة، سطحيّة المظهر الهليني، ولكّنها عربية الأساس».

في زمن الأنباط، شُيّدت في وادي الحِجر سلسلة من القبور المنحوتة في الصخر، تتبع النسق الذي ساد في البتراء، وحمل ما يقارب ثلث هذه القبور كتابات تذكارية بالخط النبطي، نُقشت في إطارات منحوتة فوق الأبواب. وتضمنت نصوصها أسماء الراقدين في القبور، وفي بعض الأحيان أسماء القبائل التي ينتمي إليها هؤلاء، وأسماء المعبودين الذين تعبّدوا لهم، واسم النحات الذي زين القبر. ويُجمع أهل الاختصاص على القول بأن الأنباط وأسياد قبائل منطقة العلا التابعة لهم هم على الأغلب من نحتوا الواجهات الصخرية وجعلوا منها مدافن لهم.

في المقابل، خرجت من وادي الحِجر مجموعة محدودة من اللقى الأثرية الرومانية، تمثّلت في قطع نقدية بلغ عددها زهاء المائة في موازاة أكثر من ثلاثمائة قطعة نبطية، وبعض النقوش الكتابية التذكارية، أهمّها نقش لاتيني على لوح من الحجر الرملي عرضه 110 سنتمترات، يحمل نصّاً من عشرة أسطر أُنجز بين عامي 175 و177، كما يتضح من الأسماء المذكورة فيه، ومنها «الإمبراطور قيصر مرقس أوريليوس أنطونينس»، «يوليوس فيرمانوس مبعوث أغسطس الوالي الروماني»، و«عمر بن حيان رئيس قوم المدينة».

إلى جانب هذه القطع النقدية وهذه الكتابات التذكارية، تحضر مجموعة متنوعة من اللقى الأثرية، تحوي بضعة تماثيل برونزية من الحجم الصغير، عُرضت في معرض أقيم في «معهد العالم العربي» بباريس في خريف 2019، تحت عنوان «العُلا واحة العجائب». في هذه المجموعة التي تتبع الأسلوب الروماني الكلاسيكي الصرف، يظهر النسر والجدي والجمل، كما يظهر شاب أمرد عاري الصدر يحمل بين يديه قطعة من الجلد تلتف من خلف ظهره.

يحتل النسر مكانة رفيعة في الموسوعة الحيوانية الرومانية، كما يحتل مكانة مماثلة في وادي الحِجر، حيث تحضر صوره الحجرية على واجهات القبور المنحوتة في الصخر، في صياغة فنية يغلب عليها طابع الاختزال والتحوير الهندسي. يختلف النسر البرونزي الصغير الذي خرج من وادي الحِجر بشكل جذري عن هذه الصور، ويظهر منتصباً في حلة واقعية تتجلّى في نقش ريشه، كما في إبراز ملامح وجهه.

يلقي هذا المقال الضوء على أحد الكشوف الأثرية في «وادي الحِجر» في محافظة العُلا بالسعودية، وذلك إبان خضوعها للاحتلال الروماني وتسميتها باسم «الولاية العربية - الرومانية». ويشير المقال إلى أن تمثال الشاب العاري يجسّد الجمالية الكلاسيكية بإتقان شديد.

وللماعز كذلك مكانة مماثلة في الفن الروماني، وهو من العناصر التصويرية المعتمدة في سائر أنحاء الجزيرة العربية، حيث يظهر في حلل تجمع بين التصوير والتجريد الهندسي. تتبع معزة الحِجر البرونزية النسق الروماني بأمانة تامة، كما يُستدلّ من طول القرنين وسماكتهما. ويظهر الأسلوب الروماني في إبراز مفاصل البدن، كما في حركة القوائم الأربع.

يتبع جمل الحِجر البرونزي كذلك هذا النسق الواقعي، ويتميّز بالسرج العريض الذي يعلو سنامه. والجِمال معروفة في جزيرة العرب، وهي «سفائن البر»، كما أشار الدميري في «حياة الحيوان الكبرى»، و«من الحيوانات العجيبة، وإن كان عجبها سقط من أعين الناس لكثرة رؤيتهم لها». هذا الحيوان العجيب معروف في العالم اليوناني - الروماني، كما يُستدلّ من قول هيرودوت في الكتاب الثالث من تاريخه: «ولا حاجة إلى أن أصف الجمل، فالإغريق يعرفونه».

أما تمثال الشاب العاري، فيجسّد كذلك الجمالية الكلاسيكية. يشكّل الجسد البشري أساس هذه الجمالية ومحورها، ومثاله هو الجسد الحي السليم من كل عيب، والفنان مدعو إلى إظهار كل جارحة من جوارح هذا الجسد، مظهراً كل حركة من حركات الجسد المرن.

يمثّل هذا التمثال البرونزي فتى يحمل قطعة من جلد تتدلّى على كتفه اليمنى، ممّا يوحي بأنه واحد من «الساتير»، والساتير في القاموس الإغريقي جنّ الغابات، يؤلفون حاشية سيّد المراعي الذي عُرف باسم بان، وسيّد الكرمة الذي عُرف طوراً باسم ديونيسوس، وطوراً باسم باخوس.


مقالات ذات صلة

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)
يوميات الشرق إطلالة على مدينة طرابلس اللبنانية من أعلى قلعتها الأثرية (الشرق الأوسط)

«جارة القلعة» تروي حكاية طرابلس ذات الألقاب البرّاقة والواقع الباهت

لا يعرف معظم أهالي طرابلس أنها اختيرت عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، لكنهم يحفظون عنها لقب «المدينة الأفقر على حوض المتوسط».

كريستين حبيب (طرابلس)
شمال افريقيا مبنى المتحف القومي السوداني في الخرطوم (متداول)

الحكومة السودانية تقود جهوداً لاستعادة آثارها المنهوبة

الحكومة السودانية عملت على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية وتأمين 76 موقعاً وصرحاً أثرياً تاريخياً في ولايات نهر النيل والشمالية، وجزء من ولاية الخرطوم.

وجدان طلحة (بورتسودان)
يوميات الشرق من أعمال التنقيب في موقع زبالا التاريخي المهمّ على درب زبيدة (واس)

السعودية... آمالٌ تُفعّلها المساعي لالتحاق مواقع بقائمة التراث العالمي

العمل قائم على تسجيل مواقع جديدة في القائمة الدولية للتراث العالمي، من أهمها دروب الحج القديمة، لا سيما درب زبيدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى تشمل الأنظمة المائية.

عمر البدوي (الرياض)

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر
TT

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع يتكون من 40 فيلماً سينمائياً وأكثر من 16 نصاً مسرحياً، علاوة على العديد من الأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزيونية. اللافت أن شهرة منجزه السينمائي، طغت على منجزه المسرحي فجاء كتاب «المسرح الألماني المضاد» الصادر عن «الهيئة المصرية لقصور الثقافة»، سلسلة «آفاق عالمية»، للباحث د. أسامة أبو طالب ليرد الاعتبار إلى تجربة الرجل مع فن المسرح.

يبرر المؤلف أهمية مسرح فاسبندر بأنه وضع فيه عصارة فنه ورحيق تمرده ومرارة إحساسه المرهف بتناقضات الأشياء والبشر ووعيه الحاد بمفارقات الوجود والكون ومعاناته من خذلان الرؤى وخسارة التوقعات وجنون الصدمة وعمى المفاجأة حتى أصبح عقله مكتظاً، وناء وجدانه بحمل المعرفة الحارقة المبكرة فاستسلم بإرادته مقرراً أنه لم تعد لديه طاقة للاحتمال، وليستسلم الجسد المرهق ويتوقف القلب الذي أنهكته شدة الخفقان حتى أنه لم يكن ينام إلا أقل القليل وسُئل ذات يوم «لماذا لا تأخذ قسطاً طبيعياً من النوم»، فأجاب: «سأنام فقط عندما أموت».

كان عام 1968 بزخمه السياسي وما أطلق عليه «ثورة الطلبة» في أوروبا هو بداية ميلاد «المسرح الألماني المضاد» على يد فاسبندر كفن مهموم بالسياسة ومقاومة مفاهيم القهر والقمع والطغيان التي تمارسها السلطة على نحو صبغ مجريات الأحداث ووقائع الحياة في القرن العشرين، مع نزعة إنسانية فياضة لا يصعب اكتشافها في أعمال هذا النوع من المسرح، رغم الكثير من الاتهامات الموجهة له بسبب المنافسة أو بسبب عدم الفهم أو كراهية التجديد المعتادة، التي وصفت فاسبندر وأصحابه ومنهجهم بالعدمية تارة وتارة أخرى بالدعوة إلى الانحراف.

استفاد «المسرح المضاد» في تحققه من السينما وحرفياتها، إضافة إلى استخدام «التمسرح» و«التغريب»، بمعنى الخروج عن المألوف، فضلاً عن تبني فكرة «اللحظة المسرحية الساخنة» ذات الطابع الاندماجي بين العرض والمشاهد تمهيداً للخروج بها إلى فعل جماعي ذي صفة تحريضية. وانفتح المسرح المضاد كذلك على تجارب المسرح السياسي دون التقيد بتقاليده الصارمة، وتجلى كل ذلك عبر العديد من المسرحيات التي ألفها فاسبندر منفرداً، أو كانت تأليفاً مشتركاً مع آخرين. ومن أشهر مسرحيات فاسبندر في هذا السياق «المدينة والقمامة والموت» و«دم على حلق القطة» و«حرية بريمر» و«لا أحد شرير ولا أحد طيب».

ويتطرق المؤلف إلى مسرحية «القمامة والمدينة والموت» باعتبارها أبرز أعمال فاسبندر، حيث وضعت المدينة في بؤرة المفارقات الغريبة والرؤية غير المسبوقة التي تجعلها مخيفة وقاتمة، وتبعث على الرعب المقترن بالكآبة. في الليل تتجلى المدينة وتبالغ في زينتها ومغرياتها وكأنها نسخة عصرية من أساطير «سادوم» أو «عامورة»، حيث المفاتن تلطخ وجهها القبيح، أما في النهار فينكشف كل شيء على حقيقته الصادمة.

وتبرز المسرحية كيف كان فاسبندر مولعاً بالدراما النفسية، وهو ما يتجلى في فيلمه «الخوف من الخوف» الذي يروي قصة ربة بيت من الطبقة المتوسطة تضطر إلى أن تسجن نفسها في بيت كئيب جداً مع زوج قلق ومرتبك نفسياً، ما يدفعها إلى إدمان الفاليوم والإفراط في تناول الكحول، إذ بدأت تعاني من الاضطراب النفسي، وتخشى أن تنحدر صوب الجنون.