هل المتنبي أهم من الفارابي؟

في جدلية الشعر والفلسفة

هل المتنبي أهم من الفارابي؟
TT

هل المتنبي أهم من الفارابي؟

هل المتنبي أهم من الفارابي؟

بدايةً، دعونا نطرح هذا السؤال: هل المتنبي أهم من الفارابي الذي كان معاصراً له في بلاط سيف الدولة؟ بلا شك. لأن فلسفة الفارابي تجاوزها الزمن، في حين أن شعر المتنبي لا يمكن أن يتجاوزه الزمن. بعد ديكارت وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وهيدغر وغيرهم، أصبحت فلسفة الفارابي في ذمة التاريخ، وكذلك فلسفة القرون الوسطى كلها. النظريات الفلسفية يتجاوز بعضها بعضاً بمرور الزمن، وكذلك النظريات العلمية. كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن تجاوزوا كلياً تصورات بطليموس وأرسطو عن الكون. أصبحت أضحوكة أو غلطة كبيرة. الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليس العكس يا سيد أرسطو، ويا سيد بطليموس. ولكن من يستطيع أن يتجاوز شعر هوميروس، الذي عاش مثل أرسطو وبطليموس، قبل ثلاثة آلاف سنة؟ لا أحد. في الشعر لا يوجد تقدم أو تأخر. لا يوجد شعر تقدمي، وشعر رجعي. يوجد شعر أو لا شعر. نقطة على السطر، بودلير كان رجعياً كبيراً، عكس فيكتور هيغو ولكن شعره باقٍ يتحدى الزمن والعصور. ثم مَن يستطيع أن يتجاوز هذه الأبيات الخالدة للنابغة الذبياني؟

«سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد»..

لقطة جمالية، أكاد أقول لقطة سينمائية من أرقى ما يكون. إنها قصيدة «المتجردة»، وما أدراك ما المتجردة؟ زوجة النعمان بن المنذر: أميرة عربية! يقال إنها كانت أجمل نساء العالم: لا بريجيت باردو، ولا مارلين مونرو، ولا من يحزنون... الجمال العربي يجبُّ ما قبله وما بعده. كم يتمنى المرء لو أنه رآها، تعرَّف عليها؟ ولكن لها حفيدات كثيرات: لا تخافوا! لنكمل قليلاً:

«زعم الهُمام بأن فاها باردٌ

عذبٌ إذا قبلته قلت ازددِ

زعم الهُمام ولم أذقه بأنه

يُروى بطيب لثاتها العطشُ الصَّدِي»

هذه الأبيات قيلت قبل 1500 سنة، ومع ذلك فلا تزال تُعايشنا وتُعاصرنا. لا تزال تهزُّنا. هنا تكمن عبقرية الشعر العربي.

ما علاقة ديغول بنيتشه؟

أيّاً ما يكن، فكل شيء يذهب مع الريح، يتبخر في الهواء، ويبقى الشعر: أي اللاشيء، الفراغ، العدم، التلاشي... يبقى هذا الهيجان الداخلي الذي يحتاج لشحنات شعرية من وقت لآخر بغية امتصاصه وتهدئته، ولو مؤقتاً: بغية إشباعه. بهذا المعنى فإن قصيدة واحدة للمتنبي أو البحتري أو ابن زيدون تبقى أهم من كل العلاجات التي قد أشتريها من الصيدلية الباريسية. فما عدت أتداوى من أمراضي إلا بالشعر أو الأدب بشكل عام. ولكن دون أن أُشفى نهائياً لحسن الحظ! يبقى الشعر كفاكهة، علاجاً للروح التي لا علاج لها. نعم تبقى بعض القصائد التي نترنّم بها في خلواتنا عندما يرحل كل شيء وندخل في مرحلة الفراغ والتيه، فراغ مفتوح على فوهة المجهول والمحتوم. من يعلم أن شارل ديغول كان يترنم في أوقات يأسه وإحباطه من الفرنسيين بأبيات من فريدريك نيتشه؟ من يستطيع أن يتخيل وجود أي علاقة بين ديغول ونيتشه؟ أبعد من السماء عن الأرض! ومع ذلك فكثيراً ما تفاجأ ابنه الأميرال فيليب ديغول وهو يسمعه يردد في خلواته هذه الكلمات النيتشوية بصوت عال أو خافت، ربما:

«لا شيء يساوي شيئاً

لا شيء يحصل أصلاً تحت الشمس

ومع ذلك فكل شيء يحصل

ولكن بلا جدوى.

لا شيء له معنى في نهاية المطاف»

الترجمة الحرفية: حتى المعنى فقَد معناه. حتى المعنى أصبح أجوف فاغراً فاه. ما معنى الوجود، في نهاية المطاف، إذا كانت النهاية معروفة ومحتومة؟ كل شيء باطل في باطل وقبْض الريح... لماذا كنت معجباً في شبابي الأول بكتب إبراهيم عبد القادر المازني. عناوينها فقط تُحدث قشعريرة في نفسي، تتناغم مع أعماق روحي: حصاد الهشيم، قبض الريح، خيوط العنكبوت... إلخ. هذه النصوص وسواها هي التي أيقظتني لأول مرة على حب الأدب. كنت في الثانوي أو بدايات الجامعة. ولهذا السبب تركت دراسة الطب في جامعة حلب، وسجلت نفسي في كلية الآداب بجامعة دمشق. أبيع الدنيا كلها من أجل عيون الأدب. الأدب ديدني ومعبودي.

هذا لا يعني بالطبع أن ديغول كان عدمياً مثل نيتشه، وإلا لمَا تحرّك من أرضه وقاد الرجال وغيَّر وجه فرنسا وأنقذها مرتين: مرة أولى من جحيم النازية إبان الحرب العالمية الثانية، ومرة ثانية من جحيم المغطس الاستعماري الرهيب في الجزائر. ولم تكن الثانية أسهل من الأولى، على عكس ما نظن. ولكن في لحظات اليأس والإحباط واستعصاء الفرنسيين عليه، كان يستسلم لمثل هذه الأفكار السوداء والمواقف النيتشوية، قبل أن ينتفض مرة أخرى كالعملاق من أعماق الخواء العدمي، لكي يتدخل في مجرى الأحداث ويغير مجرى التاريخ.

ماذا يستطيع الزمن أن يفعل بلوحات فان غوخ أو قصائد هولدرلين؟

هناك شيء واحد يستطيع أن يقاوم الموت أو الفناء أو العدم أو الحياة الهاربة من بين أصابعنا في كل لحظة، هو: الفن. الشعر، الجنون، اللوحات الخالدة: ربات الجمال... ماذا تستطيع السنون أو القرون أن تفعل بقصائد هولدرلين أو لوحات فان غوخ؟ ماذا تستطيع السنون أو القرون أن تفعل بلوحته الخالدة التي رسمها في مدينة آرل، جنوب فرنسا: «السماء المرصعة بالنجوم»؟ العنوان بحد ذاته قصيدة شعر، وأيّ شعر! وهي تساوي الآن عشرات الملايين من الدولارات، وربما مئات الملايين، في حين أنه كان جائعاً عندما رسمها، ثم سرعان ما انتحر بعدها بقليل. هل يمكن لتراكمات الزمن أو تكلساته أن تصيب قصائد هولدرلين بالتجاعيد أو الأخاديد؟ فلسفة صديقه هيغل شاخت، على الرغم من عظمتها وجبروتها، ولكن أبيات هولدرلين لا تشيخ... هل يمكن للشعر أن يشحب، كما تشحب النظريات الفكرية أو الفلسفية المتعاقبة وراء بعضها البعض؟ أبداً، لا. الشعر لا يموت، الشعر لا يشيخ، على عكس الفكر: الشعر يبقى كما هو، حياً أبد الدهر. بهذا المعنى فإن الشعر يتفوق على الفلسفة، بل يتفوق حتى على النظريات العلمية التي يلغي بعضها بعضاً أو يتجاوزها، كما ذكرنا آنفاً. أما في مجال الشعر فسوف يضحكون عليك إذا ما قلت إن رامبو ألغى هوميروس، أو أن أحمد شوقي ألغى المتنبي؟ من يستطيع أن يتجاوز المتنبي أو يلغيه؟ لم تخلقه أمه بعدُ...

لنستمع الآن إلى بعض الشعر:

الربيع

آه، يا لسطوع الشمس وأزهار الأرياف!

الأيام تجيء، غنية بالأزهار، الأيام وديعة

المساء أيضاً له أزهاره. ونهارات مشرقة تنزل

من السماء، هناك حيث تولد الأيام..

***

هاهي السنة، مع فصولها،

كالمجد أو كالأعياد تنتشر...

الإنسان يستعيد أعماله ويفكر بأشياء أخرى

وكالإشارات في هذا العالم، وفرةُ المعجزات!..

آه، أيها الوطن!

البحّار يعود فرحاً إلى النهر الهادئ

بعد أن يكون قد جنى حصاده من الجزر البعيدة

أودّ مثله أن أعود إلى بلادي

ولكن ماذا حصدت غير الألم؟

***

أيتها الضفاف التي أحاطت بطفولتي

هل تعرفين تهدئة عذابات الحب؟

وأنتِ يا غابات بلادي، هل تعرفين

عندما أعود، أن تعيدي لي سلام الأيام القديمة؟

( هولدرلين)

وأخيراً، ماذا يمكن أن نقول عن هذا الموضوع الشائك: هل الشاعر أهم من الفيلسوف أم لا؟ والجواب هو أن كليهما مهم، وإنْ لسبب مختلف؛ فالشاعر يُمتعنا ويطربنا: يدوخنا، بل قد يحدس بالأشياء حدساً قبل أن تحصل، ولكن الشاعر لا يستطيع أن يحل مشكلة العصر، الشاعر لا يستطيع أن يحقق لنا أعظم الانفراجات بعد الانسدادات. الشاعر عاجز عن حل عقدة العُقد الموجعات. وحده الفيلسوف - بالمعنى الحديث والعميق للكلمة - قادر على ذلك. الشاعر يستخدم الخيال الخلاق والشطحات الرائعات. شكراً له. أما الفيلسوف فيستخدم العقل التحليلي الجبار القادر على اختراق غياهب الظلمات كالرادار. وهنا آنَ الأوان لكي نعطي الأولوية للفيلسوف على الشاعر؛ فهو وحده القادر على حل المشكلة التي تؤرق العصر، لهذا السبب أقول إن العالم العربي، بل الإسلامي كله، بحاجة ماسّة الآن لكي يظهر الفيلسوف الكبير المنتظَر الذي سيحررنا من ظلمات العصور. الآن زمن الفكر لا زمن الشعر. هذا ما حصل في فرنسا عندما ظهر ديكارت أو ألمانيا، عندما ظهر كانط أو هيغل. الفلاسفة الكبار بهذا المعنى هم منارات العصور.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون هوشنك أوسي

«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

شهد الحراك الثقافي في السنوات الأخيرة عدداً من الظواهر التي عدّها مراقبون علامةً أدبيةً مهمةً تحرك المياه الراكدة، تأتي «مختبرات السرد» على رأس هذه الظواهر.

رشا أحمد (القاهرة )
ثقافة وفنون رواية وكتاب مقالات لعبد الجليل الساعدي

رواية وكتاب مقالات لعبد الجليل الساعدي

عن «دار جداول» للنشر والترجمة والتوزيع، صدر مؤخراً للكاتب الصحفي والروائي الليبي الزميل عبد الجليل الساعدي كتابان.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون المقابر الجماعية تروي فضاعات الحرب

لهفي على ما يُقاسيه رفاق مهنتي في مدينة غزّة المنكوبة

يعرض التاريخُ علينا نفسه في كلّ حقبة مثل لوحة سرياليّة، تصوّر قفصاً من الدم والعظام والبارود والصديد، تقطعه خطوط برّاقة بنفسجيّة وطويلة.

حيدر المحسن
ثقافة وفنون محمود درويش

الحب على الطرفين المتباعدين للأعمار

لطالما كانت العلاقة بين الحب والزمن مثار اهتمام الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع، وصولاً إلى الكتاب والفنانين الذين رأوا إلى هذه المغامرة من موقع

شوقي بزيع

هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف فلسفيّاً؟

مانديلا
مانديلا
TT

هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف فلسفيّاً؟

مانديلا
مانديلا

في أغلب الحروب التي أدمت وعيَ البشريّة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين يدّعي المتحاربون أنّهم يحاربون من أجل أسمى القضايا وأشرف القيَم. أشدُّ الحجج تأثيراً تلك التي تقترن بالهويّة الجماعيّة، وفي طليعتها صونُ الأرض، وحمايةُ العرض، والدفاعُ عن وجود الجماعة، والذودُ عن الدِّين. أمّا الحجج الأضعف فتلك التي تتعلّق بشرعيّة المصالح، وضرورات التوسّع، ومقتضيات الازدهار. ليس غريباً عن وضعيّتنا البشريّة الاقتتالُ في سبيل إعلاء الذات الجماعيّة، سواء على مستوى القضايا المقترنة بالهويّة الجماعيّة، أو على مستوى المسائل المرتبطة بشرعيّة المصالح. غير أنّ السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في مثل الأوضاع المأسَويّة هذه ينبثق من ضرورة التفكّر الهادئ في مسألة العنف: هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف تسويغاً فلسفيّاً يجعلنا نرضى به سبيلاً وحيداً إلى فضّ الخلافات ومعالجة الاختلالات وتقويم الاعوجاجات وتهذيب أهواء النفس الغضبيّة الفرديّة والجماعيّة؟

تقاتل الناسُ في القديم من الأزمنة، وما برحوا يتقاتلون حتّى اليوم، وفي ظنّهم أنّ الاحتراب السبيلُ الوحيدُ الذي يُنقذ الكرامة الإنسانيّة ويفرض العدالة الكونيّة فرضاً مطلقاً. بيد أنّنا ندرك جميعاً في قرارة أنفسنا أنّ العنف لا يولّد سوى العنف. إن بعض الفلاسفة، وفي طليعتهم الفيلسوف الإغريقيّ هيراقليطُس الأفسُسيّ (القرن السادس قبل المسيح) عاينوا الاحترابيّة (polemos) في جميع مظاهر الحياة. فتصوّروا الوجودَ كلَّه مفطوراً على التصارع، وعاينوا في التناقض المضطرم انبعاثاً جديداً وبركةً كونيّةً تُعزّز فينا النموّ والابتكار والازدهار. كذلك سار على هذا النهج فلاسفةٌ معاصرون من أبرزهم هيغل (1770-1831) الذي جدل الواقعَ كلَّه جدلاً تشابكيّاً حيويّاً، فتَصوّر الكائنات كلَّها في تقابلٍ وتعارضٍ وتواجهٍ يُفضي إلى استيلاد أعظم الأمور فرادةً وتألّقاً وسموّاً.

لا أعتقد أنّ العنف الذي تناوله الفلاسفة على هذا النحو يشبه العنف الذي يرتكبه أهلُ الأرض حين يتقاتلون تقاتلَ الإفناء العبثيّ المقيت. بين عنف التناقض الخلّاق وعنف الاحتراب المهلِك بونٌ شاسعٌ أو مسافةٌ ضوئيّةٌ لا يجوز الاستخفاف بها. ذلك أنّ الاختلاف الشرعيّ بين الكائنات الإنسانيّة قد يُفضي إلى بعضٍ من التكامليّة المثمِرة. أمّا الخلافات الجسيمة التي تنبثق من تشنّجات الهويّة الجماعيّة وتضارب المصالح المنفعيّة، فتعيث في الأرض فساداً وإهلاكاً. لذلك آن الأوان لكي نتدبّر مظاهر العنف الاحترابيّ هذا تدبّراً عاقلاً يتيح لنا أن نستدلّ على مناهجَ أخرى من معالجة الخلافات الحادّة التي تنجم عن الواقع الجيوثقافيّ والجيوسياسيّ والجيواقتصاديّ الراهن.

لن أدخل في متاهات التنظير الآيديولوجيّ الذي يرسم خريطة الأرض رسماً استبداديّاً يعزّز لكلّ ذاتٍ جماعيّةٍ منعتَها وحقوقَها ومصالحَها الخاصّة، ويحرم الذات الجماعيّة الأخرى من أدنى مقوِّمات العيش الكريم. أصابتنا مثل هذه المحَن في القديم من الزمان، وما برحت تُصيبنا اليوم في جميع بقاع الأرض. قد يكون الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ من أخطر الأدلّة على انعدام سبيل المباحثة العقلانيّة الهادئة واستفحال النهج العنفيّ الإباديّ. ولكن إذا نظرنا في مسار الصراعات العالميّة، تَبيَّن لنا أنّ العنف غالباً ما يسبق التحاور والتفاوض والتسالم الرزين المبنيّ على الحكمة والعدالة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نناصر طريق الحكمة العقلانيّة قبل أن نؤيّد العنف الإهلاكيّ. حين يبلغ الظلم أشدّه في بعض الأوضاع، يُزيَّن لبعض الناس أنّ الحلّ الوحيد الاحترابُ الإفنائيُّ حتّى يخضع الظالمون، ويرتدع المعتدون، ويتوب الضالّون.

غاندي

غير أنّ صراعات الناس، لا سيّما الحضاريّة منها، لم تنبعث من الخواء الزمنيّ والصفاء التاريخيّ. ثمّة أخطاء جسيمة وارتكابات مشينة وانتهاكات مقزّزة تغاضى عنها حكماءُ المسكونة، فأفضت بنا إلى الانحرافات والمظالم والأوبئة الأخلاقيّة المستشرية. إذا ثَبت أنّ الحروب لم تحلّ المشكلات العالقة، وأنّ العنف أذلَّ الناس المتحاربين إذلالاً كيانيّاً، وأنّ كلَّ صراعٍ سيُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى الاسترخاء والتهادن والتفاوض والتبادل والتسالم، ولو في حدود المقدار التفاعليّ الحضاريّ الأدنى، فلماذا يستميت الناسُ في الاقتتال العبثيّ؟ ولماذا يهيّجون النفوس من أجل معاداة الآخرين وتكفيرهم وإسقاط كرامتهم الإنسانيّة اللصيقة بماهيّتهم الأصليّة؟ ولماذا نواظب على تسويغ شرعيّتنا الاستبداديّة بواسطة تأجيج التناقض المميت وإدامة الصراع المهلك وتأبيد الحقد الحضاريّ؟

أعتصم بالاستفسارات الفلسفيّة الجذريّة هذه، وأنا على يقينٍ من أنّ الأجوبة عسيرةُ المنال، إذ إنّنا نُتقن فنَّ التقيّة والتورية والحجب والإخفاء حتّى نُظهر ما لا نُضمر، ونُعلن ما لسنا به مقتنعين. أقولها بصراحةٍ وشفافيّةٍ: ما الأفضل والأجدى والأرقى؟ أن نكافح كفاحَ المقاومة اللاعنفيّة التي تستلهم قيَم الروح الإنسانيّ السامية، على طريقة غاندي ونيلسون مانديلا وأطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيّين؟ أم أن يَفني بعضنا بعضاً على نهج الإبادة العبثيّة التي تُزهق الكيان الإنسانيّ وتُفسد الحياة وتُعدم الرجاء الحضاريّ الكونيّ؟ هل يعتقد الناسُ حقّاً أنّ الرصاصة أشدُّ وقعاً في مسار التوبة الروحيّة الإنسانيّة من وداعة الاعتصام السلميّ وعزيمة الاحتجاج الفكريّ وحكمة المقاومة الثقافيّة الصابرة؟

لستُ على البراءة الساذجة التي تجعلني أنتظر ثمارَ النهج الاعتراضيّ السلميّ منذ المظاهرة الاحتجاجيّة الشارعيّة الجماعيّة الأولى. ولكنّ خبرة الحياة علّمتنا جميعاً أنّ ضحايا الاقتتال العبثيّ يُدفنون في تربة العقم الحضاريّ، في حين أنّ شهداء المقاومة السلميّة يُزرعون زرعاً في وعي البشريّة ويُثمرون رقيّاً بهيّاً في تضاعيف الزمن الآتي. ما دام الناس سيموتون موتاً من أجل الدفاع عن قضاياهم العادلة، فلماذا الموت العبثيّ؟ ولماذا الاقتتال الإفنائيّ الذي يُفسد الحسَّ الإنسانيَّ الحضاريَّ في المعسكرَين معاً؟ إذا كان لا بدّ من الموت بسببٍ من تعنّت الظالم، فليَمت الإنسانُ شهيدَ المقاومة السلميّة التي تهيّئ للناس أرقى سبُل التسالم الكونيّ المقبِل. أمّا موتُ الاقتتال الحاقد فلا يُفضي إلّا إلى تفاقم الاحتراب الإهلاكيّ.

لا سبيل إلى الانعتاق من حروب الهويّات المتشنّجة والمصالح المتضاربة إلّا بواسطة الارتداد الكيانيّ إلى فلسفة اللاعنف التي نادى بها عقلاءُ الأرض وحكماؤها، ومنهم الفيلسوف الفرنسيّ جان-ماري مُلِر (1939-2021) الذي ناصر نهج غاندي السلميّ، وبنى نظريّةً فلسفيّةً متناسقةً متكاملةً في تأصيل اللاعنف على جميع مستويات الحياة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، وأنشأ معهد البحث في حلّ الصراعات اللاعنفيّ (Institut de recherche sur la résolution non-violente des conflits)، وشارك في إنشاء المجلس العالميّ المشرف على أوّل جامعةٍ تُعنى بتدريس اللاعنف في العالم، ومركزها الأساسيّ في لبنان. في عرفه أنّ حكمة الحضارات الإنسانيّة تختزن كنوزاً لا ثمن لها من المبادئ والقيَم والمناهج والسبُل والخطط التي نستطيع أن نستثمرها في فضِّ أعتى الخلافات الكونيّة استعصاءً على الحلّ السلميّ.

وعليه، أعتقد أنّه من واجبنا أن نبحث بحثاً هادئاً عن الطريق السلميّ اللاعنفيّ الأمثل الذي يُفضي بنا إلى التفاوض الحازم من أجل فكّ عقَد التاريخ، وشفاء الوعي الجماعيّ الشقيّ من أسقامه الآيديولوجيّة المتراكمة. في مطلق الأحوال، يبقى التسالم الودود والتفاوض المستمرّ والتعاون الصادق من أفضل السبُل التي تتيح لنا أن نتوب عن معاصينا، ونهذّب أخلاقيّاتنا، ونصيب خصمنا بالعدوى الروحيّة الصالحة، ونرتقي معاً في معارج النضج الفرديّ والجماعيّ. حتّى لو لم نحصل كلُّنا على جميع المطالب التي نَعدّها من صميم حقّنا الحضاريّ الأسمى، فإنّ التسالم الراقي الذي نختبره مع خصمنا يفعل فيه فعلَه الاختماريّ البطيء حتّى يرتدّ ارتداداً جميلاً إلى سبيل المعيّة الحضاريّة البهيّة. ليس الزمن المتباطئ بالمعثرة المانعة، إذ إنّه من الأفضل لنا أن نطوي الأيّام مقاومين مقاومةً سلميّةً في سبيل ارتداد خصمنا الظالم، عوضاً عن ضياع الزمن عينه في احترابٍ إفنائيٍّ عبثيٍّ يُفسِد فينا جوهرَ إنسانيّتنا.


الفنان حلمي التوني صنع هوية أكثر من 4 آلاف غلاف كتاب عربي

أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ
أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ
TT

الفنان حلمي التوني صنع هوية أكثر من 4 آلاف غلاف كتاب عربي

أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ
أغلفة حلمي التوني للطبعة الجديدة لكتب محفوظ

صمم الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني (مواليد 1934) ما يزيد على أربعة آلاف غلاف كتاب، خلال مسيرته الإبداعية. وبذلك فهو مع بداياته في نهاية خمسينات القرن الماضي، ومن خلال عمله مع كبار دور النشر والمطبوعات الصحافية العربية، تمكن من أن يكون واحداً من جيل المؤسسين لهذا الفن، الذي بقي إلى اليوم، مثار تساؤل، حول دوره وأهميته، وجدوى الإنفاق عليه عربياً، فيما أصبح جزءاً عضوياً رئيسياً من عملية طباعة الكتاب ونشره وتسويقه في العالم.

المعرض الاستعادي لأغلفة الكتب التي صممها حلمي التوني، الذي أُقيم مؤخراً ليصاحب «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، فتح شهية الزائر، على معرفة أعمق، بفن تصميم الأغلفة العربية، ومسار التوني الفني بشكل خاص.

حلمي التوني فنان متعدد، رسم اللوحات الزيتية والأعمال الكاريكاتورية، وكذلك صمَّم أفيشات أشهَر الأفلام المصرية، والإعلانات، وصفحات المجلات والصحف وأغلفة الكتب، وشكلّ جزءاً من نهضة فنية في عالم الجمال الطباعي، الذي كان يبحث عن هوية وطنية وخصوصية.

أفيش أحد الأفلام المصرية

ألف كتاب وأكثر

وتسمية المعرض في بيروت بعنوان «التوني... ألف كتاب وكتاب» جاء في الصميم. لكنَّ الزائر لم يكتشف أكثر من 300 تصميم، بسبب ضيق المكان، أعطت فكرة سريعة عن مسار الفنان، وبقي المتفرج على عطش، لأن التصاميم لم ترافقها شروحات أو إيضاحات تصل الزائر بتاريخ الغلاف، ورحلة رواده، ومكانة التوني تحديداً في هذا المسار الشيق.

عكف التوني في البدء على تصميم مجلّة «الكواكب» المصرية، ثم تسلم الإدارة الفنيّة في «دار الهلال». وهو من وضع أجمل أغلفة نجيب محفوظ، ووضع لمساته الخاصة على صورة نسائه التي رسمها بشكل لا ينسى. كما صمم غالبية أغلفة روايات إحسان عبد القدوس التي التصقت بالذاكرة. فعمله مع «دار الشرق» للنشر جعله على تماسّ مع نصوص كبار الكتّاب، ووضع أغلفة لأنيس منصور، وعبد الوهاب البياتي، وإبراهيم عبد المجيد، ورضوى عاشور، وآخرين.

والتوني هو مَن وضع حلّة كتب محمود درويش التي صدرت عن «مؤسسة الدراسات العربية» يوم كان ركناً منها، وزيَّنها بالخط الجميل الطاغي على كل ما عداه في الغلاف، وهو أيضاً مسهم أساسي في صنع هوية كتب «دار العودة» و«دار ابن رشد».

حصل حلمي التوني على بكالوريوس من كلية الفنون الجميلة، تخصص يومها في الديكور المسرحي، وتخرج عام 1958. في استعادةٍ لرحلته الفنية، يعد الرجل أن تكوينه الأكاديمي طوال تلك الفترة كان غربياً، والتحول الحقيقي في مساره، جاء بعد إقامته البيروتية التي استمرت ثلاثة أعوام، وانتهت مع بدء الحرب الأهلية عام 1975، إذ شعر بأن استمرار إقامته خلالها أصبح عسيراً.

تجربة بيروت

حين كان حلمي التوني في القاهرة مديراً فنياً في «دار الهلال»، أصدر الرئيس أنور السادات قراراً بطرد أكثر من 100 صحافي لمطالبتهم بإنهاء حال المراوحة مع إسرائيل التي تأرجحت بين السلم والحرب. هكذا طرد التوني من عمله بتهمة الشيوعية، مع أنه لم يكن كذلك، ووجد نفسه بلا عمل لشهرين، قبل أن يقرر التوجه إلى بيروت. حينها لم تقبل حتى صالات العرض أن تستقبل لوحاته في القاهرة، ولم يعد أمامه سوى المغادرة. وكانت العاصمة اللبنانية في حالة غليان ثقافي.

يقول التوني إنها كانت فترة خصب كبرى، بسبب الانفتاح على الغرب، وتطور الطباعة، والتحاقه بـ«المؤسسة العربية للدراسات والنشر» مما أضاف له الكثير. من أوائل ما صمَّمه عند وصوله إلى العاصمة اللبنانية، كان شعار «معرض بيروت للكتاب» الذي لا يزال صامداً إلى اليوم، لذلك لا غرابة في أن يحتفي به هذا المعرض ويعرض أعماله، ويخصص له ندوة خاصة، لم يتمكن من حضورها، وعُرضت مقابلة معه سُجلت خصيصاً لهذه الغاية، قال فيها: «استفدتُ من انفتاح لبنان على الغرب وكانت الطباعة متقدّمة، والإمكانات متوافرة، التحقتُ بالمؤسسة العربية بسبب علاقتها بالناشر عبد الوهاب الكيالي، وبالمقاومة الفلسطينية التي كانت قد انتقلت أيضاً إلى بيروت». ولا بد من التذكير بأن التوني كانت له لمساته المهمة على صفحات جريدة «السفير»، سواء في تقسيم موادها، أو في ملاحقها، وما لا يمكن أن ينسى هو شعارها الذي صممه لها وبقيت تحمله وتُعرف به حتى توقفت عن الصدور. فهو الذي قال: «أنا أعمل في حقلين... حقل اللوحة وحقل غلاف الكتاب، وأظن أننا في واقعنا الثقافي، الفني، محتاجون إلى هذه المدارس المتنقلة... مدرسة اللوحة وغلاف الكتاب».

العودة إلى القاهرة

مع عودته إلى القاهرة، وقد اجتاحت بيروت الحربُ، كان التوني لا يزال تحت تأثير تكوينه الأول. فهو تتلمذ على أعمال فناني عصر النهضة، ومثله الأعلى ليوناردو دي فنشي وأعمال بيكاسو. لكنه بدءاً من الثمانينات سيطرح على نفسه أسئلة: «هل أنا قبطي، أم يوناني روماني؟ قلت طيب مصر هي خلاصة كل هذا. الفنان الشعبي، قام بكل هذا بمزاجه بلا تخطيط. أصبحتُ تلميذ الفنان الشعبي، الذي رسم على الزجاج والجدران ورسم الوشم على الجلود». خطر له يومها لماذا يفترض أن يسير خلف ثقافة، ويبقى درجة عاشرة بالنسبة لها؟! من هنا بدأ التوني بحثه الذي لم يتوقف في الفن الشعبي، يدرسه ويتعمق برموزه، متأملاً في بيئته، والمكونات الثقافية لمصر، ناهلاً من الأغنية والمحفورات والآثار، وكل ما تقع عليه حواسه.

لكن ربما أن حلمي التوني يظلم نفسه بهذه الأحكام، فحتى أعماله الأولى لم تكن استشراقية، ولا غريبة عن بيئتها، لكن هذا المنحى الوطني، أخذ يتعمق بمرور الوقت، وهو ما يبرز جلياً في التصاميم واللوحات.

يصف نفسه بأنه رسّام غنائي: «أنا مواطن أغنّي لبلدي وأرسمها... أحب الرومانسية وأريد أن أُفرح الناس». لا بل إن أغلفته ولوحاته هي انعكاس لأغنيات سمعها. «أنا بتاع الحب والوطنية، مش ندّابة». لهذا لا يمكن للناظر إلى مختلف أعمال التوني إلا أن يرى البهجة في اللون، والبشاشة في الوجوه، والحيوية في اللوحة أو الغلاف.

عاشق للمرأة وقضاياها وحريتها، لا بل يعد نفسه نصير كل مظلوم وأقلية ومستضعَف. لهذا رسم الفلاحة المصرية دون كللٍ بنت البلد بملامحها الودودة. «كلهن على اختلاف وجوههن هنّ بهيّة»، يقول عن نسائه. ثمة رموز تتكرر في لوحاته، ولا بد أن تعثر على أحدها في كل مرة، كأنها توقيعه الخاص. السمكة التي تجدها تارةً على الرأس أو على اليد، وربما إلى جانب المرأة، وهي رمز الخصب والإنجاب. تجدها على غلاف كتاب نوال السعداوي «الأنثى هي الأصل» في طبعته الأولى التي مُنعت في مصر. هذه المرأة التي تستعدّ للطيران، سيرسمها الفنان عشرات المرات بعد ذلك، في سياقات مختلفة.

كذلك تجد في أعماله الأسد كنايةً عن الشجاعة والقوة، أضف إليها الأواني المنزلية، والعقد حول أعناق النساء، والطفل الذي يحمل الشمعة، لكنك قليلاً ما ستعثر على رجل، فهو لا يحب رسم الرجال، ويفضل بدلاً منه الحصان، كما وضعه جامحاً، على غلاف كتاب «دار الشروق» المعنون «أجمل الحكايات الشعبية». ولا بد أن يلفتك في كثير من أعماله القمر. أما الميزة التي يعدها أساسية، التي تضاف إلى الغنائية والفرح، فهو «أن شخصياتي تنظر دائماً في عين المتفرج» هذا يمنحها القوة والنبض، ويعطي المتلقي إحساساً بأنها رُسمت من أجله هو.

وتحية لتلك الفترة التأسيسية في تصميم الغلاف العربي، التي كانت قبلها أغلفة الكتب مجرد كرتون ملون عليه بعض الزخرف، أرشف الباحث المصري محمود الحسيني آلاف الأغلفة التي صُمِّمت منذ أربعينات القرن الماضي، واستطاع جمعها على منصة إلكترونية، ليعود إليها كل مهتم. لكن لا تزال مسألة تطور الأغلفة، ومساهمة كل من روادها منقوصة، ولم تجد العناية الكافية من البحاثة.

وربما أن العودة إلى واحد من هؤلاء المؤسسين يعطي فكرة، ويشكل إضاءة على هذا التاريخ الفني الذي سعى رواده إلى إبراز الهوية العربية الخاصة بعناصرها ورموزها، وفرادتها.


كتّاب من خمسة بلدان عربية في القائمة القصيرة لـ«جائزة الملتقى للقصة»

TT

كتّاب من خمسة بلدان عربية في القائمة القصيرة لـ«جائزة الملتقى للقصة»

أعلنت لجنة تحكيم «جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» المؤلّفة من: د. شهلا العجيلي - رئيسةً، وعضوية كل من: د. شعيب حليفي، ود. فهد حسين، ود. سعداء الدعّاس، ود. ميشيل هارتمان، عن القائمة القصيرة للدورة 198، وضمت المجموعات التالية:

«ثملا على متن دراجة هوائية» لإسماعيل الغزالي، المغرب (منشورات المتوسط)، و«دو... يك» لروعة سنبل، سورية (دار ممدوح عدوان)، و«دمى حزينة»، مصر (مؤسسة بتانة الثقافية)، و«المقطر» لعبد الهادي الجميل، الكويت (دار أثر)، و«وقت قصير للهلع» ليحيى سلام المنذري، عُمان (دار عرب).

وقالت رئيسة لجنة التحكيم الدكتورة شهلا العجيلي: «إن المنافسة في هذه الدورة كانت شديدة، بسبب ارتفاع المستوى الفنيّ للأعمال المشاركة، وتنوّع مساراتها الإبداعيّة. وقد تميّزت مجموعات القائمة القصيرة المختارة بقدرة مبدعيها على تمثّل فنّ القصّ سواء أكان كلاسيكيّاً أم تجريبيّاً، وبوجود أعمال اعتمدت فنّ الحكاية لسرد اليوميّ، أو تكسير الزمن لصناعة حالة من الإيهام بالغريب والفانتازيّ، أو استخدام الثيمة الواحدة في حبكات متعدّدة، إلى جانب القص ضمن حكاية إطاريّة ومحاكاة الموروث الشعبيّ. وكانت اللجنة قد وضعت معاييرها الفنية لاختيار المجموعات المستحقّة، ومنها: جودة بناء النصّ وجدّته، ومدى تمتّعه بالإبداع، وبلاغة اللغة كما يقتضيها فنّ القصّ، إضافة إلى جودة المعالجة الفنيّة، وتمتّع الفضاء النصّي بالخصوصيّة، أو انفتاحه على آفاق ثقافيّة مغايرة».

من جانبه، أشاد الأديب طالب الرفاعي، مؤسس الجائزة ورئيس مجلس أمنائها، بـ«الدعم السخي الذي تقدّمه جامعة الـ(AUM) لدعم الجائزة وتشجيعها وإدارة كل ما يتصل بها»، لافتاً إلى أن «جائزة الملتقى» باتت تمثّل حضور دولة الكويت في مشهد الجوائز العربية، وفي «منتدى الجوائز العربية».

وستجتمع لجنة الجائزة في الكويت في الأسبوع الثاني من شهر يناير (كانون الثاني) 2024 لاختيار الفائز للدورة السادسة، الذي سيحصل على «مبلغ عشرين ألف دولار أميركيّ، ودرع الجائزة، وشهادتها»، في حين يحصل كل كاتب في القائمة القصيرة على «مبلغ خمسة آلاف دولار أميركيّ، ودرع، وشهادة الجائزة».

وسيشهد حرم جامعة الشرق الأوسط الأميركيّة في الكويت احتفاليّة الجائزة السنوية، ونشاطها الثقافي لهذه الدورة، المتمثّل بإقامة «مؤتمر جائزة الملتقى الأول للقصة القصيرة العربيّة»، بمشاركة مجموعة من كتّاب القصّة القصيرة العربيّة، ونقّادها، وعدد من الناشرين، والمترجمين.


نابليون... وجوه عديدة متناقضة

نابليون... وجوه عديدة متناقضة
TT

نابليون... وجوه عديدة متناقضة

نابليون... وجوه عديدة متناقضة

الصورة الأسطوريّة التي رسمها نابليون لنفسه حجبت جوانب قاتمة من أفعاله وأدواره السياسيّة لربّما كان نابليون بونابرت (1769 – 1821) أشهر فرنسي في التاريخ، ولا يختلف أحد على أنّه أحد أعظم القادة العسكريين في كل العصور. لكن هذا الإمبراطور الذي ترك بصمته على العالم الحديث في لحظة تشكله لا يبدو كأنّه سيغادر مسرح الجدل في أيّ وقت قريب؛ إذ يرفض الاستلقاء بهدوء في قبره، وينجح دائماً في أن يستدعي الخلاف حول الجوانب المتعددة والمتناقضة لشخصيته، وحياته، وعلاقاته، ناهيك بأدواره العسكريّة منها والسياسيّة... بل، وعلى الرّغم من شهرته الفائقة، لا أحد متيقناً من شكل ملامحه الأصلية، بعد أن تكاثرت «أقنعة الموت» التي يدّعي مالكوها أنّها تعود للقائد الكبير، وهناك شكوك ونظريات مؤامرة حول مكان دفنه.

كل هذه الوجوه الكثيرة لنابليون، استُعيدت مؤخراً على هامش فيلم سينمائيّ جديد عنه، وهذه المرّة بتوقيع المخرج البريطانيّ الشهير ريدلي سكوت، لا سيّما أن الشريط تضمن اجتهادات فنيّة وخيارات لم تُرضِ المؤرخين، خصوصاً الفرنسيين، الذين عدّ بعضهم سكوت مجرّد إنجليزيّ متحذلق آخر، لا يمكن الوثوق برأيه فيما يتعلق بسيرة الإمبراطور الذي أذكى نيران صراع نفوذ بين جانبي القنال الإنجليزي ربّما خمد في القرن الحادي والعشرين، لكن أصداءه لم تتلاشَ قط.

الأمر الأهم لفهم نابليون يبدأ من إدراك أنّه، إلى تاريخه العسكري والسياسيّ الملطخ بالدّماء والفظائع والدسائس، كان يتمتع بشخصيّة جذّابة للغاية، وقصّة حياته من منتصف تسعينات القرن الثامن عشر فصاعداً نتاج تفاعل وتناقض وتوتر بين الكاريزما الشخصيّة وتلك النزعة القياديّة الفائرة، والطّموح الجامح، في مقابل أفعاله الصّاخبة في المجال السياسي، والأنظمة التي أنشأها، والحروب التي خاضها. وقد انعكست هذه التّقاطعات على المنظور الذي اتخذه المؤرخون التقليديون من نابليون؛ إذ انقسموا دائماً بشأنه من خلال ثنائيّة حادة: فهو إمّا أسوأ شخصٍ على الإطلاق، وإما عبقريّ نادر ستعجز النّساء عن أن يلدن مثله. لكّن حقيقة نابليون، كما يفهمها المؤرخون اليوم، تميل إلى أن تكون أكثر تعقيداً من تلك الثنائيّة الساذجة، وأدقّ في قدرتها على تفسير ما حققه هذا الكورسيكيّ العنيد من إنجازات استثنائيّة في حياته الأقرب إلى الخيال.

لقد كان الحدث التكويني الأبرز في حياة نابليون التحاقه صغيراً (1779) بأكاديمية عسكرية، حيث أمضى 5 سنوات في بيئة إسبرطيّة قاسية، علمته فن البقاء على قيد الحياة حتى في أصعب المواقف. ومن المحتمل أنه تعرض خلال ذلك الوقت إلى السخريّة من قبل زملائه بسبب لهجته الكورسيكيّة - حيث أصوله - وعجزه عن التّحدث بفرنسيّة سليمة. ويعتقد أن تلك الهويّة الثقافيّة المغايرة لمحيطه دفعت به ليعتنق في شبابه فكرة استقلال كورسيكا. على أنّه لم يُظهر في تلك المرحلة أي علامات نبوغ أكاديميّ تنبئ عن مستقبله رغم عيشه في حقبة الانتقال من نهايات عصر التنوير إلى بدايات الرومانسيّة - في سبعينات و ثمانينات القرن الثامن عشر - حيث كان التفكير السائد بين الشّباب حينها أنّ الظروف القاسيّة ليس لها أن تعوق الإنسان عن السعي للبروز والتميّز، بل ينبغي التغلّب عليها والمضيّ قدماً، وهي الأجواء التي نشبت في ظلالها الثّورة الفرنسيّة. لكن نابليون الضابط ابتكر نسقاً مختلفاً من القيادة العسكريّة، مكنه بشكل أو بآخر من تحقيق إنجازات مبهرة، لمسها الجنود على أرض المعارك، وأيضاً الفرنسيوّن المدنيّون العاديّون الذين شرعوا في تعليق صوره على جدران منازلهم، وملاحقة المطبوعات التي تنشر أخباره. على أنّ استثنائيّة نابليون لم تتأت من نجاحاته في الميدان فحسب؛ وإنّما – وربّما هو الجانب الأهم – جرّاء وعيه بكيفيّة نقل أخبار تلك النجاحات لجمهوره في فرنسا وأوروبا عامة؛ إذ كان مدركاً، ومنذ وقت مبكّر في حياته المهنيّة، حقيقة وجود جمهور متلق ينتظر خطوته التالية، فكان يعتني بحرفيّة، تليق بساعاتيّ محترف، بالطريقة التي تصوّر فيها هيئته قائداً عسكريّاً – ولاحقاً زعيماً سياسيّاً – في ذهن الجمهور؛ الشّره أبداً إلى استهلاك أخبار شخصيات تبدو من بعد كأنّها أكبر من الحياة، لا سيّما بعد سنوات من الفوضى التي سبقت صعوده إلى السلطة في انقلاب 1799.

هذه الحساسيّة للصورة قد تفسّر لجوءه إلى إجراء استفتاء عام تلا استيلاءه على الحكم بالقوّة، ومن ثم تزويره النتائج سلفاً كي يبني أسطورته على أنه خيار شعبيّ للفرنسيين؛ رغم أن أغلبيّة ساحقة انبهرت بشخصيته، وانتخبته بالفعل. ليعيد الكرّة في 1802 عندما تلاعب بنتائج التصويت على استفتاء شعبيّ حول تعيينه قنصلاً أول لفرنسا مدى الحياة.

يقول الخبراء إن سمعة نابليون بصفته قائداً عسكريّاً بنيت على أساس كسره منهجيّة الحرب التي كانت سائدة في أوروبا قبله؛ إذ إن ملوك القارة القديمة وزعماءها، وعلى الرغم من صراعاتهم الكثيرة، كانوا ينظرون إلى المعارك العسكريّة بوصفها مجرّد صيغة لها حدود، توظّف للوصول في محصلتها النهائيّة إلى تسوية دبلوماسية عادلة لتقاسم المصالح بشكل يعكس توازن القوى على الأرض. وما فعله نابليون كان أن حطّم هذا النظام الذي بقي سائداً لقرون من خلال الاستخدام الوقح للقوّة، فكانت المعاهدات عنده مجرّد أداة لفرض إرادته، فإذا لم ترقه نتيجتها، عاد إلى الحرب مجدداً. ومن المؤكد أنّه فعل ذلك في مناسبات عدة لأنّه كان بمقدوره فعل ذلك ليس إلا، ولم يعنه كثيراً أن قراراته كانت تكلّف أرواحاً كثيرة؛ إذ تبجح في مقابلة له بأن مصاريفه السنوية تتجاوز المائة ألف إنسان؛ نصفهم على الأقل كان من مواطنيه الفرنسيين.

إن الصورة الأسطوريّة التي رسمها نابليون لنفسه حجبت بالتأكيد جوانب قاتمة من أفعاله في أدواره السياسيّة: الاستبداد بالسلطة، وتزوير الإرادة الشعبيّة، ومنظومة الدّولة البوليسيّة في بلاده، وأيضاً إعادة فرض العبوديّة على بعض المستعمرات الفرنسيّة في الكاريبي. لكن أيضاً، وفي ثنايا هذه الأدوار، فقد مثّل للفرنسيين تجسّد إرادة الدّولة بعد الانهيار الحقيقيّ الذي شهدته في أواخر تسعينات القرن الثامن عشر، ودفع عمل الطبقة السياسيّة قدماً لإنجاز ما صار يعرف بـ«قانون نابليون» الذي أصبح ملهماً لكثير من الأنظمة القانونيّة في فرنسا وكثير من دول أوروبا والعالم، وإن كان دوره شخصيّاً في صياغة مواده موضع خلاف أيضاً. ويزعم المؤرخون أن هذا الدّور الرّمزي المركزي الذي لعبه نابليون في النظام الفرنسي بعد الثورة، وإن على حساب هدر موارد الإمبراطوريّة لبناء صورته في أذهان العامّة، كان وراء بناء هيكل بيروقراطيّ للدولة أصبح بعده - وامتداداً للحاضر – النّموذج الغالب على معظم الكيانات القوميّة في أوروبا.

حياة نابليون؛ سواء الإنسان، والقائد العسكريّ، والزعيم السياسيّ، منذ صعد إلى مسرح الحياة العامّة في فرنسا بعد انتصاره في أوسترليتز وأحداث 1804 و1806، لم تكن، في أيّ من مساراتها، طريقاً مستقيمة إلى النجاح، بل شهدت كل منها إخفاقات هنا أو هناك، لكّن عناده واعتقاده الذي لا يتزعزع بأنه يستطيع هزيمة أعدائه وفرض إرادته عليهم، سمحا له دائماً بالنهوض من كبواته، واستئناف القتال مجدداً، وأحياناً دون داع عسكريّ للقتال، وإنما لكسر إرادة أعدائه الشخصيين، مهما كلف ذلك جيوشه من قتلى، وجرحى، وآلام.

الاختلاف بشأن إرث نابليون، امتدّ حتى إلى مظهره الشخصيّ؛ إذ يصوره البريطانيون قصيراً للغاية، وهو أمر غير دقيق، لكّن المؤكد أنّه لم يكن مصدر افتتان للنساء في شبابه، وإن عوّض ذلك في المراحل اللاحقة من حياته من خلال ديماغوجيته الصاخبة وحضوره القياديّ. ومع كل شهرته الفائقة، فإن ملامح وجهه غير مؤكدة بسبب تعدد «أقنعة الموت» المنسوبة إليه. وهناك إلى اليوم خلاف بين جهتين في الدّولة الفرنسيّة (وزارتا الدّفاع والثقافة) حول أيها النسخة المزورة من الحقيقيّة، فيما يقول مختصون مهووسون بتراث نابليون إن الجثة المسجاة اليوم في متحف الـ«إنفاليد» الفرنسيّ ليست جثته كما تزعم الدّولة الفرنسيّة، بل جثة خادمه الذي رافقه في منفاه الأخير إلى جزيرة سانت هيلانة.

يبدو أن الخلافات بشأن نابليون لن تحلّ أبداً، وسيستمر الرجل وتراثه موضوعات أبديّة للجدل، ولذلك، فإن فيلم سكوت الأحدث، رغم انتشاره الفائق، لن يكون سوى نقطة في بحر لن ينضب، وستظّل كل محاولة للتأريخ - على إطلاقه - مجرد مشروع إعادة كتابة لا تنتهي يوماً.


نجيب محفوظ كتب عن محاولة اغتياله قبل وقوعها

نجيب محفوظ بعدمحاولة اغتياله عام 1994
نجيب محفوظ بعدمحاولة اغتياله عام 1994
TT

نجيب محفوظ كتب عن محاولة اغتياله قبل وقوعها

نجيب محفوظ بعدمحاولة اغتياله عام 1994
نجيب محفوظ بعدمحاولة اغتياله عام 1994

كنت منهمكاً في قراءة مقالات نجيب محفوظ لباب «وجهة نظر» في صحيفة «الأهرام»، التي نُشرت في السنوات من 1989 إلى 1994، في صدد الإعداد لمقدمة أكتبها لكتاب يحوي ترجمة تلك المقالات إلى الإنجليزية. أذكر أنه اعترتني رجفة حين وصلت إلى المقالة المنشورة بتاريخ 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1994. وكأني أعاصر من جديد العدّ التنازلي لطعنة الرقبة. بعد يومين من تلك المقالة ستأخذ السكين طريقها إلى العنق المستسلم في ود، تلك السكين التي لا بد أنها سخطت في تلك اللحظة على كونها جماداً لا يملك مقاومة اليد التي تُوجهها لذلك الفعل. لم يكن هناك عدّ تنازلي وقتها، فمحفوظ مثله مثلنا جميعاً لم يكن مطّلعاً على الغيب، لم يكن يعرف أنه بعد يومين من نشره مقالة بعنوان «صباح الخير أيها العالم»، ستجري محاولة لاغتياله بدافع من فتوى إرهابية تستند إلى الدين.

لكني أنا كنت أقرأ مقالات شهر أكتوبر وأنا في غاية القلق والتهيب، كيف يكتب ويكتب أسبوعاً بعد أسبوع، وكأن شيئاً لن يحدث؟ عليَّ أن أُحذّره، لا يمكن أن يستمر على هذا النحو. لا بد من منع ذلك القضاء. فليصرخ أحد في وجه الغيب المقبل. في يوم 12 أكتوبر يكتب مُلقياً تحية الصباح على العالم، مع إقراره «إنه عالم يحفل بما يسيء، ونادراً ما تعثر فيه على ما يَسرُّ». يمضي محفوظ مُعدِّداً مساوئ العالم وشروره فيقول: «ثمة أزمة اقتصادية وغلاء، وما تلده من بطالة وفساد من كل شكل ولون، والعالم أيضاً يعاني من أزمة اقتصادية وبطالة، وفيه ما يكفيه وأكثر من حوادث الفساد. أما عن الإرهاب فحدِّث عنه ولا حرج، المحليّ منه والعالمي، الديني والعنصري والوطني (...) وهناك المشكلات السياسية الدموية، تجدها في اليمن والسودان وأفغانستان، وتبلغ ذروتها في البوسنة والصومال ورواندا، وأبناء الفقر المنفيون في العالم الثالث، كما في العالم المتقدم، حيث يعيش الملايين تحت مستوى الفقر...». ولا يستثني محفوظ من هذه القائمة الكئيبة سوى فرع واحد من فروع النشاط البشري يرى أنه يمضي قُدماً محققاً الإنجاز وراء الإنجاز، غير حافل بما يحيط به من ألوان الفساد والخيبات، ذلك هو البحث العلمي الذي «تُومض أضواؤه في تلك العتمة الشاملة بالمزيد من المعرفة والكشف عن حقائق جديدة، والتصدي بقوة للأمراض والآفات». ويختم محفوظ مقالته ختاماً باعثاً على التفاؤل، على الرغم من كل المساوئ والمُنغّصات، مُهيباً بالقارئ «افتح صحيفتك ولا تيأس من استقبال ما هو أفضل وأجمل». يا لَلمفارقة! لا بد أن وعياً ما في رجا من أرجاء الكون قد ابتسم ساخراً أمام هذه الدعوة النابضة بالتفاؤل، جاهلةً بما يخبئه الغيب عند المنعطف القريب.

بعد يومين سيفتح القارئ صحيفته ليستقبل خبر محاولة اغتيال محفوظ بطعنه في رقبته. كان ذلك في يوم 14 أكتوبر. بعدها نشرت «الأهرام» مقالتين أخريين لمحفوظ بتاريخي 20 و27 أكتوبر، بينما كان راقداً في المستشفى. كان قد كتبهما مسبقاً، كما كانت عادته أحياناً، وبقيتا في انتظار الموعد الأسبوعي لعموده. في الأولى تحدّث عن الإرهاب باعتباره عرَضاً لغياب العدالة الاجتماعية: «الأمر الذي لا شك فيه أن الدور الفكري غاية في الأهمية عند التصدي للإرهاب، وأنه يساوي في أهميته التصدي الأمني (...) ولكن يجب ألّا يغيب عن البال دور الفقر والبطالة والفساد، وكل ما يُوقع الشباب في مخالب اليأس والإحباط. والإنسان لا يستجيب للتطرف إلا إذا كان مُهيّأً لذلك نفسياً واجتماعياً، والحائز للصحة النفسية والاجتماعية لا يميل إلى الآراء المتطرفة، وحتى إذا اعتنقها كأفكار في أحوال نادرة، فإنه لا يتحول بها إلى العنف والإرهاب معرِّضاً حياته السليمة العافية إلى الهلاك. ولكن الآراء المتطرفة والدعوات الإرهابية قد تجد صدى في الأنفس التي أرهقها الفقر واليأس والشعور بالظلم (...) الإرهاب مرض خطير، علاجه يجب أن يكون شاملاً، هو أمني وفكري وإصلاحي وسياسي». كان محفوظ دائماً يكرر أن الإرهاب ظاهرة اجتماعية لها مسبباتها، وأن مواجهته لا تكون عن طريق الحل الأمني وحده، وإنما عن طريق الديمقراطية والإصلاح الشامل للمجتمع.

أما في المقالة الأخرى فقد كان لها العنوان الدالّ «توترات مَرَضية»، وأشار فيها إلى «طابع الحِدة والعنف» الغالب على كل المناقشات في المجتمع، حيث يقول: «الحق أن الصدور أصبحت تَضيق بالمناقشة ولا تُطيق الرأي الآخر، ولا تتسع لأي نوع من التفاهم أو التسامح، كأن كل صاحب رأي يرى ذاته سلطة يجب أن تكون فوق كل سلطان وفوق كل رأي، وأنه لا يصح لمن يتعرض لها من قريب أو بعيد أن يمضي بسلام ودون عقاب شديد. إن جو الإرهاب يتفشى في الأدب والفكر والجدل، وإن اختلفت الوسائل والأهداف، لذلك يتحمس الكثيرون للحرية، لا باعتبارها قيمة إنسانية شاملة، ولكن باعتبارها وسيلة لتحقيق دولتهم وعقائدهم، وإلا فهم على أتمّ استعداد للانقلاب عليها وتكبيلها». وينتهي محفوظ بأن يردَّ الأمر كله إلى «المعاشرة الطويلة للنظم الشمولية»، التي آذت المجتمع «وتركته في حاجة إلى إنقاذ روحي عميق».

وكأن نجيب محفوظ كان يسابق الجميع في السعي إلى وضع محاولة اغتياله التي لم تجرِ بعدُ في سياقها السياسي والاجتماعي. في الواقع لعلَّه الوحيد الذي وضع المحاولة في ذلك السياق، وسط الآلاف الذين صرفتهم بشاعةُ الجُرم عن فهم ظروفه الأوسع. وحتى اليوم، ما زالت كلماته البسيطة غير مفهومة، وما زال منطقه الناصع لا يجد من يصغي إليه. كم مرة يجب اغتيال نجيب محفوظ حتى نفهم؟


«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»
TT

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

«العولمة والنص»... القصيدة في صالة «ترانزيت»

تتخذ الناقدة والباحثة اللبنانية دكتورة نايلة أبي نادر من أعمال الشاعر اللبناني شربل داغر مدخلاً لمقاربة العلاقة بين قصيدة النثر وأسئلة اللحظة الراهنة، وذلك في كتابها «العولمة والنص» الصادر أخيراً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب». وتتوقف المؤلفة بشكل خاص عند كتابه «ترانزيت» الذي لا يحتوي على مجموعة قصائد، كما أننا لا نجد فيه أي عنوان أو إشارة إلى تبويب أو تفصيل ينقل القارئ من موضوع إلى آخر، بل هو عبارة عن قصيدة ممتدة ما بين ضفتي الغلاف، وهي قائمة على حوار بين متكلمين كُثر منذ الصفحة الأولى وحتى النهاية.

وتوضح الباحثة أن هناك فعل خروج واضح من نمطية معينة نحو نص فاتح للمعابر ومتخطّ للحدود الموضوعة بين الأجناس الأدبية. هنا يطل الشاعر على العالم من قاعة ترانزيت في أحد المطارات، ليقيم علاقة جديدة بين النص والحاضر كما هو في الواقع المعاش. المكان الذي يدور فيه الكلام ليس مغلقاً ولا سرياً، إنما صالة مفتوحة للعابرين الذين ينتظرون مواعيد رحلاتهم. تتنقل القصيدة في مكان جديد وكأنها تخرج من حدود التقليد لتسافر إلى المكان الأرحب، فاختيار العنوان جاء ليعكس رغبة لدى الشاعر في كسر تقليد ما، والدخول في طقس الترحال، ليس فقط من مطار إلى مطار، ولا من بلد إلى بلد، إنما من جنس أدبي إلى آخر، ومن مقاربة إلى أخرى تفاجئك كما نمط الحياة الحاضرة.

وتتخذ القصيدة الممتدة شكل المسرح وتصبح مشهداً من الحياة، حيث تتوقف الرحلات لسبب طارئ وتتداخل أصوات المسافرين في انزعاج شديد؛ وتتوالى الأسئلة والأجوبة ما بين واقع مأزوم وخيال رحب.

يسترق الشاعر السمع بين المتكلمين الغرباء الذين تجمعوا في صالة الترانزيت دون أن يعرفوا بعضهم بعضاً ويدور الحوار بينهم هكذا:

متكلم: أنا أريد أن أصل إلى حياتي.

متكلم: أين تقع؟

متكلم: وجدتها ملقاة على هامش الحديقة في المرة الأخيرة.

متكلم: وأين كنت؟

متكلم: في غفلة عنها.

متكلم: وإذ تنتبه، وتستيقظ، ماذا تفعل؟

متكلم: أتحسر عليها.

متكلم: ولم لا تنتقل إليها؟

متكلم: لأنها تكون قد انتقلت من جديد.

يجد القارئ نفسه في مشهدية تعكس وقع حياة الإنسان المعاصر المستعجل والمسبوق دائماً، إذ إن الوقت يداهمه ولا مجال عنده لكي يفكر في حياته في المعنى الذي يضفيه على أيامه ولياليه بما فيها من ألم وخيبة وحب وفرح، فالحياة تهرب أمامنا ونحن نركض مجدين للحاق بها. هذا النمط بالتحديد قد تعمم بفضل العولمة وفتح الدول والقارات على بعضها.

وتلفت المؤلفة إلى أنه في هذا السياق من الصعب أن نميز بين الوصول والمغادرة، فنحن في منطقة «بين - بين». الشخصيات جاءت من الشرق، من الجنوب (من أقصى الشمال)، (من حيث لا تتوقعون)، (من باب حرف الشين). الوجهة: إلى أي مكان أو إلى لا مكان، لا شيء يجمع بينهم سوى الاحتجاز. برنامج الرحلات الواصلة جاء على الشكل الآتي:

الواصلة من: ممرات الاعتراف الأخير

موعد الوصول: عند خفوت الحركات

الباب: المؤدي إلى الفرج

ويصف الشاعر رحلة أخرى واصلة هكذا:

الواصلة من: القصيدة بمحركي استعارة

موعد الوصول: عند وصول القارئ

الباب: إذ يخرجان معاً

وهكذا، نحن أمام حالة مسرحة للقصيدة لا تنتهي، فالمسرح مفتوح دوماً على قوسي البدايات والنهايات، والمخرج متحفٍّ في ثوب الشاعر دائماً.


«الأديب الثقافية» تعالج «إشكاليات المرأة المواطنة العراقية»

«الأديب الثقافية» تعالج «إشكاليات المرأة المواطنة العراقية»
TT

«الأديب الثقافية» تعالج «إشكاليات المرأة المواطنة العراقية»

«الأديب الثقافية» تعالج «إشكاليات المرأة المواطنة العراقية»

صدر العدد الثامن من مجلة «الأديب الثقافية»، وهي «مجلة ثقافية - تعنى بقضايا الحداثة والحداثة البعدية»، يرأس تحريرها الكاتب العراقي عباس عبد جاسم، وقد زيّنت الغلاف لوحة للفنانة الكردية روناك عزيز.

كما تضمّن العدد الإعلان عن تأسيس «هيئة استشارية للمجلة»، تتألف من نقاد وأكاديميين عراقيين وعرب، وهم: الدكتورة آمال قرامي، والدكتورة بشرى موسى صالح، والدكتور حميد لحمداني، والدكتورة درية كمال فرحات، والدكتور حاتم الصكر، والدكتور عبد الغني بارة، والدكتور علي جعفر العلاق، والدكتور عبد العظيم السلطاني، والدكتور سلمان كاصد، والدكتور صبيح كلش، والدكتور فاضل عبود التميمي، والدكتور فيصل غازي النعيمي، والدكتور كامل فرحان صالح، والدكتور نبيل سليمان والدكتور يوسف إسكندر.

كتب رئيس التحرير افتتاحية العدد بعنوان «إشكالية تحرير التاريخ من الآيديولوجيات الرثة»، وتضمن حقل «بحوث»: «هجنة الهوية وتذويت الآخر في السرد الروائي العراقي» للدكتورة نوافل يونس الحمداني، و«مواضعات التصنيف الإجناسي في الرواية العربية» للدكتور قيس عمر، و«تطريزات الثعلب أو شعرية النقص» للدكتور رشيد هارون.

وفي حقل «حوار» قدّم المترجم والكاتب المغربي عبد الرحيم نور الدين ترجمة لحوار مع الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل، حاوره: ميكاييل ابكار وماري روك.

وجاء ملف العدد بعنوان «إشكاليات المرأة المواطنة العراقية»، وقد أسهمت فيه مجموعة من الكاتبات والكتاب الأكاديميين العراقيين: الدكتورة أسماء جميل رشيد، والدكتور فائز الشرع، والدكتورة ابتسام إسماعيل قادر، والدكتورة عالية خليل إبراهيم، والدكتور فيصل غازي النعيمي، والدكتور بشار إحسان يحيى، والدكتورة زينة حمزة شاكر، والدكتورة إنصاف سلمان علوان، والدكتورة هاجر سالم الأحمد وعباس عبد جاسم.

ونقرأ في باب «نصوص»: «نظرية الفوضى – دنيا ميخائيل/ مساء الفل – سعد الدين شاهين/ ليليات الفلك – رعد فاضل/ يد واحدة تكفي – علي نوير/ كأي كائن سواء كان قادماً من الحرب أو آيباً من الصباح – حميد حسن جعفر/ كان بثاً مباشراً – انمار مردان/ قصة من الأدب السرياني: حتى الموتى... يتكلمون – بطرس نباتي».

وتضمن العدد «قصائد مختارة» للشاعر العراقي فاضل السلطاني، ودراسة عنها بعنوان «شعرية الغياب وهواجس الذات» للناقد علي حسن الفوّاز.

وفي حقل «تشكيل»، قدّم التشكيلي ماجد السنجري قراءة بعنوان «الفنانة روناك عزيز بين جدلية المعنى وأزلية الجسد».

وفي باب «مناقشات» كتب الدكتور ضياء خضير مقالة بعنوان «شيء عن الحداثة، والحداثة البعدية»؛ ناقش فيها هوية مجلة «الأديب الثقافية»، وجاء «رد» عباس عبد جاسم بعنوان «نهاية الحداثة - بداية الحداثة البعدية»، حيث قام فيها بتعليل المنطق الداخلي لـ«العنوان الفرعي الجانبي» لمجلة «الأديب الثقافية».


«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

شهد الحراك الثقافي العربي في السنوات الأخيرة عدداً من الظواهر التي عدّها مراقبون علامةً أدبيةً مهمةً تحرك المياه الراكدة، تأتي «مختبرات السرد» على رأس هذه الظواهر. اللافت أنه قبل 20 عاماً كان المصطلح نفسه غريباً يثير التساؤل، وربما السخرية، بسبب غرابته وإحالاته العلمية والطبية، لكنه الآن بات من المفردات البديهية للنشاط الأدبي والثقافي هنا وهناك، ولا يكاد يخلو بلد عربي منه، بل إن بعض البلاد مثل مصر والمغرب أصبح لديها أكثر من مختبر سردي.

في هذا السياق، إلى أي حد تبدو تلك المختبرات ضرورية، وما هي الأهداف التي حققتها خصوصاً بعد نضوج التجربة وانتشارها؟... في هذا التحقيق يجيب مديرو ومؤسسو تلك المختبرات، بالإضافة لأدباء ومثقفين، عن هذه الأسئلة وغيرها.

عبد الرحمن غانمي

كانت شرارة البداية انطلقت من المغرب، حيث شهدت الساحة الثقافية هناك الإرهاصات الأولى لتلك التجربة، وكان للمثقفين المغاربة فضل كبير في صك المصطلح وتقديمه للساحة العربية لاحقاً. اللافت أن «مختبر السرد» بكلية الآداب، جامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال، يمتد نشاطه ليشمل «الأشكال الثقافية: الأدب واللغة والمجتمع»، فهل ثمة دلالة ما؟ طرحنا السؤال على مدير المختبر د. عبد الرحمن غانمي فأجاب قائلاً: «في الواقع لم تنشأ الفكرة من فراغ، فهي حصيلة تراكمات أكاديمية أملت علينا في آخر المطاف تأسيس المختبر بأفق ورؤية مغايرة، ليست غايتنا تكرار التجارب، أو أن نكون مجرد رقم إضافي، ولا (مزاحمة) أيِّ من كان، وإنما فقط من أجل ترجمة المشروع الذي نؤمن به على أرض الواقع، ولذلك لم نقدم على هذه الخطوة إلا بعد مخاض مهم ونقاش مع مكونات المختبر ومرجعياته الفكرية في بدايات العقد الأول من هذا القرن».

سمير الفيل

وحول أبرز الأهداف الخاصة بالمختبر، أوضح أنها تتمثل في الاشتغال على قضايا وموضوعات ما زالت في حاجة إلى التناول، أو تلك التي لم تنل حظها من العناية والاحتضان، تبعاً لتصورات فيها قسط محترم من الاجتهاد والمثابرة، وعقد مؤتمرات وندوات وطنية ودولية ولقاءات منتظمة. والاهتمام كذلك بالتأطير الأكاديمي للطلبة في تكوين أطروحات الدراسات الأدبية واللسانية والثقافية.

لكن مع «تكاثر» مختبرات السرد من المحيط إلى الخليج، يرى البعض أنها تحولت إلى نشاط روتيني ولافتة أنيقة دون مضمون حقيقي، يجيب د. غانمي: «هناك عدد من مختبرات السرديات العربية تؤدي خدمة ثقافية لافتة، في سياقات أدبية ونقدية وفكرية بدلاً من أن يظل ذلك حكراً على بعض المؤسسات، ومن الأكيد أن التجارب تتنوع ولا تشتغل بالضرورة بإيقاع واحد، وتقوى في حين، وقد يخفت صوتها في لحظات أخرى، وقد تتحول بعض الأنشطة في بعض الأحايين إلى إعادة إنتاج الموجود».

سهير المصادفة

الرهان على الغرابة

في أواخر ديسمبر (كانون الثاني) 2009، تم الإعلان عن انطلاق «مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية». ورغم غرابة الاسم وقتها، إلا أن مؤسس ومدير المختبر الكاتب منير عتيبة راهن على أن هذه الغرابة ستكون نقطة تميز تلفت الأنظار إلى ما يقوم به المختبر، حتى لو واجه الاسم في البداية بعض التندر.

ويشير عتيبة إلى تبني المختبر فكرة «زمن السرد» مقابل «زمن الرواية»، وهو المصطلح الذي أطلقه الناقد المصري د. جابر عصفور، وذلك حتى لا يظن البعض أن الرواية قتلت بقية الأشكال السردية. وتم التوسع في مفهوم السرد بالمختبر، فلم يعد يقتصر على «السرد الكتابي» من قصة قصيرة ورواية، بل أضيف إليه «السرد المسموع» ممثلاً في الدراما الإذاعية، و«السرد المرئي» ممثلاً في الدراما التليفزيونية والسينمائية، إضافة إلى المسرح الذي يعد أب الفنون، باعتبار أن كل هذه الفنون «تسرد» فكرة في إطار فني باستخدام أدوات مختلفة من النص المكتوب إلى جسد الممثل وصوته إلى الحركة المسرحية والمؤثرات الصوتية والموسيقى والديكور والإضاءة. ويتم تنظيم لقاء شهري بـ«بيت السناري» التابع لمكتبة الإسكندرية بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة لمناقشة عمل سردي أو مناقشة مجمل أعمال سارد. كما يتم تنظيم لقاء شهري آخر بالمكان نفسه تحت عنوان «مختبر السرديات للفتية ببيت السناري»، وهو ورشة عمل دائمة لتدريب الشباب تحت سن العشرين ومناقشة أعمالهم بالتواصل مع كبار المبدعات والمبدعين.

جعفرالعقيلي

ويوضح منير عتيبة أن مختبر السرديات بالإسكندرية حقق الكثير من أهدافه، مثل دعم جسور التعاون بين الجهات الثقافية في البلاد العربية المختلفة، وهو ما تجلى في العديد من المؤتمرات التي نظمها المختبر مثل مؤتمر «البحر والصحراء: قصة مدينتين (الإسكندرية والرياض)» الذي جاء ثمرة تعاون بين مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية وبين «وحدة السرد» بكلية الآداب بجامعة الملك سعود.

رد الاعتبار للمنجز السردي

وحسب البيان التأسيسي لمختبر السرديات بالأردن، فإن الهدف من ذلك الكيان يتمثل في «الانفتاح على جميع أشكال السرد ومنتجيه دون أي مرجعية سوى جِدّة النص وسعيه الحثيث للمقاربات الحقيقية بغرض رد الاعتبار إلى المنجز السردي باعتباره منصة للانفتاح الإنساني».

منير عتيبة

وينفي الكاتب والناشر الأردني جعفر العقيلي، نائب رئيس المختبر، فكرة أن ظاهرة مختبرات السرد تحمل شيئاً من الرفاهية أو الرغبة في التقليد، مؤكداً أن تأسيس المختبر الأردني جاء انطلاقاً من الوعي بأهمية السرد وضرورة معاينته عبر الرواية والقصة والمسرحية والنصوص، بعين واعية وناقدة، والإسهام في خلق بيئة مبدعة حرة خلاقة، من خلال المراجعات والقراءات، واستنطاق النص الحاضر، واستحضار النماذج المبدعة، وفتح الأبواب للمغامرات السردية الجديدة، كي تعزز الحضور الإبداعي المهم فيما يخص الأجيال المبدعة في مجال السرد في الأردن، ليكون تلمّسه بتجلياته وأبعاده الإنسانية ومساحاته الإبداعية.

يضيف العقيلي: «نقوم في المختبر بتنظيم أنشطة غير نمطية كانت بمثابة سبل مدروسة تلقي الضوء على السرد المكرس وتأخذ بيد التجارب السردية الجديدة وفق رؤى وأدوات لا تتحقق إلا بثالوث الروائي والناقد والقارئ». ويؤمن مؤسسو المختبر، الذي يرأسه الكاتب مفلح العدوان، أن من أبرز معالم التنوير الثقافي في البلاد العربية ازدهار حالة النقد الذي يترافق مع وجود حركة تأليف مميزة وذات فعالية.

وعلى الدرب نفسه وفي ديسمبر 2019، أطلق مثقفون من مدينة دمياط الساحلية، شمال مصر «مختبر السرد بدمياط». ومن بين هؤلاء المؤسسين الشاعر والقاص سمير الفيل الذي يشير إلى أن أنشطة المختبر تتم في مقر حزب «التجمع» بالمدينة رغبة في الاستقلال عن الهيئات الرسمية. ويضيف الفيل: «نجح المختبر في تقديم جيل جديد من النقاد إلى الساحة الثقافية المصرية منهم محمد طاهر عشعش، دعاء البطراوي، هبة عادل السويسي، إضافة إلى النقاد أصحاب الخبرة مثل د. حمدي سليمان، د. عيد صالح، د. رشا الفوال، ود. إبراهيم منصور».

ويقول الفيل إن الهدف الأهم للمختبر، الذي بدأ في التبلور والتحقق، يتمثل في مد الحركة الثقافية بنشاط نوعي حقيقي، والتعرف على أقلام لا تحظى بدرجة كبيرة من الشيوع والانتشار لكنها تملك الموهبة ولديها هاجس التجاوز والتجريب. وينفي الفيل تحول المختبر إلى مجرد نشاط روتيني، نظراً لحرص الإدارة على اختيار أعمال مرموقة وذات مصداقية، ولإسناد مهمة النقد لأقلام عُرف عنها التجرد والنزاهة.

تفاؤل وتحذير

من جهتها، تشير الكاتبة الروائية سهير المصادفة إلى أنها شاركت في معظم فعاليات مختبرات السرديات، سواء في مصر أو في العالم العربي. لعل أشهرها وأكثرها تأثيراً مختبر السرديات بالمغرب، وكذلك ملتقى السرد الذي تقيمه الشارقة، وهو في أحد وجوهه مختبر للسرد أيضاً. وحول رؤيتها لتلك التجربة بعين المبدع تقول المصادفة: «فعاليات هذه المختبرات مهمة بالتأكيد للبحث الأكاديمي والنقد الأدبي والأدب المقارن، وبالتالي هي مهمة لمسيرة السرد. ولكن لا يساهم في الارتقاء بمستوى السرد إلا السرد نفسه، أي الروائي أو الروائية، فنحن هنا نتحدث عن تناول ما بعد العملية السردية، أي تحليل العمل الأدبي المكتمل بالفعل، من خلال محاور تفتح الآفاق أمام الباحثين، وتشير إلى الطفرات الكبرى في مسيرة السرد، وقد تكتشف من خلاله مدارس أو تيارات أدبية جديدة».

ويقول الشاعر والروائي السوري المقيم ببلجيكا هوشنك أوسي: «إن مختبرات السرد ظاهرة تنعكس إيجابياً على ضفتي الإبداع والنقد معاً، لكنها يُفترض أن تكون مرتبطة إمّا بالمكتبات الوطنيّة الكبرى، أو بأقسام وكُليّات الآداب في الجامعات، أو بوزارة الثّقافة، بحيث تكون مدعومة ومموّلة، وتحظى بشخصيّة أكاديميّة اعتباريّة. لكن مع ذلك، ففي ظنّي وتقديري أن التفاؤل الموجود حيال مختبرات السّرد، يفترض أن يكون مصحوباً بالتحذير مما يمكن وصفه بـانقلاب السحر على الساحر، بحيث كنا في أمس الحاجة لمختبرات السرد، كي تنقذ السّاحة الأدبية والنقدية من مظاهر الإسفاف والتهافت في الكتابة الأدبية والنقدية، لكن الخوف أن نصبح فجأة في أمس الحاجة إلى من ينقذنا من (مختبرات السّرد) العشوائيّة والارتجاليّة، أو الخاضعة لسطوة وسلطان هذا الكاتب أو الناقد أو المموّل».


رواية وكتاب مقالات لعبد الجليل الساعدي

رواية وكتاب مقالات لعبد الجليل الساعدي
TT

رواية وكتاب مقالات لعبد الجليل الساعدي

رواية وكتاب مقالات لعبد الجليل الساعدي

عن «دار جداول» للنشر والترجمة والتوزيع، صدر مؤخراً للكاتب الصحفي والروائي الليبي الزميل عبد الجليل الساعدي كتابان؛ الأول منهما رواية بعنوان «أيام على نهر أيسيس»، وهو الاسم الذي عُرف به قديماً نهر التيمز في بريطانيا، وثانيهما مقالات بعنوان «غرب وعرب».

الرواية هي الثانية التي تصدر للكاتب، بعد روايته الأولى التي صدرت في العام الماضي، بعنوان «عرب في لندن: حوارات على التيمز»، وفيها يتناول كمتخصص لغوي وأكاديمي تحولات اللغة العربية عبر الزمن.

النهجُ الحواري هو ما يميّز السرد الروائي في الروايتين، ومرتكزاً على الأفكار. وهو أيضاً ما يميّز أسلوب الكاتب عبد الجليل الساعدي، وربما يعود ذلك إلى تأثيرات عمله الصحافي سنوات طويلة، حيث تتحول الفكرة إلى رواية يلعب فيها الحوار الدور الرئيس، وبهدف أن تكون جسراً يحاول من خلاله الربط بين ضفتين: القديم والجديد، الماضي والحاضر. وبين حياتين: الغربة والوطن. وينجز ذلك من خلال كتابة هادئة ورصينة، وبلغة تقترب في أحايين كثيرة من تخوم الشعر.

الكتابُ الثاني يحتوي على مقالات كتبها الكاتب في فترات مختلفة، تتناول موضوعات متنوعة وشائقة، لعل أكثرها لفتاً للاهتمام مقالته الساخرة عن اضمحلال أهمية القلم في حياتنا بعد أن اقتحمها ظافراً جهاز الحاسوب، ويقدم فيها متحسّراً استعراضاً تاريخياً يذكّر بأمجاد مسيرة القلم، ودوره في بناء وتشييد الحضارة الإنسانية.


لهفي على ما يُقاسيه رفاق مهنتي في مدينة غزّة المنكوبة

المقابر الجماعية تروي فضاعات الحرب
المقابر الجماعية تروي فضاعات الحرب
TT

لهفي على ما يُقاسيه رفاق مهنتي في مدينة غزّة المنكوبة

المقابر الجماعية تروي فضاعات الحرب
المقابر الجماعية تروي فضاعات الحرب

يعرض التاريخُ علينا نفسه في كلّ حقبة مثل لوحة سرياليّة، تصوّر قفصاً من الدم والعظام والبارود والصديد، تقطعه خطوط برّاقة بنفسجيّة وطويلة. يدور الزمان دورته، واللوحة ذات اللوحة، وقد تغيّر اسم وتوقيع الفنّان. أخطأ إذن من قال إن التاريخ يعود مرّة بصورة ملهاة، ومرّة يكون مأساة. هناك من لا يريد للدماء أن تتوقف عن الجريان على أرض كوكبنا، فهو يرى في هذا المشهد ما يثير شهيّته إلى الضحك والهزل.

اسم الطفلة «نغم»، تبلغ الرّابعة، وكانت ترقد في صالة العمليّات لأن قذيفة بترت إحدى ساقيها، أطلقها الجيش القادم من بغداد ضدّ ثوّار الانتفاضة الربيعيّة - أنا أدعوها ثورة التسعين - التي جرت أحداثها بعد حرب تحرير الكويت. كانت إحدى وحدات الحرس الجمهوري تقوم بهجومها الأشدّ على مدينة العمارة، مدينتي، والوقتُ تجاوز أذان العصر بقليل، وكنتُ أجري تداخلاً جراحيّاً لإعادة الحياة إلى ساق الطفلة، أو إلى قسم منها على الأقل. وفي تلك اللّحظة اهتزّ مبنى المشفى، ثم ارتجّت الأرض ثانية، وكان صفير القذيفة التالية يهدر في المكان. ارتميتُ، ومعي طبيب التّخدير والمساعدان على الأرض، واستمرّ القصف على المبنى زمناً أفاقت الطّفلة في أثنائه من تأثير البنج، وكان صوتها الواهن يدعونا إلى النجدة. لكن الوقوف على القدمين يعني القتل برصاص القنّاصين من الجيش. ببطء شديد قمنا بسحب البساط الجلديّ، حيث ترقد الطّفلة على سرير صالة العمليّات، وجرت دماؤها القليلة على البلاط، واستقرّت أخيراً بيننا، ونحن منبطحون على الأرض، وكانت عيناها السّوداوان ثقيلتين بألم لا يسمّى ولا يُعرف.

ما العمل؟ يجب أن يعمل المبضع الآن، وإلاّ فالنّزف لا يمكن إيقافه. كانت الطّفلة تتجرّع الآلام لأنها أفاقت من التخدير، وأدوات الجراحة تعمل في ساقها المعطوبة، الرقيقة العود، وفي الأثناء كانت تدور في أنحاء المشفى معركة بين جنود الحرس الجمهوري وثوّار الانتفاضة. الطفلة تئن وتنتحب، والدم يطفر من عروقها، وتقاوم الموت الرّهيب بآهة واهنة، وفي نبرتها حزن الأصوات التي تؤكد الموت، وتريد إقراراً أنّ لا شيء على قيد الحياة بقي موجوداً.

روت أمّ نغم لنا حماقة جدّ البنت الذي بعثها لتبتاع علبة سجائر بينما كانت دبّابات الحرس الجمهوري تتأهّب لاقتحام المدينة. أما أبوها فكان جنديّاً في فرقة عسكرية في الصّحراء، لم يبلغها أمر انسحاب الجيش من القيادة العسكريّة، فبقيت تقاتل إلى أن أبيدت على يد جنود شوارتسكوف (قائد قوات التحالف في حرب تحرير الكويت). لقد تعاون على أهل مدينتي الجيشُ العراقي وجنودُ قوات التحالف القادمون من 32 دولة. أيّ خلطة تاريخيّة سرياليّة مرّت على طفلتي في ذلك الزمن: أبوها يدافع عن صدّام حسين ضدّ الأمريكان، وجيش صدّام يقوم بقصف مدينة الأب، ويتسبّب في موت ابنته. التاريخ إذن لوحة سرياليّة بامتياز، والفنّ السوريالي فنّ واقعيّ بإمعان وإجادة، لأن فيه ترسيماً كاملاً للظلم واللاعدالة التي تسود الأرض. إن قطرة من القهر ليست كافية لتشويه صورة مدينة صغيرة مثل العمارة، وإنما لتشويه العالم بأسره، والحال نفسه يدور في مدينة غزّة هذه الأيّام. قصّة الطفلة نغم تعود في هذه البلدة، التي يدوسها الجيش الإسرائيلي بحجّة الدفاع عن النفس، واللوحة السرياليّة تُرسم من جديد، وخلطة التاريخ تحدث ثانية، فهناك عرب من البدو والدروز يقاتلون مع الجيش الإسرائيلي ضدّ المقاومين الثائرين الذين ينتمون إلى «حماس»، وهم أقرباؤهم، أبناء العمّ أو العمّة والخال والخالة. وتتكرّر حكاية العذاب في مدينة غزّة، في كلّ دقيقة وثانية، وهناك من يُقاسي من الأطبّاء مثلما قاسيتُ في المشفى. إنهم يجرون العمليّات دون تخدير على الأطفال، فأيّ ألم يستقرّ في أعماق الاثنين، الطبيب والطفل الجريح، إلى النهاية!؟

يُقال إن الحياة لحظة واحدة، حين يكتشف المرء، مرة واحدة وإلى الأبد، من يكون. مثلما يمكن اختصار الشجرة بإحدى أوراقها، لأنها تحمل جميع صفاتها، وحركة أغصانها مع الريح، والقوة الكامنة في الجذور، كذلك يمكن اختصار سنين عمر الإنسان إلى لحظة واحدة، يلمس في أعماقها كلّ حياته. كيفما تكن ورقة شجرتك تكن لحظتك. لكن هناك من لا تظهر له ذاته إلا في ما وراء النوم والحلم، أو بعد الموت، ولربما ولا حتّى في ذلك الحين. يحصل هذا الأمر عندما تكون حياة المرء بلا شكل ولا معنى.

من طلائع سعدك إذن أن تتعرّف على لحظتك، وأن تكون هذه سلماً أبديّاً، لأن هناك من تكون لحظته هلعاً أبديّاً. يمكن للطبيب في ساعة عذاب تقاسيه طفلة على سرير الفحص أن يكتشف هذه اللحظة، فيكون أباً لها، ويرى عندها جميع أطفال العالم أبناءه، فهو يعمل ويعيش من أجلهم، ومن أجلهم فحسب. الذين يدافعون عن الحياة ولدوا تحت طالع حسن، لأنهم رحماء من أجل أنفسهم، ولا يمكن أن يُضاف إلى حظّهم الطيّب شيء أكثر من ذلك، والذين يحاولون اليوم محو مدينة غزّة بواسطة البارود والدم، لا تنتهي من وجودهم حالة الذعر الدائم، فينكمشون بعيداً في الزوايا المظلمة طوال حياتهم، حدّ أن الأشياء التي تلمع في نور الشمس الساطع تبدو لهم غائمة في غشاوة سوداء. لهفي على ما يُقاسيه رفاق مهنتي في مدينة غزّة المنكوبة، وهم يرون أطفالهم يموتون من العذابات بين أيديهم، دون أن يستطيعوا تقديم العون.

أعود إلى قصّتي مع نغم. وشلت دماؤها على أرض صالة العمليّات حتى آخر قطرة. في الأخير رحتُ أصغي إلى صوت الروح عندما تغادرنا، وتستقرّ في الأبد، ورأيتُ البنفسج والعجين الأبيض والوجنات الحريريّة، وكانت تصلني موسيقى طبل ومزمار حماسيّة، وأخذني الخيال إلى مكان بعيد ثم تركني وحيداً مع جثّة طفلتي. كنت ألمس لحيتي بين حين وآخر كي أتأكّد أنها في مكانها، وظلّت القذائف تنزل علينا إلى آخر النهار، ورشقات بنادق الكلاشنكوف تسكت، ثم تصلنا متفرّقة.

 

يمكن للطبيب في ساعة عذاب تقاسيه طفلة على سرير الفحص أن يكتشف هذه اللحظة فيكون أباً لها ويرى عندها جميع أطفال العالم أبنائه

احتلّ جنود الحرس الجمهوريّ المكان بعد أن كسبوا المعركة ضدّ الثوّار، ونصبوا مدافع الهاون في ساحة المشفى لقصف المدينة، ثم قاموا بصولة وأخذوا يقتلون الجميع ويرمونهم في النهر. وجاءتنا الأخبار أن الطائرات ألقت منشورات تهدّد، في حالة عدم استسلام الثوّار في داخل المدينة، باستعمال السلاح الكيمياوي، وفي ذلك الوقت كانت قصّة مدينة حلبجة قريبة، ويعلم بها الجميع. أيّ قدر كُتِبَ على مدينة يقوم جيشها بالاعتداء عليها بواسطة المدفعيّة والطائرات؟ هل بتنا نترحّم على العثمانيّين وقرونهم الأربعة المظلمة؟ وهل كان هولاكو أكثر رأفةً بنا من إخواننا؟ ربما كانت قصّة النّهر الذي صار أحمرَ بالدّماء كابوساً رآه أحد رواة التاريخ سوف يتحقّق ويصير واقعاً في زماننا. حين فارقت الطفلة الحياة، لأنها نزفت كلّ دمها، هبط الليل علينا. الأرض خفيفة والزمان واقف، وكانت بذرة تنشقّ باكراً من أيامها، تحاول معبراً إلى السماء.