نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

مرور 17 عاماً على رحيله

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي
TT

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

نجيب محفوظ بين التشاؤم اللحظي والتفاؤل التاريخي

هل كانت رؤية نجيب محفوظ للوضع الإنساني متفائلة أم متشائمة؟ فلنتأمل هذه العبارة من «ثرثرة فوق النيل» (1966) على لسان إحدى الشخصيات: «إرادة الحياة هي التي تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل، ولو انتحرنا بعقولنا». (الفصل 7). في هذه العبارة يبدو تأثر نجيب محفوظ بالفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الذي خلُص إلى أن الحياة «مشروع لا يغطي نفقاته»، وأن الأمر لو ترك للعقل وحده، لما كانت هناك حجة منطقية واحدة تدفع للتمسك بالحياة. إنما هي «إرادة الحياة» أو الغريزة العمياء المركبة فينا التي «تجعلنا نتشبث بالحياة» بأي ثمن.

لكن هذه اللحظة التشاؤمية لا تدل على موقف فلسفي عام عند محفوظ. العبارة الأصدق في الدلالة على موقفه الفلسفي هي التالية، أيضاً من «ثرثرة فوق النيل»: «تأملوا (...) المسافة التي قطعها الإنسان من الكهف إلى الفضاء!» (الفصل 7). هذه العبارة تكشف عن إيمان محفوظ بالخط البياني الصاعد لتقدم الجنس البشري، وهو الإيمان الذي يستمد منه تفاؤله التاريخي المستقبلي كترياق ضد قتامة الحاضر. فهو القائل: إنك إن نظرت إلى الحاضر في أي لحظة فستجد شتى أنواع المآسي تحيط بك، أما إذا نظرت إلى الحاضر من منظور تاريخي فستجد أن البشرية قد قطعت شوطاً كبيراً في طريق التقدم.

مصداق تفاؤلية نجيب محفوظ لفتني بشدة عندما استغرقت قبل فترة في قراءة عدد هائل من مقالات عموده الأسبوعي في جريدة «الأهرام»، في الفترة من 1982 إلى 1988، وهي الفترة التي تعاصر السنوات المبكرة من حكم حسني مبارك. مقالات تواصلت على مدى 6 سنوات في الفترة الحرجة من تاريخ مصر المعاصر التي أعقبت اغتيال السادات، وتصاعد فيها الإرهاب، واشتدت الأزمة الاقتصادية ضمن تداعيات سياسة الانفتاح الاستهلاكي. كانت الصورة قاتمة تماماً، إلا أنك تجد التفاؤل يقطر من مقالات محفوظ، والروح الإيجابية تنبض بها كلماته أسبوعاً بعد أسبوع. كانت مقالاته على وعي تام بالعيوب، والسلبيات، وإرث الديكتاتورية، والهزائم، والديون، والفقر، وأزمات الحياة اليومية، وضياع الشباب، وتفتت الوحدة الوطنية، وانتشار التعصب، والتفرق العربي، وحروب المنطقة، وتعثر التحول الديمقراطي، إلى آخر القائمة الطويلة، إلا أن روح القنوط لم تتسلل أبداً إلى مقالاته. كان يتجاوز هذا كله مقترحاً الحلول، طالباً العبرة من الماضي، متطلعاً إلى مستقبل أفضل، باثّاً العزيمة والأمل دائماً فيمن يقرأه.

أدهشتني هذه الروح الشابة المتفائلة بغير هوادة، في كاتب شيخ عاصر تراجع النهضة المصرية من أوائل القرن إلى أواخره. إلا أني كنت على وعي بالمفارقة الكبيرة بين كتاباته الصحافية وتلك القصصية. إذا ما تركنا هذه المقالات وعدنا إلى رواياته وقصصه القصيرة من الفترة نفسها، لما وجدنا فيها بارقة أمل. هناك يصدمنا الواقع والإحباط القومي والفردي بكل شراسته.

أي الصورتين نصدق؟ شخصياً أميل إلى تصديق الصورة الفنية. ولكني أكبرت في محفوظ القدرة على التفرقة بين التناول الفني؛ حيث لا مناص من تصوير الوضع البشري في أحلك صوره، وبين التناول اليومي المباشر أمام الجمهور الذي يحتاج حلولاً وأفكاراً تعينه على مواجهة الحياة، ولا تدفع به نحو اليأس الكامل.

صيرورة الزمان وديمومة المكان

فكرة أخرى محورية عند محفوظ، هي الزمن وتحولاته المؤثرة في حياة الفرد والجماعة. في مفتتح «زقاق المدق» (1947) ترد هذه العبارة على لسان المجذوب الشيخ درويش: «ذهب الشاعر وجاء المذياع. هذه سنة الله في خلقه. وقديماً ذُكرت في التاريخ، وهو ما يُسمّى بالإنجليزية history، وتهجيتها h.i.s.t.o.r.y». العبارة تشير لشاعر الربابة الذي كان يُسلّي رواد المقهى حتى جاء اختراع الراديو فأزاحه عن مكانه، وأنهى دوره كشخص وكظاهرة اجتماعية في آنٍ. التاريخ الذي يتهجى لفظته الشيخ درويش هو نفسه الذي يحيل عازف الربابة إلى ظاهرة من الماضي، لا محل لها في عصر المذياع.

هذا الفهم للتاريخ أو الزمن بمعنى أعمّ الذي تقرره الرواية لنا في مبتداها تؤكده في خاتمتها مرة أخرى بهذه العبارة: «وانداحت هذه الفقاعة أيضاً كسوابقها، واستوصى الزقاق بفضيلته الخالدة في النسيان وعدم الاكتراث، وظل كدأبه يبكي صباحاً -إذا عرض له البكاء- ويقهقه ضاحكاً عند المساء. وفيما بين هذا وذاك تصرّ الأبواب والنوافذ وهي تُفتح، ثم تصرّ كرة أخرى وهي تُغلق». (الفصل 35). تصور العبارة عودة الزقاق لحياته الاعتيادية عقب مصرع عباس الحلو، مؤكدة عبوريّة الفرد وديمومة المكان، واستمرار الحياة غير مكترثة بمن يبقى ومن يغادر.

المصادفة والمفارقة

من الأفكار الصميمة عند نجيب محفوظ، فكرة هشاشة المصير الإنساني، واعتماده على المصادفة، على اللحظة العابرة، على تضارب الزمان والمكان. ففرص السعادة قائمة، ولكنه قيام نظري، يخضع للمصادفة التي هي اسم مستعار للقدر. فلنتأمل «الحلم 428» من «الأحلام الأخيرة» الذي يمضي على هذا النحو: «رأيتني أجد المرحومة (ب) تحت شجرة جميز، فقلت لها إني كثيراً ما أراها في أحلام اليقظة والنوم، فماذا فرّق بيننا؟ فقالت لي: تذكر ما حدث في شارع الكورنيش، فقد تبعتني خطوة بخطوة حتى تمنيت أن توجّه لي كلمة فأستجيب لك فوراً. فلما طال انتظاري قررت أن أتغلب على خجلي وأنظر خلفي نحوك، ولكنك أرخيت جفنيك فتولاني اليأس من ناحيتك. فقلت: يا للخسارة، فإن السعادة قد سعت إليّ حتى قد كانت منّي على بعد قيراط، فماذا أعماني عنها؟» (الشروق 2015).

في هذا الحلم، كان إرخاء الجفون في اللحظة الخطأ سبباً لضياع حب العمر. خضوع المصير البشري للمصادفة القادرة على العصف بالجهد البشري في لحظة، هو فكرة محورية عند الكاتب، تتكرر في رواياته وقصصه القصيرة، وتلخصها هذه الخاطرة.

وليس بعيداً من المصادفة في فن نجيب محفوظ، الدور الذي تلعبه أداة أخرى، هي المفارقة، أو الموقف الذي ينطوي على تضاد يبعث على التأمل. ولننظر في هذا التفصيل من رواية «الطريق» (1964). في هذه الرواية تقع جريمة قتل على يد الشخصية الرئيسية، صابر سيد الرحيمي. يقتل صابر صاحب الفندق العجوز الذي يقطن به، والذي يقف حائلاً بينه وبين امتلاك زوجته الشابة التي أقام معها علاقة سرية. يهمني هنا فقط أداة الجريمة التي يحددها محفوظ بدقة متناهية. هي قضيب من الحديد كان في الأصل «رِجل كرسي ولادة أثري»، تشتريه كريمة، الزوجة المشتركة في الجريمة، من إحدى أسواق البضائع المستعملة. لماذا يحرص محفوظ على تحديد مصدر القضيب الحديدي؟ لأنه كان مغرماً بالمفارقات. أداة الموت تأتي من كرسي ولادة قديم. هذا الكرسي الذي كان أداة حياة شهدت ولادة الآلاف، صار الآن مكلّفاً بمهمة عكسية. صار مكلّفاً بسفك الدماء. بالقتل والإماتة. مفارقة تعب محفوظ في العثور عليها. كان من الممكن أن تكون أداة القتل سكيناً، أو ساطوراً، أو شاكوشاً، أو هراوة غليظة، أو، أو... إلا أن محفوظ ترك هذا كله وسعى إلى قضيب حديدي، ثم سعى إلى مصدره، فجعله رجل كرسي ولادة. مجرد تفصيل صغير، إلا أنه يظهر كيف أن الكتابة فعل عمدي. إنه عند الكاتب العظيم لا تفصيل من دون قصد. كل كلمة في محلها، وكل صورة لها وظيفة تسهم بها في الصرح الكبير الذي هو الرواية. قد يعبر القارئ المتعجل مثل هذا التفصيل، فلا يرى ما وراءه، أما القارئ المتمهل، فستصدمه المفارقة وتدعوه للتأمل في مفارقات الحياة، في سخرية الأقدار، في تداخل الحياة والموت، في حيادية الأشياء أمام قصد الإنسان: الكرسي يؤدي ما يريده منه الإنسان وإن تضادت المهام الموكلة إليه: تريدني أن أُعِين امرأة على الولادة، أو تريدني أن أهشم رأس رجل حتى الموت، سمعاً وطاعة، ما أنا إلا جماد في يد إنسان.

خضوع المصير البشري للمصادفة القادرة على العصف بالجهد البشري في لحظة هو فكرة محورية عند محفوظ

الموت

في الستينات من القرن الماضي انشغل محفوظ بالقضايا الوجودية الكبرى: الله والإنسان، الحياة والموت، المعنى والعبث، الفرد والسُّلطة... إلخ. من تلك الفترة تأتي قصة «ضد مجهول» في مجموعة «دنيا الله» (1963). في تلك القصة يبدو واضحاً انشغال محفوظ بهاجس الموت. هو بالطبع هاجس متواتر في أعماله كلها، إلا أن عدداً لافتاً للنظر من قصص هذه المجموعة منشغل بمسألة الموت انشغالاً فلسفياً متأملاً محتاراً متسائلاً. قصة «ضد مجهول» تتتبع تحقيقاً جنائياً في سلسلة جرائم تُرتكب بالأسلوب نفسه في كل مرة، ومن دون دافع للجريمة، ومن دون أن يترك المجرم أي أثر يمكن أن يؤدي إليه. كما أن القاتل يُنوّع في قتلاه، فلا ينجو منه رجل أو امرأة، طفل أو بالغ، شاب أو شيخ، صحيح أو مريض، غني أو فقير، متسول شريد أو ساكن قصور، حاكم أو محكوم. ينقلب البلد رأساً على عقب، ولا يصبح لأجهزة الدولة ولا لأجهزة الإعلام من شاغل إلا هذا المجرم الطليق الذي يواصل جرائمه بلا رادع ولا هدف إلا القتل في ذاته، وبلا أمل في القبض عليه أو إيقافه. يعيش الناس في رعب مقيم ليل نهار، لا حديث لهم إلا القاتل الخفي وجرائمه، لا يدرون من يكون الضحية التالية لذلك المجرم الطاغية الذي تُسجّل كل جرائمه «ضد مجهول».

القصة رمزية، وتعمل على مستويين -كما الحال في كثير من أعمال محفوظ- أحدهما واقعي سطحي، والآخر رمزي دفين. على المستوى الرمزي في هذه القصة الرائعة ليس القاتل المجهول العصي على الاكتشاف إلا الموت نفسه.

* أستاذ فخري في جامعة «إكستر» بالمملكة المتحدة.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون دانيال دينيكولا

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب