مجسمات حيوانية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ

وجدت في «المقر» جنوب غربي نجد

مجسمات حيوانية وخنجر حجري من موقع المقر في إقليم نجد
مجسمات حيوانية وخنجر حجري من موقع المقر في إقليم نجد
TT

مجسمات حيوانية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ

مجسمات حيوانية وخنجر حجري من موقع المقر في إقليم نجد
مجسمات حيوانية وخنجر حجري من موقع المقر في إقليم نجد

من موقع مقفر يقع في جنوب غرب إقليم نجد، ويُعرف باسم «المقر»، خرجت مجموعة من المكتشفات الثرية تعود إلى المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ. تحوي هذه المجموعة مجسمات حيوانية عدة، أكبرها حجماً منحوتة تمثّل كما يبدو حيواناً من الفصيلة الخيلية، أثارت عند عرضها سجالاً لا يزال مفتوحاً.

تقع منطقة «المقر» بين محافظة تثليث ومحافظة وادي الدواسر، وتبعد عن مركز القيرة التابع لمحافظة تثليث قرابة 40 كيلومتراً. في هذه المنطقة المقفرة، عثر مواطن سعودي على بضع مواد أثرية، وسارع مواطن آخر إلى نقل خبر هذا الاكتشاف إلى السلطات الرسمية في الرياض، فشرعت «الهيئة العامة للسياحة والآثار» في استكشاف الموقع في مارس (آذار) 2010، وأعلنت رسمياً نتيجة هذا المسح في أغسطس (آب) 2011. تبيّن سريعاً أن هذا الموقع المقفر يعود إلى عصر سبق انتشار التصحر في المنطقة، وقد استقرّ به قوم من السكان يوم كان يخرقه نهر ينتهي بشلال ضخم.

على الضفة الجنوبية لهذا النهر، تظهر أطلال بناء في وسط الموقع، وفوق تكوين جبلي عند الطرف الشرقي، هي بقايا حصن مبني من الحجارة، يضمّ حجرات مربعة. تجاور هذا الحصن كهوف جعل منها سكان الموقع مقابر لموتاهم، كما تشهد الهياكل العظمية البشرية التي عُثر عليها فيها، اللافت أن بعض هذه الهياكل العظمية كان مغطّى بطبقة من الطين والقش للحفاظ على تماسكها. عمدت الهيئة المشرفة على إجراء الفحص على أربع عينات عضوية من هذه العظام، واتّضح أن تاريخها يتراوح ما بين 8110 إلى 7900 سنة قبل زمننا، وشكّلت نتيجة هذا الفحص العلمي أساساً لتأريخ الموقع.

من بين أطلال «المقر»، خرجت مجموعة من اللقى الأثرية تجاوز عددها الثمانين قطعة، شملت أدوات حجرية وخنجرين ورؤوس سهام، غير أن القطع الأكثر إثارةً تمثّلت في مجموعة من المجسمات الحيوانية، صُنعت من الصخر الذي لا يزال متوفّراً في هذا الموقع. حسب التقرير الخاص باستكشاف الموقع، كانت هذه التماثيل مثبّتة في البناء الذي يتوسط الموقع، عند الضفة الجنوبية للنهر، وتحديد وظيفتها مستحيل، إذ إنها تعود إلى زمن ما قبل الكتابة، وتنتمي إلى ثقافة مجهولة يكتنفها الغموض. أنجزت هذه التماثيل بأسلوب يغلب عليه طابع التحوير والاختزال، وهي فقدت الكثير من سماتها، ولا يسمح ما بقي منها بتحديد هويّتها بشكل قاطع. هذه المجسّمات ليست فريدة من نوعها، فهي تماثل نقوشاً عُثر عليها في بقاع أخرى من العالم الشرقي القديم، منها على سبيل المثل تلك التي خرجت من موقع يُعرف باسم «غوبيكلي تيبي»، على أعلى قمة في جنوب شرق مدينة شانلي أورفا في تركيا، عند ذروة «الهلال الخصيب». يُعد هذا الموقع «أقدم معبد في العالم» أنشئ في زمن سبق التدوين وبداية التاريخ، وتحوي نقوشه أشكالاً حيوانية متعددة، منها الأسد والثور والغزال والخنزير والثعلب، إضافة إلى طائفة من الطيور والزواحف.

تتعدّد أحجام تماثيل «المقر»، وأكبرها يقارب طوله 100 سنتمتر، ويمثّل حيواناً من الفصيلة الخيلية، بقي جزءٌ من رأسه وجزءٌ من صدره. إلى جانب هذا التمثال، تحضر قطع يمثّل كل منها حيواناً من الحيوانات، بينها قطعة بدت على هيئة كلب سلوقي، وقطعة على هيئة رأس نعامة، وقطعة على شكل رأس نعجة. قيل إن أكبر هذا التماثيل يُمثّل حصاناً، كما يشهد اللجام الملتف حول رأسه، وقيل إن هذا اللجام يشكّل دليلاً على استئناس سكان هذا الموقع بالخيل في تلك الفترة من التاريخ الموغل في القدم، غير أن هذا التأويل يصطدم بمقولة تاريخية معروفة تجزم بأن الخيل لم تدخل جزيرة العرب إلا في مرحلة متأخرة.

أشار جواد علي إلى هذه المقولة في «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، حيث كتب في الفصل الخامس: «وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها، فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير. قيل إنها وردت إليها من العراق، ومن بلاد الشام، أو من مصر، وإن وطنها الأصلي الأول هو منطقة بحر قزوين. ولهذا لا نجد في الكتابات الأشورية، أو في (العهد القديم) أو في المؤلفات (الكلاسيكية) إشارات إلى تربية الخيل في جزيرة العرب، أو استعمال العرب لها في حلهم وترحالهم وفي حروبهم. وقد بقي العرب إلى ما بعد الميلاد، بل إلى ظهور الإسلام، لا يملكون عدداً كبيراً من الخيل».

في عام 2017، نشر العالم الفرنسي كريستيان جوليان روبان في مجلة «إنسانيات عربية» بحثاً أكاديمياً مطوّلاً تناول هذا الموضوع في مجمل أوجهه، وشكّل هذا البحث مراجعة شاملة وتكملة لبحث أنجزه العالم البلجيكي جاك ريكمان في 1963. في الخلاصة، أثبت ريكمان أن الشواهد الكتابية والفنية تشير إلى أن ظهور الخيل في جزيرة العرب يعود إلى القرن الأول من العصر المسيحي، وأثبت روبان أن الشواهد المماثلة التي ظهرت منذ الستينات إلى اليوم لا تخالف هذه الفرضية، ورأى أن هذه الشواهد لا تنفي بشكل مؤكّد دخول الخيل إلى هذه النواحي خلال فترات سابقة شهدت سلسلة من المحاولات المخفقة، فقد دخلت الخيل الشرق الأوسط منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، واحتلت دوراً كبيراً في الميدان العسكري منذ الألفية الثانية، والأرجح أن أسياد الجزيرة سعوا إلى اقتناء الخيل وتربيتها على غرار جيرانهم، غير أنهم أخفقوا في ذلك، كما يُستدل من حديث العالم الجغرافي اسطرابون عن بلاد الأنباط «التي لا تُنتج خيلاً»، وتستخدم الجمال، «بدلاً عن الخيل».

خارج هذا السجال، وأبعد منه، تشكّل منحوتات «المقر» قيمة أثرية استثنائية، نظراً إلى قدمها التاريخي. من «رملة السبعتين»، ومن «وادي حَرِيْب» في شمال اليمن، خرجت آثار تعود كذلك إلى المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ، غير أن هذه الآثار خلت من قطع نحتية تماثل تلك التي خرجت من «المقر». من هنا، تبرز قيمة هذه المجسمات، وتحتل موقعاً رئيسياً في ميدان جزيرة العرب الأثري الذي لا يزال يخفي الكثير من كنوزه تحت رمال صحرائه الشاسعة.


مقالات ذات صلة

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)
يوميات الشرق إطلالة على مدينة طرابلس اللبنانية من أعلى قلعتها الأثرية (الشرق الأوسط)

«جارة القلعة» تروي حكاية طرابلس ذات الألقاب البرّاقة والواقع الباهت

لا يعرف معظم أهالي طرابلس أنها اختيرت عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، لكنهم يحفظون عنها لقب «المدينة الأفقر على حوض المتوسط».

كريستين حبيب (طرابلس)
شمال افريقيا مبنى المتحف القومي السوداني في الخرطوم (متداول)

الحكومة السودانية تقود جهوداً لاستعادة آثارها المنهوبة

الحكومة السودانية عملت على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية وتأمين 76 موقعاً وصرحاً أثرياً تاريخياً في ولايات نهر النيل والشمالية، وجزء من ولاية الخرطوم.

وجدان طلحة (بورتسودان)
يوميات الشرق من أعمال التنقيب في موقع زبالا التاريخي المهمّ على درب زبيدة (واس)

السعودية... آمالٌ تُفعّلها المساعي لالتحاق مواقع بقائمة التراث العالمي

العمل قائم على تسجيل مواقع جديدة في القائمة الدولية للتراث العالمي، من أهمها دروب الحج القديمة، لا سيما درب زبيدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى تشمل الأنظمة المائية.

عمر البدوي (الرياض)

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة
TT

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

صدر حديثاً عن «دار غيداء للنشر والتوزيع» في عمان بالأردن كتاب «قصيدة النثر العابرة دراسة في مطولات منصف الوهايبي وقصائد أخر» للدكتورة نادية هناوي. وهو الثاني والثلاثون في عديد الكتب المنشورة لها. واشتمل الكتاب الجديد على ثلاثة فصول تدور حول المطولات الشعرية عند الشاعر التونسي منصف الوهايبي. يحمل الفصل الأول عنوان «العبور: من التجسير إلى الاجتياز»، وفيه ثلاثة مباحث، تناولت فيها المؤلفة ممكنات قصيدة النثر من ناحية القابلية على العبور، ووصفية فاعلية العبور وصنفية قصيدة النثر ودوامية تعابرها.

واهتم الفصل الثاني بـ«موجبات العبور في مطولات منصف الوهايبي»، وفيه خمسة مباحث تدور حول موجبات العبور الأجناسي. أما الفصل الثالث فيحمل عنوان «ميزات قصيدة النثر العابرة: مقاربة بين مطولتين»، وفيه عرضت المؤلفة نقاط التلاقي والاختلاف في عبور قصيدة النثر، ومثلت على ذلك بمطولتين شعريتين: الأولى هي «الفصل الخامس» للشاعر عبد الرحمن طهمازي، والأخرى هي «نيابوليس (نابل) - لنذبوشة (لمبدوزا)» للشاعر منصف الوهايبي.

وينتهي الكتاب بخاتمة هي حصيلة استنتاجية تؤشر على ما لعبور قصيدة النثر من آفاق فنية ودلائل يضمنها فضاؤها الأجناسي العابر على سائر أجناس الشعر وأنواعه. ويأتي بعد الخاتمة ملحق قدمت فيه المؤلفة منظورها النقدي في ثلاث قصائد لشعراء عراقيين هم عبد الرحمن طهمازي وياسين طه حافظ وموفق محمد.

ومن مطولات الشاعر منصف الوهايبي المدروسة في هذا الكتاب «بدر شاكر السياب: ما زال يهطل في قصيدته المطر» و«شارع بول فاليري. سيت. صيف. 2011» و«قيروان: لوحة الأحد الكبيرة» و«الفينيقيون: رسوم لم يحلم بها بانويل» وغيرها.

عن مفهوم العبور الأجناسي في قالب قصيدة النثر، تذهب المؤلفة إلى أنه «ليس من عادة التراكيب أن تستجد أو تتوالد إلا بترابط يساعد على ابتكارها؛ إما بإعادة صنعها، وأما بتنمية تشكلها باستمرار وبتجديد يتماهى فيه القديم بالضعيف والمتهاوي بالسطحي فتغدو التراكيب المبتكرة أقوى شكلاً وأصلب بنية وأعمق دلالة. وبهذا يكون العبور ناجزاً بالانبثاق من الترابطات التي ساهمت في إعادة تقنين الفضاء الكتابي بين المعبور عليه والعابر». وتضيف أن الترابط تأسيس تقاني وصورته تحويلية، وفيها تنعكس تأثيراته النوعية، مشتملة على مستويات وعلاقات ذات مفاصل ومجسات تدخل بمجموعها في عمليات صناعة القالب العابر.

وعن الشروط التي يستدعيها العبور، تقول إن «الاستجابة لمستلزمات التطور الأدبي في بعديه الشكلي والموضوعي واتساع واطراد هذه الاستجابة، له دور مهم في توثيق صلات الأجناس الأدبية بسلسلة متشابكة من المشتركات التي تجعلها في مجموعات وكل مجموعة تؤلف نوعاً من الأنواع الأدبية، وتتألف كل مجموعة من فصائل ورُتب شبيهة بما في أجناس الكائنات الحية من روابط فتتشعب عبرها فصائلها بشكل عضوي وبحسب ما لها من صلات طوبوغرافية ووظائفية، تمنحها قدرات أكبر على الاستمرار والنماء».