قوس قزح كحلي فوق رام الله

قوس قزح كحلي فوق رام الله
TT

قوس قزح كحلي فوق رام الله

قوس قزح كحلي فوق رام الله

حُزني كالطوفانِ

بعدَ أن رحلَ أُستاذي ومُعلِّمي.

مثلَ نيزكٍ

احترقَ

وهوى شقيقي الأكبر.

رحلَ الفارِسُ

وتركَ بكراتٍ من خُيوطِ

الأحلامِ مفكوكةً على الأرض.

نثراتٌ من خشبِ

الأكاليلِ مُسجّاةٌ على الترابِ

جفَّتْ عليها الزنابقُ

واستحالَتْ دموعاً من حَجَر.

حُزن الفراقِ كبير

قاموسٌ

لا تنفَدُ كلماتُهُ

أو حروفُه.

ها إنَّ أنكيدو يرحلُ

تاركاً شعباً من جلجامش

مُخلِّفاً أرضاً عَطشى

على شاطئِ البحرِ المالح.

لَكَأَنَّ أوزريس

نسِيَ ارتداءَ لِباسِ الموتِ

وهُوَ مُقْلِعٌ

في مركبةِ هادس.

أُمُّهُ تسألُ عن حياةٍ مرَّتْ سريعاً

عن رُفاتٍ،

لم تصلْ إلى أُوتيكا بعد.

وهنا،

بدأوا يطوبون

أنفُسَهُم رغماً عن طرواةِ القبر

وجهلِ التراب،

ناسينَ أنَّهُمْ في الأصلِ

ليسوا إلا ذرّةً مِن غُبار.

أتساءلُ كيف سيرمد القذى

أعيُنَنا

في غيابِ فرحِ حُضورِك.

أتساءلُ إنْ كانَ لمائدتِنا

أنْ تَشْطُرَ نفسَها

بعدَ أنِ انثنى بعيداً

ضيفُها الوحيد.

وأتعجَّبُ إنْ كان سيَمُرُّ

العيدُ علينا

مُبهِجاً

كما كانَ يوماً

في انتظارِ قُدومِهِ إلينا.

لا أعرفُ لِمَ نسيتُ أن أُخبِرَهُ قبلَ الرحيلِ

عن أقواسِ قزحِ حياتِنا مرسومةً

بضوءِ السماءِ

في عزِّ الليل،

عن ثقوب الغسقِ

واليأسِ الكاسرِ

في وَضَحِ النهار.

لم أُخبرْهُ، يا ليتني فعلت،

عن امتناني

لشجاعاتٍ عديدةٍ زوَّدني

بها،

وكنتُ أظُنُّ أنها بَدَهِيّة.

لم أحمِلْ كلماتِ الشُّكرِ

زاداً في الحَلْقِ

أو ورداً شغفتُ به منذ الطفولة

كي أُثنِيَ عليهِ

حينما دلَّل الابنَ وحَنَا عليهِ مثلَ خالٍ عتيق.

كلُّ الهدايا منهُ،

كلُّ شيءٍ كان بدَهِيّاً

مثلَ قوسِ قُزَحٍ

يُطِلُّ صُدفةً

إثرَ مطرٍ هائم.

القهوةُ الشذيّةُ التي كان يُغَلِّفُها

عرفانَ الهدوءِ

حينما نكونُ قد أَرسَيْنا المجاذيفَ عنده.

نبرةُ الترحيبِ

حينما يسمعُ أصواتَنا

نحن اللاجئين الجائعين

إلى شمسِ السكينة.

مرآةُ الخشبِ الروميِّ العتيقِ

مُعتَّقَةً بماءِ الورد

وأصدافُ حرمون

تُطِلُّ علينا بعيونٍ واسعةٍ

حافلةٍ بالحنين.

في حضرةِ رُوحِهِ

أصيرُ نفْسي

بِلَونٍ واضحٍ

دونَ النسخةِ السالبة.

يُطِلُّ رُخامُهُ من هضبةٍ

كمثلثٍ فِضِّيٍّ

تُحيطُها دائرةٌ مِن حديد.

هناك يرقدُ أنكيدو بعد أنْ

خلف أُور القاسيةَ

على جَرفِ جبل.

الصقورُ تتنادى حول

ترابِه،

الأشجار تترمَّدُ فَرَقاً

لرحيله.

النساء يبكينَ ابنهُنّ،

الفتيات يَرثينَ مثالَ الحبيبِ،

والرجالُ

هم أوَّلُ مَنْ نقصوا

حلماً.

ألم يُخبرْنا يوماً

بأنَّهُ الريحُ إن حَطَّت

على قَلَقٍ؟

فهل سيعرفُ أنَّ قُلوبَنا

لن تهدأَ يوماً

بعدَ غيابِ نسيمِ الروحِ فينا؟!

لم تكن يوماً حياةً كاملةً

ولن تكون.

نجوم حارَّةٌ، وأُخرى باردة

نيازكُ تهوي

وأُخرى تدوم.

وظلماتُ ليلٍ لم يَكُفَّ

عن فرضِ نفسِه.

وقيودٌ وسجونٌ

لا تني تمتدُّ حيناً بعدَ حين.

فكيفَ نحيا دون حلمٍ

بعد أن أضعنا

بيت البحر في كريت؟

منذُ غيابِهِ صِرنا نَعجَبُ

كيفَ أنَّا احتمَلْنا

أيامَنا قبلاً.

فلا تترُكْنا يا صديقَنا وحيدِينَ

على التلةِ

معَ حصانِ الريحِ

وعُشبِ الأمس.

لا تبتعِدْ عنّا

لا تغِبْ

يا صديقَنا الوحيد.

Ode

المائدة

كانت المائدةُ جاهزةً

الصحونُ مُصطَفَّةٌ كزنابِقَ بيضاء

والمغارفُ غصونُ شَجَر

والشَّرشفُ كُحليٌّ بِلَونِ البحر

والكؤوسُ تطفحُ بماءِ شقائقِ النعمان

وكلُّ شيءٍ يُرحِّبُ بالقادمينَ

إلى عامٍ جديد.

الطعامُ كانَ يستظِلُّ فيءَ الغُرَف

والمواعينُ تُغَنّي

وترقصُ تحت ندى شجرِ الصنوبر.

والشوكةُ الكبيرةُ

مُعَدَّةٌ لاصطيادِ السمكِ في الوسط.

الكريستال كان يلهثُ شوقاً

كي تنحدرَ إليهِ شفاهُنا

لأوَّلِ مرةٍ بعدَ الاحتفال.

كانَ المساءُ يقرعُ طُبولَهُ

ونحن نتهيَّأ حولَ طاولةٍ

يُرفرفُ فوقها فرخا حمامٍ بريٍّ

تحتَ سماءٍ رماديةِ الدفء.

وكان الصديقُ الذي غابَ طويلاً هناك،

يا لَلفرح!

فدعَوناه إلى المائدة.

إلا أنه بِوُدِّهِ القديمِ

وبأُلفةِ صاحبِ الدار قال:

Happy!

فقط، دون أن يُكمل العبارة..

ثم مضى مثلَ ريحٍ هائمة.

بعدها بلحظةٍ

عرفنا أنه لم يعُدْ معنا..

كان قد عبرَ إلى الجهةِ الأُخرى

من العالم.

والشَّرشفُ كُحليٌّ بِلَونِ البحر

والكؤوسُ تطفحُ بماءِ شقائقِ النعمان

وكلُّ شيءٍ يُرحِّبُ بالقادمينَ

إلى عامٍ جديد.

الطعامُ كانَ يستظِلُّ فيءَ الغُرَف

والمواعينُ تُغَنّي

وترقصُ تحت ندى شجرِ الصنوبر.

والشوكةُ الكبيرةُ

مُعَدَّةٌ لاصطيادِ السمكِ في الوسط.

الكريستال كان يلهثُ شوقاً

كي تنحدرَ إليهِ شفاهُنا

لأوَّلِ مرةٍ بعدَ الاحتفال.

كانَ المساءُ يقرعُ طُبولَهُ

ونحن نتهيَّأ حولَ طاولةٍ

يُرفرفُ فوقها فرخا حمامٍ بريٍّ

تحتَ سماءٍ رماديةِ الدفء.

وكان الصديقُ الذي غابَ طويلاً هناك،

يا لَلفرح!

فدعَوناه إلى المائدة.

إلا أنه بِوُدِّهِ القديمِ

وبأُلفةِ صاحبِ الدار قال:

Happy!

فقط، دون أن يُكمل العبارة..

ثم مضى مثلَ ريحٍ هائمة.

بعدها بلحظةٍ

عرفنا أنه لم يعُدْ معنا..

كان قد عبرَ إلى الجهةِ الأُخرى

من العالم.

* كاتبة فلسطينية، والقصيدتان

من كتاب شعري قيد الإعداد

بعنوان «سيرة الزهر»


مقالات ذات صلة

السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

يوميات الشرق يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)

السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

تحتفي وزارة الثقافة السعودية بنظيرتها العراقية في النسخة الثانية من مهرجان «بين ثقافتين» خلال الفترة من 18 إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!