العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة

البشر أدمنوا عليها فأصبحت أول ما يبتدئون به نهاراتهم وآخر ما ينهونها به

العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة
TT

العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة

العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة

خلال أقل من 24 ساعة على إطلاق تطبيق «ثريدز» الجديد المنافس لـ«تويتر» التحق به ثلاثون مليون مشترك يعتقد أن غالبيتهم الساحقة من مشتركي تطبيق «تويتر» أصلاً. وتطمح شركة «ميتا»؛ صاحبة التطبيقات الشهيرة «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب»، إلى إزاحة تطبيق «تويتر» عن عرشه الذي بقي عليه دون منافس جديّ بعدد مشتركين يصل اليوم إلى نحو 370 مليوناً.

ولعّل اللافت في هذا الإقبال الهائل أن التطبيق الجديد لا يقدّم أي ميزات نوعيّة عن تطبيق «تويتر»، فيبدو كأنه نسخة مقلدّة من موقع التغريد الأزرق، ولا يمنح مشتركيه منصّة أقل انحيازاً بحكم خبرتنا الطويلة مع «فيسبوك» الذي يماثل؛ إن لم يفق، «تويتر» في الفجاجة في مصادرة الآراء؛ بل والصور أحياناً، كما أن أحداً لم يترك «تويتر» فيما يبدو ليلتحق بـ«ثريدز»؛ بل استمر التطبيقان؛ كل إلى جوار الآخر، على الأجهزة الذكيّة لملايين البشر. ولذلك يحق لنا التساؤل عن دافع هذه الملايين لإضافة «تويتر» آخر جديداً إلى جانب «تويتر» الأصلي؟ لقد أحدث ظهور الإنترنت وما لحق بها من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي ثورة معرفيّة عبر تعميم وسائل استعادة المعلومات إلى أعداد غير مسبوقة في التاريخ البشري وتسهيل صيغ التواصل فيما بينهم؛ الأمر الذي دفع ببعض المتفائلين منا لتوقع قيام «يوتوبيا رقميّة»، تعوض أحلامهم المنكسرة بعدما تعثرت كل المحاولات لتأسيس «يوتوبيات ماديّة» على الأرض، فتكون بمنزلة فضاء معولم للحريّة والمساواة. لكن هذه التوقعات الساذجة لم تلبث - خلال وقت قصير لا يتجاوز عمر جيل أو جيلين - أن تحطمت على جدار «ديستوبيا مريرة ساخرة»؛ إذ إن عدداً محدوداً من شركات التكنولوجيا المتطورة عززت هيمنتها على العالم السيبراني، وحوّلت منصاتها إلى آلات لانتزاع الأموال من المستهلكين؛ إنْ ليس مباشرة، فمن خلال بيع معلومات الاستعمال لمن يرغب من الشركات والحكومات، بل ولمنظمات مشبوهة أيضاً، في اعتداء سافر على خصوصية المشتركين، ومعلوماتهم، ووقتهم. وتآكلت لاحقاً الآمال في إنترنت مجانيّ يتيح للبشر التلاقي على صعيد واحد بغض النظر عن قدرتهم الماليّة، بعدما أصبح الوصول إلى كثير من التطبيقات والمواقع متعذراً دون دفع بدل ماديّ، فيما يتطلّب بعضها مقابل الاستعمال المجانيّ التعرّض الطوعيّ لغسل دماغ من قبل شركات الاستهلاك، ومشاهدة دفق إعلانات متكرر بين الفينة والأخرى.

لكن ذلك لم يكن كافياً لتنفير مستخدمي هذه المواقع والتطبيقات التي أصبح بعضها عملاقاً مؤثراً أكثر بكثير من حكومات أغلب دول العالم، حتى بدا خلال أقل من عقدين كأن البشر مشوا بأقدامهم نحو عبوديّة رقميّة، فتقبلوها دون مقاومة تذكر، وأدمنوا عليها، فأصبحت سيّدة أوقاتهم، وخصوصاً نشاطهم، وأول ما يبتدئون به نهاراتهم، وآخر ما ينهونها به. وهكذا يمكن لشركة «ميتا» أن تطلق تطبيقاً يلتحق به عشرات ملايين البشر خلال ساعات، ولشركة «أبل» أن تستقطب صفوفاً طويلة أمام محلاتها من الساعين لشراء أحدث تكنولوجياتها...

إن هذا الزحف نحو العبودية الرقمية؛ في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت، ستكون له تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة، وضغوط إضافيّة على ميزانياتهم، ولا بدّ من أنه سيخلق نوعاً من تفاوت طبقي في القدرة على الوصول للمعلومات بين الشعوب وداخل المجتمعات السكانيّة أيضاً، مما قد يعوق تشكيل ثقافات منسجمة على المستوى الوطني، لمصلحة ثقافات بديلة افتراضيّة عابرة للحدود تجمع بين فئات الميسورين دون غيرهم.

هذا الفصل الرقمي سيدفع بالمتضررين إلى محاولة عبور الأسوار عبر المواقع والبرامج المقرصنة التي تحمل في طياتها غالباً مخاطرات التعرض إلى الفيروسات والبرمجيّات الضارة، وربما تتسبب لهم في خسائر مادية تضاعف من الفجوة الرقميّة، وتكرّس تهميش الذين يقفون على الجانب الخاسر من الصحراء السيبرانيّة الممتدة. وتهدد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعيّ اليوم، مع تسارع اندماجها في مختلف جوانب الحياة، بتوسيع تلك الفجوات الرقميّة بشكل أكبر، وربما خلق أشكال أكثر جبروتاً مما عرفناه حتى وقتنا الرّاهن من عبوديّة رقميّة.

ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن كل تعاطٍ لنا مع الإنترنت وعبر مختلف التطبيقات يعني تسليم مزيد من المعلومات عنّا لهذه الشركات الكبرى؛ حيث جميع محادثاتنا ومراسلاتنا الإلكترونية، ومعاملاتنا التجارية والبنكيّة، والصور التي نتشاركها، ومجمل تعاملنا مع مواقع التواصل الاجتماعي، تتم إضافته إلى تجمّع هائل مما تسمى «البيانات الكبيرة»، التي عندما تتوفر للذكاء الاصطناعي فستمكنه من لعب دور «الأخ الأكبر» الذي يتربع على قمة الهرم، ويسيطر على أقدار البشر.

سبق الروائيون غيرهم إلى التحذير من «ديستوبيا» تقودنا نحوها مثل هذه التكنولوجيا؛ فبين «1984» لجورج أورويل، و«عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، تسيطر على العالم طبقة معينة من الميسورين الذين يُسقطون القوميّة والسيادة الوطنية ونظام العائلة من حساباتهم، ويستعينون بتكنولوجيّات متقدمة لتكريس هيمنتهم على بقيتنا، مع فرق شكلي ربّما بين الصيغتين المقترحتين؛ فيتم استعباد الناس قهراً عند أورويل، بينما هم يحبّون عبوديتهم وفق هكسلي.

فأي إنسان جديد ينشأ في ظل هذه العبوديّة؛ قسرية كانت أم طوعيّة، في أغلب الأحوال سينتهي بمنزلة رقيق رقميّ عند الشركات والجهات الأخرى التي تمتلك أي جزء من هويتنا الرقمية؛ إذ إن نظامها التشغيلي قائم على أساس إساءة استغلال خصوصيتنا واهتمامنا... فلا نحن نمتلك هوياتنا الافتراضية، التي يمكن لأصحاب الشركات إلغاءها في أي وقت، ولا نحقق بصفتنا أفراداً أيّ فائدة تذكر من تراكم مشاركتنا بياناتنا الشخصية وعلاقاتنا واهتماماتنا، فيما تتحول هذه إلى مادة خام ذهبيّة يبيعها عمالقة التكنولوجيا لمن يرغب من التجار والحكومات. فبينما نحن أحرار جسدياً، فلسنا كذلك رقمياً؛ إذ نتعرّض لشكل قاسٍ من العبوديّة الافتراضيّة.

العبودية الرقمية في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت ستكون لها تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة

ولعل الأخطر في هذه العبوديّة أننا نسقط فيها رويداً رويداً دون أن ندرك، تماماً مثل الضفدع الذي يوضع في دورق ماء وتوقد تحته النار، فيقضي دون أن ينتبه إلى أن درجة حرارة الماء تزداد حوله باطراد... فنحن مستمرون في إثراء بصمتنا الرقميّة على الإنترنت يوماً بيوم لمصلحة «الأخ الأكبر»، بينما ليس لدى أغلبنا أي خطط للتحرر، ولا حتى الرّغبة فيه.

وبالطبع؛ فإن واقع الحال يشير إلى أن معظم الأفراد لا يتوقع منهم إدارة مواجهتهم مع هذا «الأخ الأكبر» وحيدين، إذ لا بدّ من هيئات عامّة توعيهم، وتسندهم، وتتولى المهمة عنهم، أقلّه في الحدود الدنيا. لكن التجارب الحاليّة في هذا الإطار - وربّما باستثناء محاولات أوليّة عند الاتحاد الأوروبي لحماية مواطني دوله الأعضاء من التغوّل الكليّ لشركات التكنولوجيا - تبدو إلى الآن غير مبشّرة، بعدما تحوّلت أنظمة الحماية التي بنتها الدول الكبرى، مثل روسيا والصين وإيران، إلى مجرد «تطبيقات تويترات أخرى» بنسخ رديئة أحياناً، مع انعزال مستخدميها فيما تشبه «غرف صدى» ضخمة نسبياً على وسع البلد الواحد، لكنها أقرب إلى سجن جماعي لا يسهل لأبناء الثقافات الأخرى؛ بمن فيهم الأصدقاء والمتعاطفون، عبور أسواره.


مقالات ذات صلة

ترمب يعود إلى مكان محاولة اغتياله... وماسك سيحضر التجمع الانتخابي في بنسلفانيا

الولايات المتحدة​ الملياردير الأميركي إيلون ماسك (يسار) والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (أ.ف.ب)

ترمب يعود إلى مكان محاولة اغتياله... وماسك سيحضر التجمع الانتخابي في بنسلفانيا

أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «تسلا» الملياردير إيلون ماسك أنه يخطط لحضور تجمع المرشح الجمهوري للانتخابات الأميركية دونالد ترمب في بنسلفانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا صورة الملياردير الأميركي إيلون ماسك تظهر إلى جانب شعار منصة «إكس» (أ.ف.ب)

تقرير: قيمة «إكس» تراجعت بنحو 80 % عما كانت عليه قبل ماسك

كشفت تقديرات شركة الاستثمار Fidelity، عن أن قيمة منصة «إكس» المعروفة سابقًا باسم «تويتر» تقل بنحو 80 في المائة عما كانت عليه قبل عامين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا «إكس» تُجري تغييرات تسمح للمستخدمين المحظورين برؤية المنشورات العامة للحسابات التي حظرتهم دون التفاعل معها (أ.ف.ب)

«إكس» تُجري تغييرات كبيرة في نظام الحظر

يمكن للمستخدمين المحظورين رؤية المنشورات العامة للحسابات التي حظرتهم دون التفاعل معها.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
آسيا رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي (أ.ب)

رئيس الوزراء الأسترالي ينتقد ماسك بعد اتهامه حكومته بـ«الفاشية»

ردّ رئيس الوزراء الأسترالي، السبت، على اتهام الملياردير الأميركي إيلون ماسك لحكومته بـ«الفاشية» على خلفية طرحها مشاريع قوانين تتيح تغريم منصات التواصل الاجتماعي

«الشرق الأوسط» (كانبيرا)
العالم الملياردير إيلون ماسك مالك شركتي «إكس» و«ستارلينك» (رويترز)

البرازيل تصادر أموالاً من «إكس» و«ستارلينك» خلال نزاع مع إيلون ماسك

تصاعد النزاع بين البرازيل والملياردير إيلون ماسك بعد أن أمر قاضٍ فيدرالي بفرض غرامة على شركتين من شركاته، وسحب قيمتها من حساباتهما.

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون
TT

بعيداً عن ضوضاء العالم... عن جدل الفن للفن والفن للحياة

أفلاطون
أفلاطون

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي.

التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية

علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

إلهاءات تستحيل معها الفلسلفة

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية.

ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة.

الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

أسباب لتفادي الغرق في الإلهاءات

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الغلغامشي في طلب الخلود حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الغلغامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة

الأدب الجيّد مفتاحاً للتوازن

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الغلغامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني.

بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.