«خزامى»: ...الوجه الآخر للقاء «الضحية» و«الجلاد»

سنان أنطون يكتب عن المصائر المستعادة في المكان الغريب

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«خزامى»: ...الوجه الآخر للقاء «الضحية» و«الجلاد»

غلاف الرواية
غلاف الرواية

في «خزامى... الجمل 2023»، رواية سنان أنطون الأخيرة، تحافظ القصص على استقلالها المفترض كما لو أنها صياغة أخرى لمصائر أبطالها التعيسة، قصة سامي البدري، مثلاً، لا تشبه قصة عمر، ولا تتصل بها؛ القصتان تتشكلان وتسيران معاً في مسارين مختلفين. زمنياً تبدأ قصة عمر قبل قصة البدري. لكن زمن السرد يبدأ بلحظة اضطراب ذاكرة سامي وضياعه، من ثمّ، بعيداً عن بيت ابنه سعد، بعد أن يستبد به «الخرف». لحظة البداية تتحكم، ابتداءً، بعوالم السرد المختلفة. أتحدث هنا عن 3 عوالم يتداخل بعضها مع بعض، بقدر ما تختلف. عندنا صياغات المكان البديل، المسمّى هنا المنفى الاختياري المرتبط، أو بأدق، المتولد عن الطرد من المكان الأصلي؛ الوطن. وعندنا، أيضاً، الاقتصاد الحكائي فيما يتصل بقصة سامي البدري، يقابله توسع حكائي لا يبخل به سرد اليوميات. لكن الرواية تتعمّد خلط الحكايات لتنتج معاني ودلالات جديدة ترتبط برغبة عمر في إيجاد «سردية» معارضة للانتماء للوطن، أو في الأقل تصوره بصفته مكاناً صالحاً للحياة.

ليس هناك سوى «قصتي»

منذ البدء، وقبل أن تطأ قدمه أرض الخلاص، أميركا، يحسم عمر وجهته وعالمه القادم، بل إنه قبل أن يصعد الطائرة، يكون قد حسم قراره، بأن «يستأصل» بلاده من ذاكرته. وتبدو «الحقيبة»، شبه الفارغة المسافرة مع عمر، رمزاً نموذجياً لذاكرة يجري تفريغها، على أمل أن «تُختلق» هناك، في بلاد الخلاص، ذاكرة وهوية جديدة. لكن المفارقة تبدأ هنا، بالضبط من سردية الذاكرة الجديدة، فالرواية لا تحكي لنا سوى كيفية استعادة الذاكرة الأولى، التي تختصرها قصة عمر مع وطن لم يمنحه سوى العذاب، وكأن الهدف من فرار عمر هو أن يصل إلى أقصى «الشمال» ليختلي بنفسه ويروي حكايته. لا ذاكرة جديدة، إذاً، من دون قصص جديدة. لكن لماذا على عمر، ومن بعده سامي البدري، أن يذهب بعيداً عن بلاده ليحكي لنا ما حصل معه في بلاده السعيدة؟ ألم يكن بإمكانه أن يبقى، شأن أبطال روايات الكاتب السابقة، في بلاده ويروي حكايته؟

لا تنشغل «خزامى» بالإجابة عن هذه الأسئلة، إنما تقول لنا ضمناً ربما، إنها ستجيب عنها في سياق القصتين المتعارضتين. لكنها تدشن، عملياً، الاشتغال المكاني المختلف عن سابقاتها. وقد يكون من الأفضل أن نقول إن «خزامى» قد أكملت ما هجست به «فهرس»، رواية أنطون السابقة، التي اقترحت نهايات متعدِّدة لـ«ودود»، ولها أيضاً، منها «ارتحال» ودود لأميركا، وكان ذلك محض نهاية محتملة لم تتحقق. «خزامى» تقول لنا بوضوح كافٍ إنها رواية المكان البديل، وإن شئت الدقة أكثر قل إنها رواية المصائر المستعادة في المكان الغريب. ومثلما أنه لا ذاكرة جديدة تتشكَّل هناك، فإنه لا أثر للمكان البديل على عمر أيضاً. وربما الأرجح أن نفهم الأمر بطريقة أكثر جذرية بأنه لا ذاكرة جديدة تتشكّل هناك ما دام المكان البديل بلا أي تأثير. ولا تبخل علينا الرواية بالمداخل السردية الكاشفة لـ«انعدام» التأثير المكاني هناك على عمر، «هل تختلف الحال مع سامي البدري؟!». وفي الطليعة منها الرغبة الجامحة بالتنكر لسردية الوطن، ومن ثمّ، محاولة اختلاق هوية وتاريخ عائلي مغاير، بل مختلف كلياً عن التاريخ الحقيقي؛ فهذه الرغبة بـ«استئصال» الوطن هي ترجمان أخير لمحو العقاب وآثاره المدمرة على عمر جراء قطع أذنه اليمنى بسبب هروبه من الجيش. هذه قصة كاملة مكتملة غير قابلة للتجزئة أو الإضافة، كان على عمر أن يحملها معه أينما ذهب، لا قصة أخرى يمكن أن تنافسها، أو تنمو وتتشكَّل إلى جانبها. وهي تقبل أمراً واحداً هو أن تُستعاد وتروى من وجهة نظر صاحبها. ولا غرابة، إذاً، أن تفشل قصص الحب مع نساء «أجنبيات» التقى بهن عمر، فكانت علاقته بهن متقشفة، لا تزيد عن لحظة «الجنس»، فلا تتحول إلى علاقات حب واستقرار إنساني. مثلها، تماماً، تنتهي قصة عمر بفشل تنكره للهوية العراقية، ويصبح ادعاؤه بالأصل البورتوريكي، وسنجد عمر، في النهاية، يعترف بأصله العراقي حتى قبل أن يلتقي بقاطع أذنه اليمنى.

الخرف عقوبة من لا يعود

لكن «خزامى» هي رواية اللاعودة، أو هي السردية المعارضة لعودة المنفي لبلاده، كما هي حال عمر الرافض بشدة أن يعود لبلاد عاقبته، وهي كذلك العودة المستحيلة لبيت مغتصب ببغداد، وهذا شأن سامي البدري، طبيب القلب، الذي فرَّ بجلده من البلاد بعد مقتل زوجته، فإنه «يفقد» رويداً رويداً السيطرة على عقله؛ لأنه لا يستطيع العودة لبيته ببغداد. ثمة عقاب في الحالتين، إلا أن المعاقبة في حالة سامي البدري ترقى إلى أقصى حالات التقشف الحكائي. تستهل الرواية، مثلاً، نصها بـ«صمت» حكائي يمثِّله عجوز تائه في شارع بإحدى المدن الأميركية. وهذا العجوز ليس سوى سامي البدري. لا شيء هنا سوى راوٍ لا يعرف عن العجوز التائه سوى أمر واحد، هو أن عليه أن يصف ضياع العجوز نفسه. لا ذاكرة، لا شخصية، لا هوية تستشعر تفاصيل المكان. يتحول السرد هنا إلى ما يشبه الكاميرا التي تتبع شخصاً يتحرك بلا وجهة، وكأننا إزاء حركة أشياء لا يجمعها جامع سوى ضياع العجوز الذي يطلب المساعدة بإعادته لـ«بغداد». أفكر هنا بمعنى العقاب المتحصل جراء منع سامي من العودة لبيته في بغداد؛ أهو تطهُّر من ذنب كبير اقترفه طبيب أجبرته سلطة صدام، وهو المختص بالقلب وأوردته، أن يقطع أذن جندي هارب من الجيش؟ ربما.

تُفيد «خزامى» كثيراً من نصوص الكاتب السابقة، ولا سيّما «إعجام» و«فهرس»، وفي جانب مهم من «يا مريم»

لا تتورط الرواية، ولا سامي نفسه، بمشقة البحث عن أجوبة؛ سامي نفسه سيعترف لزوجته ولزميل له بأنه قد أجبر على «صلم» أذن جندي، ولا أثر يترتب على ذلك الاعتراف سوى أنه سيكون الثقب الذي تنفذ منه الذكريات والماضي وحياة سامي كلها؛ إذ سيبتلع «الخرف» كل شيء. وسيكون على سامي أن يدفع الثمن مضاعفاً؛ مقتل الزوجة، وخسارة البيت، ثم ضياع الذاكرة برمتها. هكذا سيبدو أن فعلاً غير مقصود أجبر الطبيب على تنفيذه، ثمنه الخرف؟ ربما، لكن الرواية تلتزم باقتفاء أثر العقوبة وتطبيقها. وأوضح مظاهر الالتزام هو التقشف أو الاقتصاد الحكائي في إيراد التفاصيل. وفي مواضع ليست قليلة يصل الاقتصاد منتهاه عندما تكتفي الرواية بجملة أو الجملتين تلخصان يوماً أو حادثة أو حكاية قديمة. وأيضاً، ثمة استعادة ملحوظة لسلطة الراوي العارف (العليم) على السرد؛ ليتولى بنفسه نقل مقاطع ليست قليلة ما لم يتمكن سردها. وقد يتحول سامي البدري نفسه إلى موضوع سردي يصلنا عبر منظور ممرضته «كارمن» في دار المسنين، أو عن طريق «سعد» في بيت الأخير. ولا أمل في التطهُّر من الإثم غير المقصود إلا بالمواجهة، بلحظة اللقاء الجامعة بين عمر وسامي. تضعنا الرواية في هذه المواجهة بلا أي مسوِّغات، حتى أي مزاعم تخص دوري الضحية والجلاد. لا شيء سوى ابتسامة بلا معنى، ربما رسمها سامي على وجهه، فيما كانت «كارمن» تدفع بكرسيه المتحرك صوب معرض بيع الخزامى، حيث يقف عمر. نعم، لا مزاعم كبرى سوى أن عمر بدأ للتوّ باستعادة اسمه، وهذه مقدمة أولى لتذكُّر البلاد. فيما تسقط باقة الخزامى من يد سامي على الأرض. لكن سؤال عمر ربما يظل بلا إجابة؛ إن كان سامي، الطبيب الذي قطع أذنه، سيتذكره؛ يتذكر جندياً أجلسوه أمامه على كرسي، وقبل أن يقطع أذنه كان قد اعتذر منه. فهل كانت ابتسامة سامي البدري بوجه «ضحيته»، وحرمانه، من قبل، من سرد وقائع قصته تطهيراً له من إثم مخالفة الوصايا؛ فلا قطع أو بتر لعضو في جسد الإنسان إلا بعد فساده وتورمه، لكن سامي تخاذل وترك نفسه تتحول إلى «قصاب» ورضي من ثمّ أن يكون مثل غيره خروفاً في مجتمع الخرفان. تلتزم الرواية بميثاقها الأول؛ منع سامي البدري من التصرف بقصته، ومنح الحرية كاملة لعمر ليحكي لنا قصته. وهي قسمة ضيزى.

سرد اليوميات

تُفيد «خزامى» كثيراً من نصوص الكاتب السابقة، ولا سيّما «إعجام» و«فهرس»، وفي جانب مهم من «يا مريم» في الاستعمال المفارق لسرد اليوميات؛ إذ يجنح الكاتب إلى توظيف اليوميات على مقربة من حافة الاعتراف. لكن سرد اليوميات في «خزامى» يعيد توجيه عوالم السرد وحكاياته اليومية، حتى كأن اليوميات هي اعترافات مؤجلة للشخصيتين. وقد يكون الأهم أن سرد اليوميات، هنا، يعيد قول الحقائق بطريقة مختلفة؛ نحن هنا إزاء رواية ذات بطلين وليس بطلاً واحداً كما نجد في أغلب روايات الكاتب السابقة سوى «فهرس» التي تولى البطولة فيها؛ فهرس ودود وقصة عودة نمير لبغداد. لكن يوميات «خزامى» تختلف؛ فهي لدى عمر حكاية كاملة بتحولاتها السردية المختلفة، فمرة تبدو أقرب إلى القناع كما في تنكره لبلاده، ومرة أخرى تقترب من سياق السرد الذاتي المشبع بصوت المتكلم. وفي سرد اليوميات في «خزامى» نجد استعمالاً جديداً، ربما، يدمج بين الاسترجاع الخارجي غالبا مع كلمات أغنية ما، عربية كما في أغاني أم كلثوم، أو عراقية. مثل هذا الاستعمال يخفف من غلواء الاقتصاد الحكائي في سياق يوميات سامي المستعادة. تظل اليوميات هي الصيغة السردية الأوضح، وربما الأنجح، ولا ينبغي علينا أن نبالغ في تحوّل اليوميات إلى اعترافات؛ فهذا قليل، سوى أن سرد اليوميات في «خزامى» يوحي لنا بأن الشخصيتين، عمر في الأقل، يريد أن يعترف لنا بقصته، يريد أن يرفع عن رأسه القبعة التي تخفي الأذن المقطوعة.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟