«حين تغيرنا عتبات البيوت»... جماليات المقالة القصصية

عبد الإله يقدم 3 أجزاء سردية موازية للمعلنة في الكتاب

«حين تغيرنا عتبات البيوت»... جماليات المقالة القصصية
TT

«حين تغيرنا عتبات البيوت»... جماليات المقالة القصصية

«حين تغيرنا عتبات البيوت»... جماليات المقالة القصصية

يفتتح الروائي والقاص «لؤي عبد الإله» المقالات الصحافية التي كتبها بين عامي 2020 بتقريض لغة الحوار بين عناصر الوجود «كم من الأشياء تدعونا للتحاور معها وكم سعيدة تلك المخلوقات التي تؤمن مثل الأطفال بوجود الحياة في كل الجمادات حولها» (ص10). وللحوار في الكتاب أبعاد خطابية تضاف للأبعاد الفكرية والثقافية، تلك هي حوارية الأجناس النثرية تحت مظلة السرد بوصفه نظاماً للحكي وأداة معرفية للتفكير في العلوم الإنسانية.

العنوان الذي اختاره المؤلف عتبة نصية «حين تغيرنا عتبات البيوت» ما هو إلا قصة قصيرة جداً تحكي أثر الزمكانية في تشكيل الهوية السردية، هي قصة الاغتراب المكاني والوجودي اللذين عاشهما عبد الإله، وتغييره للعتبات مرات عدة منذ مغادرته العراق منتصف السبعينات حتى استقراره في العاصمة لندن، منتصف الثمانينات.

قُسِّم الكتاب إلى 3 أجزاء أو فصول، الأول عنوانه «نصوص»، فيه اقتراب من فكرة حوارية الأجناس النثرية التي أشير اليها، والثاني بعنوان «مقاربات نقدية»، فيه عدد من المقالات، يبرز فيها التحليل والتفسير النقديين، والفصل الثالث «انطباعات بصرية»، فيه مقاربة لبعض الأعمال المسرحية والتشكيلية.

تبلغ «نصوص» ثلثي الكتاب، بينما يبقى الثلث الأخير للمقاربات النقدية، ما يبين احتفاء المقالات بالنسق السردي الذي يغني تلقي الآراء، وبإمكانه إنشاء حوارية بين الذاتية والموضوعية في كتابة المقال الصحافي. لا تنزاح المقالات بعضها عن بعض إلا بقدر محدود، فتتشاكل أسلوبية، أغلبها بين إشهارية العلامة المقالية، وفيها إبلاغ لمعلومة أو تثقيف لتوجه وسلوك أعينهما، أو إدلاء برأي في كتاب أو مسألة فلسفية ووجودية، وبين ضمنية العلامة السردية الإيحائية.

يؤكد المؤلف على حوارية «عتبات البيوت» المكانية مع نظرية «طقوس العبور» الزمانية للمفكر الأنثروبولوجي «أرنولد فان غنب». قارب الموضوعين، بدءاً من المقال الذي حمل عنوان الكتاب في فصل نصوص، وعاد لذكر طقوس العبور في آخر مقالة بعنوان «طقوس العبور حقيقتنا وحقيقة العالم تفلتان من أيدينا». في كلتا المقالتين تم تقليب فكرتي العتبة والعبور على وجهيهما بالسرد والوصف تارة، وبالشرح والتعليق والموازنة والتحليل والتأويل تارة أخرى، غير أنه في المقال الأول تكلم بشكل مجمل عن تصوراته للعتبات وطقوس العبور. أما المقال الأخير فقد خصص للكلام عن معرض طقوس العبور، الذي نظم بالعاصمة البريطانية عام 1998، وفيه قراءة نقدية لنصوص روائية في ضوء العتبات الزمكانية.

بإمكاني كقارئة تقسيم المقالات إلى 3 أجزاء سردية موازية لتلك المعلنة في الكتاب، وهي أولاً «سرديات المكان والزمان»، وثانياً «سرديات السيرة والسيرة الشخصية»، وثالثاً «سرديات تفاصيل الحياة اليومية». السرديات الزمكانية هي المهيمنة على فصول الكتاب، وتدخل ضمنها المقالات التي تصنف أنها تاريخية وسياسية، ففي كل منها يدخل المؤلف للموضوع الذي يريد أن يناقشه مدخلاً سردياً، مثل الكلام عن شخصية روائية أو حبكة قصصية أو أعمال روائية معينة، في مقال «حين تغيرنا عتبات البيوت» يسرد المدخل بما يعرف بضمير الشخص الثالث: «تقودني الذاكرة من وقت إلى آخر إلى تلك العتبة الملاصقة لباب خشبي سميك تعج فوقه حفريات الماضي العريق وعليها يجلس ذلك الطفل باطمئنان كامل. إنه هنا ضمن البيت وخارجه متمتعاً بشعور الحماية الناجم عن موقع العتبة نفسها» (ص19). يشكل الحنين إلى بيت الطفولة جزءاً حيوياً من صورة المكان في الذاكرة والوجدان، فالسارد يتمثل صورة عتبة بيته القديم في مستهل كلامه، وينتقل بعد المدخل لشرح فكرته وتبسيطها، ثم ما يلبث أن يأتي بالمثل بكلامه عن ملحمة «الكوميديا الإلهية». يفترض «دانتي» برزخاً فاصلاً بين الجحيم والفردوس، يلبث فيه المذنبون بعد أن يقضوا عقوبتهم في الجحيم إلى أن تشملهم الرحمة ويدخلوا النعيم، بعدها يرحل صوب الطقوس والقصص الديني، مثل حديثه عن سحور رمضان بوصفه عتبة فاصلة بين لحظات الشبع والتهيؤ للصيام، وقد مر مروراً سريعاً على قصة الإسراء والمعراج.

يفضل الكاتب الإقامة في بيت المتخيل، يدخل عالم رواية «الحرب والسلام»، يحدثنا عن حكاية الأمير «أندريه» والكونت «بيير»، يسردها سرداً وصفياً مختصراً لشخصيتهما ما قبل التغيير وما اتسما به بعد التحبيك الذي ينقلهما نحو عتبة أخرى، ويقدم قراءته للفكرة الكامنة وراء المتخيل: «فجأة ينساق الفرد في طريق كان يعتبره قبل يوم واحد حماقة كبرى، كأن ما يحكم الفرد في نهاية المطاف قبضة اللاعقلانية، هنالك في تلك العتبة يحصل التحول» (ص22)، فالحكاية وليس منطق العلم من بإمكانه التعبير عن طقوس العبور في إيقاع تناوبي يزاول الترحال بين الملفوظات النصية من الإقناع إلى التمثيل، ومن الذاكرة إلى استكشاف المجهول، يتلون إيقاع المقالات بألوان الفكر من المنطق الاستدلالي إلى القياس الذهني إلى ملكة التصور الحسي حيث تستقر النصوص عند هذه الملكة التي تحيل فرضيات التاريخ والواقع إلى مسرح كبير للعب وتبادل الأقنعة.

ومن المقالات التي يبرز فيها السرد التاريخي للأحداث والشخصيات المقالة المعنونة «مكر التاريخ»، وفيها يستهل الحديث عن هزيمة «نابليون» في معركة واترلو، ثم يستقرئ نتائج تلك المحاولة الفاشلة لغزو أوروبا بعد قرنين من الزمن: «الحلم الذي أخذه نابليون إلى القبر بدأ بالتحقق على الأرض بعد مرور ما يقرب 130. هذا الحلم هو ظهور أوروبا المتحدة» (ص25)، ينتقل بعدها إلى قصة التجربة الاشتراكية، وقد بدأت من فرنسا وفشلت فيها واستقرت في روسيا، ومن ثم سقوط التجربة عالمياً وما نتج عنه من عواقب انفراد أميركا بالهيمنة على العالم.

مقالة أخرى يقترب موضوعها من السابقة هي «من يصوغ مسار التاريخ»، يتكلم فيها عن دور الطغاة في تحريك عجلة التاريخ بوتيرة متصاعدة ودفعها نحو عتبات فاصلة من أمثال «نابليون» و«هتلر» و«هنري الثامن». يقول: «لم تبن الجمهوريات الديمقراطية إرثاً كبيراً في بناء الأمم وبناء دولها، بل هم الطغاة من قاموا بهذه المهمة» (ص34). يبقى المؤلف على تواصل مع فكرة العتبة في أغلب المقالات التي تناول فيها سرديات الأزمنة والأمكنة، فالعتبة نسق يستجيب للتحولات في بنيته مع استبدال الفواعل والأحداث.

نقرأ في سرديات السيرة والسيرة الذاتية حديثاً عن سيرة الشخصيات الإبداعية التي ألهمت المؤلف وتأثر بما نسجته أناملها من طروحات فكرية وتقنيات شكلية، يأتي في مقدمة تلك الشخصيات الروائي والقاص العراقي «فؤاد التكرلي»، وقد ذكره في مقالتين؛ أولهما «الإصغاء إلى روح الجماعة»، والثانية بعنوان «ثيمة العنف في قصص فؤاد التكرلي». تطرق في المقال الأول لفهم التكرلي للرواية، بوصفها حوارية أصوات ولغات، وذلك قبل ترجمة أفكار «باختين» إلى العربية واطلاع المبدعين والنقاد عليها، يتواتر السرد في المقال عن روايات «فؤاد التكرلي»؛ أحداثها وشخصياتها تارة، وعن سيرته الشخصية تارة أخرى: «كان التكرلي يقيم في تونس حينما وصلته أخبار الأثر الصاخب على عدد كبير من المنفيين العراقيين في الجزائر» (ص47)، من هؤلاء المنفيين كان «لؤي عبد الإله» الذي تأثر بتجربة التكرلي إلى درجة التماهي، خاصة أن في سيرتهما كثيراً من عتبات اللقاء مع الفارق في السن والتجربة، مثل كونهما لم ينتميا لأي من الآيديولوجيات الرائجة في تلك الحقبة، وتصوفهما في محراب الإبداع، وبعدهما عن الأضواء، إضافة إلى تجربة الاغتراب، وهي العتبة الفاصلة في سيرة الرجلين الشخصية والإبداعية.

تبلغ «نصوص» ثلثي الكتاب بينما يبقى الثلث الأخير للمقاربات النقدية ما يبين احتفاء المقالات بالنسق السردي

وقد أشاد بدور كل من «غائب طعمة فرمان» و« نجيب المانع» في كتابة الرواية الفنية في العراق، وخصّ الكلام عن أبناء ذلك الجيل من روائيين وشعراء مثل «بدر شاكر السياب» و«عبد الوهاب البياتي»، الذين ولدوا في عشرينات القرن الفائت وتمكنوا من تشييد نهضة أدبية وثقافية عند عتبة منتصف القرن وما تلاه: «إنه أول جيل يدخل مدارس الدولة العراقية الناشئة بمدارسها ومناهجها، وتتفتح عيناه على الغرب عبر الاحتلال البريطاني أولاً، ثم الانتداب فالاستقلال المقنن» (ص158)، وقد بلغ إعجاب عبد الإله بجيل التأسيس أنه لم يذكر مبدعاً روائياً أو شاعراً من المعاصرين سوى الشاعر «فاضل السلطاني»، وحلل بعضاً من قصائده في مقالة عنوانها «المرأة الطريق إلى السماء»، ويلاحظ أنه لم يأتِ على ذكر المرأة إلا في المقال المشار إليه. ومن المفكرين والأدباء الغرب الذين مرّ على سيرتهم؛ دستويفسكي وباختين وماركس ونيتشه.

سرديات «الحياة اليومية» هي الأقل سطوعاً على لوحة النص، تأمل فيها الكاتب في تفاصيل الأشياء وهوامش الحياة، وهو يحاول تلمس دلالة تلك التفاصيل وتأثيرها على العتبات الفاصلة في حياة البشر. ومنها مقال بعنوان «العصر الرقمي يقتل المراسلة الشخصية»، وهو نوستالجيا وصفية لعصر ساعي البريد والرسائل الورقية المعطرة، ومقال «الأعشاب الضارة مجازاً» وفيه كلام عن المهمل المفيد في حياة البشر.

في مقالة عنوانها «البناء الموسيقي للرواية... ميلان كونديرا مثالاً» يقتبس عبد الإله عبارة لكونديرا جاءت في كتابه «صنعة الرواية»، وقد ذكرها في تحليله رواية «السائرون نياماً» لهرمان بروخ: «يتكون الجزء الثالث من الرواية من 5 خطوط موضوعة في شكل متناوب، هي الرواية والقصة القصيرة والقصيدة والمقالة والتقرير» (ص95)، هذا التناغم البوليفوني في الكتابة النثرية يراه القارئ لوحة نصية، ويلمسه إيقاعاً بنائياً في «حين تغيرنا عتبات البيوت».


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على خشبة المسرح في قمة المرأة في العالم بحي مانهاتن في نيويورك 6 أبريل 2017 (رويترز)

هيلاري كلينتون تنتقد نتنياهو وطلاب جامعة كولومبيا في كتاب جديد

في كتابها الجديد، انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتَحَمُّله «صفر مسؤولية» عن هجوم 7 أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا
TT

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة من خلال اقتفائها للجذور التي تتواصل معها ببصيرة مشهدية فائقة، تحكي من خلالها سيرتها الذاتية كأول سعودية تتخصص في مجال الأنثروبولوجيا بعد دراستها لها في أميركا، وتدريسها لها فيما بعد في جامعاتها العريقة مثل هارفارد وكاليفورنيا وجورج تاون وبنسلفانيا، لتصير من أوائل السيدات اللواتي حصلن على شهادة الدكتوراه في بلادها وسط سياق مجتمعي كان يتحفظ على تعليم الفتيات، لا سيما التعليم العالي.

تبدأ ثريا التركي الحكاية من سيرة الطفلة «ثريا» التي كانتها، وتفتحت عيناها على الحياة بوصفها: «الابنة الصغرى لشيخ نجدي وربة منزل حجازية»، ورغم الوجهات الجغرافية المتباعدة التي تتوالى في كتابها المكرس لرحلتها الممتدة بين الثقافات والمدن والمؤسسات التعليمية، فإن مدينة «عنيزة» السعودية تظل البؤرة المركزية بين تلك الوجهات، ففيها ولد الأب «محمد السليمان التركي»، الذي تستهل الكتاب بتحية له، فلولاه ما استطاعت اعتلاء سلم التعليم الذي امتد بها لتصبح أستاذة جامعية في مجال الأنثروبولوجيا. تقول: «إذا كان الكثيرون يعتبرون أنني كنت استثناءً في الانتصار على التقاليد السائدة في مجتمع شبه الجزيرة غير المتحمس لتعليم الفتيات حتى العقد السابع من القرن العشرين، فإنني أعتبر أن الاستثناء الحقيقي هو أبي بسماحه لي بالانخراط في التعليم، سواء في مدارس لبنان أو مصر ثم دخولي الجامعة الأميركية في القاهرة».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي ليبدو صوتها هو ابن السياق التاريخي والمجتمعي والثائر عليه في آن واحد، فهي ابنة لأسرة تقليدية لأب وأم اختارت أن تُخصص عن سيرتهما الفصل الأول من الكتاب الذي أطلقت عليه «نبتدي منين الحكاية؟» بما يحمله العنوان من نوستالجيا غنائية يمكن سماع أصدائها على مدار الكتاب.

وُلد الأب محمد السليمان التركي في مدينة «عنيزة» التابعة لمنطقة القصيم وسط شبه الجزيرة العربية التي كانت في سنوات القرن العشرين الأولى تتبع ما يُعرف بسلطنة نجد، وتتبع الكاتبة سيرة والدها إلى أن يقرر الهجرة إلى الحجاز (جدة) تحديداً. وهي هوامش تحرص الكاتبة على ذكرها في الربط بين تتبع سيرتها الذاتية وسيرة الوطن السعودي وتحولاته، ليس فقط على المستوى السياسي ولكن على المستوى الاجتماعي، كما تربط الكاتبة بين الانفتاح المبكر على تعليم البنات باعتباره نتاجاً لتعرض بعض الأسر النجدية والحجازية لثقافة حواضر مصر والشام، ما بدأ يسفر عن إرسال أوائل البنات السعوديات للالتحاق بالمدارس في أواسط أربعينات القرن الماضي، في وقت كانت جدة لا تعرف سوى بعض المدارس غير الرسمية «الفقيهة» لتعليم البنات قراءة القرآن وأعمال الخياطة والتطريز.

مشاعر مُركبة

ساهم هذا الانفتاح النسبي على الخارج وما شهده من بداية تعليم الفتيات، في أن تُرسل الأسرة ثريا إلى مدرسة داخلية إنجليزية في لبنان تحت رعاية أسرة لبنانية صديقة لأسرتها، وبرغم التعليم المميز الذي كانت تتلقاه في ذلك الوقت، فإنها لمست في تلك الفترة التعامل مع الصرامة، والغربة التي شعرتها مع استماعها للهجة اللبنانية للمرة الأولى، مروراً بتعرفها على الطقوس الدينية المسيحية بوصفها في مدرسة «تبشيرية»، أما ما لم تستطع نسيانه فهو شعورها المبكر بعدم تقبل المعلمات لها، ما راكم داخلها شعوراً بالاختلاف «كنت في أعينهن بدوية همجية، انطلاقاً من نظرة استعلائية نمطية كنت أشعر بها على الدوام من جانبهن»، وهي مشاعر تنفير تدريجية قادتها ذات يوم للانفجار في وجه معلمة أهانتها وأهانت أمها، ما قاد «ثريا» الطفلة في هذا الوقت لصفع تلك المعلمة التي أهانتها، في مشهد من المشاهد التي لا تُنسى في الكتاب، وهي تقول: «كانت هذه هي بدايات لمقاومتي لما تصورته محاولات لقهري».

بوح ومصارحة مع الذات

بصفة عامة، لا تسعى ثريا التركي في كتابها لرسم صورة مثالية عن نفسها بقدر ما تتلمس الصدق وهي تتذكر لحظات بعيدة من حياتها، أو حتى تعيد محاولة فهم مشاعرها المبكرة، خاصة حيال مشاعر الاستعلاء أو عدم التقبل أو التهميش، بما في ذلك علاقتها بأقرب الناس لها، فهي تعترف أن علاقتها بوالدتها كانت «مُركبة»، فرغم حبها الشديد لها فإنها تقول في لحظة مكاشفة خاصة: «أعترف بعد كل هذا العمر وقلبي يعتصره الألم بأنني كنت أخجل من والدتي، لأنها لم تتحصل على تعليم جيد - وكذلك أبي - ولم تكن تجيد لغات أجنبية، فالكثير من أمهات صديقاتي المصريات يُجدن إما الإنجليزية وإما الفرنسية»، تظل ثريا في حالة مراجعة لهذا الشعور وعدم الارتياح له، فتسأل نفسها مراراً: «لماذا فعلت ذلك؟ لماذا كنت أخجل من أمي؟».

تتمسك الكاتبة بروح البوح والمصارحة في محطات الكتاب المختلفة، كالتي تحدثت فيها مثلاً عن مرحلة دراستها الثانوية في مصر في مدرسة «كلية البنات الإنجليزية» بمدينة الإسكندرية، وانفتاحها على جنسيات مختلفة من مختلف العالم، والكثير من روح الشغب أو «الشقاوة» كما تصفها وهي تروي ملامح منها بحس طريف، وسرعان ما تربط تلك الأيام بالأحداث المركزية التي كانت تعيشها مصر من اضطرابات سياسية تزامنت مع فترة تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس وما تبعها من عدوان ثلاثي على مصر.

مفترقات الطرق

تصف ثريا التركي أكبر وأصعب تحدٍ واجهته على الإطلاق وهو إقناع والدها بأن يسمح لها بدخول الجامعة، وما كان يصاحبه من تصورات نمطية ترتبط بالانفلات الأخلاقي، فتروي كيف كانت الحياة الجامعية في هذا الوقت ترتبط في صورتها الذهنية بأعمال إحسان عبد القدوس التي تقول إن تأثيرها كان كبيراً على الصورة الذهنية عن الجامعة لدى الأوساط المحافظة في العالم العربي.

تروي ثريا عن الوساطات العائلية التي ساهمت في إقناع والدها، بالموافقة على التحاقها بالجامعة الأميركية بالقاهرة، التي تصف كيف كانت في فترة الستينات قبلة للطلاب العرب، وسط تطلعاتها للشعور بالاستقلال، وهي معركة تظل تقطعها ثريا التركي حتى بعد تخرجها وصولاً لمعركتها الأكبر لتحضير الدراسات العليا في الولايات المتحدة وسط مشاعر متخبطة بالخوف من هذا المجهول الأميركي، وعدم الرغبة في العودة إلى بلادها، بعد إتمام دراستها الجامعية في مصر: «أي أمان في حياتي سيكون في عودتي إلى السعودية والحياة في كنف زوج يتحكم في شؤوني، وأصبح ظلاً لقراراته؟».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي

تدرس ثريا في جامعة «بركلي» بقسم الدراسات العربية وتنخرط في دراسة الأنثروبولوجيا في مسار أكاديمي يظل يتسع تدريجياً داخل أروقة الجامعات الأميركية فتتعرف داخلها على التيارات السياسية، «منظمة الطلبة العرب» ونقاشات القضية الفلسطينية في مقابل سياسات الولايات المتحدة تجاه العرب وحركة المد الصهيوني، تتذكر ثريا كيف تزامن كل هذا مع نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967 وانكسار مصر وقتها، والصدمة القاسية مع توارد أنباء هزيمة الجيوش العربية.

ورغم التعليم الأجنبي الذي تلقته على مدار حياتها والدراسات العلمية والكتب البحثية التي نشرتها بالإنجليزية، فإن سؤال الشرق والغرب يظل حاضراً في وجدانها، فيشغلها مثلاً موضوع ذوبان الهوية العربية في الثقافات الأخرى، وتذكر أنها طالما ما كانت تسأل طلابها: لماذا نكتب باللغة الإنجليزية إذا كان بمقدورنا الكتابة بالعربية؟، تظل تحمل هذا السؤال، كما تحمل داخلها غصة بسبب أمنيتها التي لم تتحقق بأن تعمل بالتدريس في جامعات المملكة العربية السعودية، وتقول: «عندما يعمل الإنسان وينتج فوق تراب بلده الذي وُلد فيه يتضاعف شعوره بالإنجاز والإسهام في بناء وطن يسكنه قلبه»، وتتحدث عن أن عملها بالتدريس بالجامعة الأميركية بمصر والحياة فيها كان تعويضاً عن سنوات الغربة، حيث عاشت في مصر الجزء الأكبر من حياتها، وتصفها: «مصر مكاني وموطني المختار».

تتكئ الكاتبة على قيمة الصداقة التي تتسلل على مدار محطات الكتاب، وتخصص لها فصلاً خاصاً، يقع في 244 صفحة، ويضم مجموعة متنوعة من الصور تظهر فيها في مراحلها العمرية بصحبة أفراد عائلتها وأصدقائها. وتتوقف عند إحداها في مرحلة التسعينات خلال قضائها عطلة مع عائلتها في «سيردينيا» الإيطالية، تقول إن زوجها عندما نظر لصورتها تلك علّق بأنها صورة «ثريا الأصلية»، فتحاول تفسير ذلك قائلة: «هي صورة لسيدة تشعر بالراحة مع نفسها، والرضا تجاه هُويتها».