مي المنقرية وذو الرمة: الماء يطلق شرارة الحب ولا ينجح في إطفائها أبداً

لغته الجاهلية المتسمة بالوعورة أكسبها الحب كثيراً من الرقة

مي المنقرية وذو الرمة... صورة تخيلية
مي المنقرية وذو الرمة... صورة تخيلية
TT

مي المنقرية وذو الرمة: الماء يطلق شرارة الحب ولا ينجح في إطفائها أبداً

مي المنقرية وذو الرمة... صورة تخيلية
مي المنقرية وذو الرمة... صورة تخيلية

لم يحظَ غيلان بن عقبة التميمي الملقب بذي الرمة، بالاهتمام نفسه الذي حظي به أقرانه من شعراء العصر الأموي، سواء أولئك الذين شغلتهم موضوعات المديح والهجاء والسياسة كالأخطل والفرزدق وجرير، أو الذين شاطرهم اهتمامهم بموضوع الغزل والحب، مثل عمر بن أبي ربيعة والشعراء العذريين. والأرجح أن السبب في ذلك يعود إلى ملازمته الصحراء وابتعاده عن المدن والحواضر ومركز الخلافة، فضلاً عن وعورة شعره الذي عُرف بالطرديات. إلا أن في تجربة ذي الرمة ما يمكن حمله على محمل المفارقة البحتة، حيث إن اللغة الخشنة والمخيلة البرية اللتين عبر بواسطتهما عن عالم الصحراء الموحش، يخليان مكانيهما حين يتعلق الأمر بالحب، إلى مفردات وصور أقل وعورة وتعقيداً، ويكتسبان الكثير من الرقة والعاطفة الصادقة والسلاسة التعبيرية.

جوانب القوة الشعرية

أما معاصرو ذي الرمة من الشعراء والرواة والنقاد، فقد رأوا أن جوانب القوة في شعره تتمثل في جودة وصفه، كما ذهب الكميت، وفي تميز تشبيهاته ورقة شكواه، كما ذهب الأصمعي، وفي كونه أخذ من طريف الشعر وحسنه ما لم يسبقه إليه أحد، كما قال جرير والفرزدق. وحيث وضعه كثيرون في مقدمة الطبقة الثانية من الشعراء، آخذين عليه إلحاحه على تناول موضوعات الطلول والإبل وعوالم الصحراء، فقد رأى حماد الراوية أن ما أخّر القوم عن ذكره هي حداثة سنه وحسدهم له، كما عدّه ابن قتيبة أوصف الشعراء وأحسنهم تشبيهاً، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع. وإذ عده البعض آخر شعراء الجاهلية، ذكر الرواة أن ذا الرمة لم يكن الشاعر الوحيد وسط أسرته، بل كان أشقاؤه الثلاثة مسعود وجرفاس وهشام يتبارون في نظم الشعر.

والطريف في الأمر أن الخلاف حول ذي الرمة، لم ينحصر في الجانب الشعري وحده، بل تعداه إلى الجانب المتعلق بملامحه ومواصفاته الشكلية. ففي حين يذكر محمد بن داود أن ذا الرمة كان مدوّر الوجه حسن الشَّعر أجعده أقنى أنزع أكحل وحسن الضحك، يذكر سيد الغنوي أنه كان «كناز اللحم مربوعاً قصيراً وأنفه ليس بالحسن». والأرجح أنه كان وفق معظم معاصريه، أقرب إلى الدمامة منه إلى الوسامة، بحيث اضطرت أمه إلى مخاطبة الهازئين منه بالقول: «استمعوا إلى شعره ولا تنظروا إلى وجهه».

وُلد غيلان بن عقبة بن ربيعة التميمي في نجد عام 696 م، وكان يكنّى منذ صغره بأبي الحارث. أما لقب ذي الرمة الذي اشتهر به، فقد اختلف حوله المؤرخون، حيث روى بعضهم أن خرقاء العامرية قد لاحظت في أثناء شربه الماء أنه يضع على كتفه قطعة من حبل مهترئ، فقالت له: «اشرب يا ذا الرمة». وروى آخرون أن الحصين بن عبدة الذي صنع له تعويذة تقيه من رهاب الظلمة، قابله وهو بصحبة أمه بعد سنوات، وإذ استحسن أبياتاً رددها غيلان على مسامعه، التفت إلى أمه قائلاً: «لقد أحسن ذو الرمة»، فغلب اللقب على اسمه الأصلي.

أما عن شرارة الحب الأولى التي اندلعت بينه وبين مي، فيخبرنا أبو الفرج الأصفهاني أن ذا الرمة خرج في طلب الماء مع أخيه وابن عمه، حتى إذا أقبلوا على حوض عظيم، وجدوا امرأة عجوزاً تقف وراءها صبية فاتنة الجمال. وحين استسقوهما التفتت العجوز إلى الفتاة وأشارت إليها أن تصب الماء في قربة غيلان، الذي ألهاه افتتانه بالفتاة عن تثبيت القربة بحيث كان الماء يندلق بمعظمه في الخارج. وحين لاحظت العجوز ذلك قالت له «يا بني، ألْهَتْكَ مي عمّا بعثك أهلك له، أما ترى الماء يذهب يميناً وشمالاً؟». فقال ذو الرمة للعجوز: «أما والله ليطولنّ هيامي بها». وحين خاطبته مي بقولها إن أهله كلّفوه أكثر من طاقته وهو بعد غلام حديث السن، استشعر استصغارها لشأنه فارتجل أبياتاً من الشعر كانت الأولى التي نظمها في حياته.

وإذا كانت هذه القصة تتقاطع مع الكثير من قصص الحب المماثلة عند العرب، وبينها قصة جميل مع بثينة، حيث الطرفان يلتقيان عند الماء ويتعاركان حول أولوية الانتفاع منه، فلأن الماء يمتلك في عالم الشظف الصحراوي دلالته الخاصة بوصفه رمزاً للحياة نفسها. وحين تتشابك عبره ومن حوله النظرات الولهى للبشر المتحابين، تبدو كأنها تبحث عن مواءمة مستحيلة بين عنصرَي الماء والنار، اللذين لا قِبل لأحدهما أن يتعايش مع الآخر. كما أن العراك الذي يسبق العشق، يعكس حالة التوتر التي ترافق الانجذاب إلى الآخر من جهة، والخوف من عدم استجابته من جهة أخرى، بما يجعل الحب نوعاً من الرقص على الحبال الفاصلة بين الشغف والتوجس، أو بين الانجذاب وسوء التفاهم. ولم يقتصر أمر التشابه بين الشعراء العشاق على سيرهم الشخصية وحدها، بل يطال أشعارهم في الوقت ذاته. إذ إننا نعثر على الكثير من ظلال جميل بثينة في لاميّة ذي الرمة التي يقول فيها:

خليلي عوجا عوْجة ناقتيكما

على طللٍ بين القرينة والحبْلِ

وهل همَلانُ العين يُرجع ما مضى

من الدهر أو يدنيكِ يا مي من أهلي

أقول وقد طال التنائي ولبّست

أمورٌ بنا أسبابَ شغلٍ إلى شغلِ

ألا لا أبالي الموت إن كان قبله

لقاءٌ لميّ وارتجاعٌ من الوصلِ

اللقاء الأول

ويروي أحمد بن الحسين السراج في «مصارع العشاق»، أن صديقاً لذي الرمة مسناً وبالغ الظرف، عرض عليه أن يرافقه على ناقته للقاء مي والوقوف على أحوالها، وحين وصلا إلى ديارها كان بنو منقر قد ذهبوا جميعاً إلى الغزو، فتحلقت حولهما النسوة، ثم ظهرت مي بوجهها الصبوح وقوامها الرشيق وشعرها الأسود الفاحم. ولم تكد النسوة تطلبن من الشاعر العاشق شيئاً من الشعر حتى أنشد:

وقفتُ على رسمٍ لميّة ناقتي

فما زلتُ أبكي عنده وأخاطبُهْ

وأسقيهِ حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبُهْ

ثم يتابع السراج قائلاً بأن مياً كانت قد أهدت ذا الرمة قارورة فيها دهنُ طيِب وقلادة لمعصمه، عاهدها ألا يخرجها من يده أبداً.

وكما ألحّ قيس وجميل وعروة على اقتحام منازل حبيباتهم، كذلك فعل ذو الرمة الذي لم يتوانَ عن زيارة منزل حبيبته الزوجيّ، ظناً منه أن زوجها لن يكتشف هويته الحقيقية، وسيستقبله بترحاب كما يستقبل العرب ضيوفهم. إلا أن زوج مي عرف غريمه ورفض استقباله، فبدأ الشاعر ينشد بصوت مرتفع:

أتاركة يا مي أيامنا الألى

بذي الإثل، أم لا ما لهن رجوعُ؟

وإذ سيطرت على الزوج مشاعر الغيرة والشك بماضي زوجته، وهتف بالأخيرة «قومي اشتميه وقولي له: أيها السافل أيّ أيام كانت لي معك بذي الإثل؟»، فأجابته بقلق: «إنه ضيف، والشاعر يقول أي شيء». على أن الزوج لم يقتنع بجوابها ثم انتضى سيفه وهدد بقتل ذي الرمة، قبل أن تذعن مي وتنفذ ما طلبه زوجها منها. وقد وفرت الصدفة للشاعر سبيلاً لرد الإهانة، حين ركب مع بعض أصحابه قاصداً ترقيع خفه الممزق، فالتقى كوكبة من الجواري. وحيث استهوته بينهن فتاة رائعة الجمال، وسألها مازحاً إذا كانت ترضى برتق خفه، أجابت بأنها خرقاء لا تحسن ذلك العمل. فأطلق عليها ذو الرمة اسم خرقاء، وشرع في التغزل بها ليثير من خلالها غيرة حبيبته. ولم تقف الأمور بين الطرفين عند ذلك الحد، بل إن الشاعر وبعض أصحابه التقوا مياً وسلموا عليها، فقالت: «وعليكم إلا ذا الرمة». فنظم في ذلك أبياتاً تتجاوز العتاب إلى الهجاء، قائلاً:

أيا مي لا مرجوع للوصل بيننا

ولكنّ هجراً بيننا وتَقالِيا

ألا تريَنَّ الماءَ يخبث طعمُهُ

وإن كان لونُ الماء في العين صافيا

وبينما يدحض بعض النقاد المحدثين وقوع مثل هذه الحادثة، يذهب ابن قتيبة إلى القول بأن مياً التي ساءها كثيراً قول ذي الرمة، سألته غاضبة ومستنكرة: «أتحب أن تذوق طعم الماء؟»، قال: «إي والله»، فقالت له: «ستذوق الموت قبل أن تذوقه».

ولم تكن مي تعلم أن ما وعدت به شاعرها العاشق آنذاك سيكون له طابع الاستشراف وقوة الحدس، وهو الذي استشعر موته المبكر حين قال: «أنا ابن نصف الهرم». وحين أحس ذو الرمة بالاعتلال ودنوّ الأجل، أشار لأهله وهم يمرون في إحدى الوهاد أنه لا يحب أن يُدفن في بطون الأودية، فدفنوه في مكان مرتفع يُدعى رملة الدهناء، كان قد ذكره كثيراً في شعره. أما مي المنقرية فقد عاشت من بعده إلى أن أدركت سن الشيخوخة، حتى إذا سألها أحد الخبثاء: «ما الذي دفع ذا الرمة إلى أن يقول فيكِ ما قاله من شعر؟»، أشارت إلى جارية شابة وفائقة الجمال وقالت له: «يا بنيّ، لقد رأيتني وقد ولّيتُ وذهبتْ محاسني، ولو رأيتني يومئذ لازدريت هذه الفتاة».

الخلاف حول ذي الرمة لم ينحصر في الجانب الشعري وحده؛ بل تعداه إلى الجانب المتعلق بملامحه ومواصفاته الشكلية


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.