حليم بركات... الصراع بين الانتماء الوجداني ووطن الهجرة

رحل في مغتربه الأميركي عن عمر ناهز التسعين عاماً

حليم بركات
حليم بركات
TT

حليم بركات... الصراع بين الانتماء الوجداني ووطن الهجرة

حليم بركات
حليم بركات

حليم بركات (1933 - 2023) عالم الاجتماع والروائي السوري-الأميركي الذي غادر الحياة قبل أيام عن عمر يناهز التسعين... كيف نوفِّق بين هويتيه، السورية العربية والأميركية؟ وُلد في سوريا ونشأ وتعلّم في بيروت حتى غادر للحصول على الدكتوراه من جامعة ميتشيغان، آن آربر، ورجع للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت لفترة قصيرة قبل أن يعود للحياة والعمل في عدد من الجامعات الأميركية في أوائل السبعينات حيث استقر للخمسين سنة التالية حتى رحيله. أسئلة الهوية والانتماء والغربة كانت تؤرقه في بحوثه الاجتماعية الكثيرة كما في حفنة الروايات والقصص التي خلّفها وراءه، وهو في هذا لا يختلف عن غيره من المثقفين العرب المغتربين، مثل إدوارد سعيد وهشام شرابي من معاصريه الأكاديميين، أو أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وفيليب حِتّي إنْ شئنا الرجوع إلى الرعيل الأول من مغتربي العرب في أميركا.

لعل أسئلة الهوية والصراع بين الانتماء الوجداني الأصلي وبين وطن الهجرة... لعلها لا تحتدم مثلما تفعل زمنَ الأزمات الكبرى التي يجد فيها المغترب نفسه وسط بيئة سياسية وثقافية معادية لوطن المنشأ والوجدان. هذا هو الموقف الذي وجد بركات وغيره من مثقفي المهجر الأميركي أنفسهم فيه لدى اندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية في يونيو 1967 والذي اختار أن يتناوله بالتأمل في أشهر رواياته «عودة الطائر إلى البحر» المنشورة في 1969 بعد سنتين فقط من الحرب، والتي تُرجمت لاحقاً إلى الإنجليزية بعنوان «Days of Dust» أو «أيام الغبار».

الشخصية الرئيسية في الرواية هي لأكاديمي فلسطيني اسمه رمزي صفدي يعيش ويعمل في بيروت، الذي اصطلح النقاد، ولم يختلف معهم بركات، على أنه شخصية رامزة إلى المؤلف. تصور الرواية أجواء الحرب من بداياتها المتفائلة بالنصر الأكبر إلى الهزيمة السريعة وما تلاها من هوان ويأس. تدور الأحداث ما بين بيروت ومدن الضفة الغربية في الأردن. ولا خلاف أن الرواية تسجيلية في جانب كبير منها، حيث إن الحكايات التي تصوِّر الأثر المدمِّر للحرب على حياة آلاف الفلسطينيين من موت وعاهات ودمار بيوت ونزوح قسري تعتمد جميعاً على بحوث ميدانية ومقابلات استبيانية يُجريها رمزي صفدي في الرواية، وهو عين ما فعله نظيره خارج الرواية، حليم بركات نفسه، الذي أجرى البحث الميداني في عمّان عقب الحرب بالاشتراك مع الأكاديمي الأميركي Peter Dodd وصدرت الدراسة بالإنجليزية عام 1968 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان «نهر بلا جسور: دراسة لنزوح اللاجئين العرب في 1967». ولا يُخفي بركات أن الرواية جاءت كتكملة للبحث الميداني، فقد صرّح بعد ذلك بسنوات طويلة في حوار مع مجلة «الآداب» البيروتية (المجلد 48، العدد 5 – 6، 2000) بأنه أحس بأن الدراسة الأكاديمية لم يمكنها تغطية الجانب الإنساني، ومن هنا اضطلاعه بكتابة الرواية لتلافي ذلك النقص.

إن كانت الرواية واقعية تسجيلية في طرف منها فإنها توغل في الرمزية في الطرف الآخر، حيث تؤطّرها بنية أسطورية تحفل بالإشارات إلى «الكتاب المقدس» وشعراء من قبيل ت. س. إليوت وأودن، وأسطورة «الهولندي الطائر» كما صوّرها ريتشارد فاغنر في أوبراه الشهيرة، وأوراتوريو المسيح للموسيقار هاندل، مروراً بالكوميديا الإلهية لدانتي، والإلياذة لهومر، وملحمة غلغامش، والحكايات الشعبية الفلسطينية وغير ذلك. ولا شك أن بعض الإحالات الرمزية تُثري المضمون وتقوم مقام الخيط المتصل الذي يربط بين الحكايات المتشذرة القائمة على البحث الميداني. إلا أنه يمكن القول إن الرواية ينوء كاهلها تحت ثقل الإشارات الرمزية الكثيفة النابعة من قراءات الكاتب الواسعة والتي أطلق لها العنان بغير كابح.

نعود إلى سؤال الهوية والموقف من بلد المهجر، وهو سؤال أساسي يكمن وراء رواية بركات. هذا السؤال يعالجه الكاتب من طريق قصة حب محورية بين الفلسطيني رمزي صفدي وبين امرأة أميركية تُدعى باميلا أندرسون، تنتمي للثقافة الهيبية Hippie السائدة وقت كتابة الرواية والداعية إلى الحب والإخاء والسلام بين البشر. باميلا رسامة فقيرة وإن كانت مثقفة ومغرمة بالمنطقة العربية وأهلها. قصة الحب بين الأكاديمي الفلسطيني بطل الرواية وبين الأميركية باميلا هي مفارقة عمدية في صلب الرواية، فهي علاقة حب بين عربي وأميركية على خلفية صراع دموي بين العرب وإسرائيل تتبنى فيه الدولة الأميركية الطرف الإسرائيلي بلا قيد ولا شرط وفي غير احتفال بقيم الحق والعدل. على أن باميلا على طرف نقيض من حكومتها؛ فهي متفهمة للقضية العربية ومتعاطفة معها. ولعل هذا هو السبب أن حليم بركات اختار أن يصوّرها فقيرة ومنتمية إلى فلسفة الهيبيز الرافضة لقيم المجتمع الرأسمالي وللأخلاق السائدة، إذ نسمعها تقول لرمزي إن الحكومة الأميركية قد أضحت أداة في يد المؤسستين الصناعية والعسكرية، وأنها تقف ضد الشعب الأميركي تماماً مثلما هي ضد الفيتناميين والعرب.

كأن حليم بركات يسعى هنا إلى حل مشكلة انفصام الهوية والصراع الوجداني لديه بين الانتماء الأصلي وبين الوطن المهجري المعادي للوطن الأم – كأنه يسعى إلى حل يتمثل في التفرقة بين أميركا كدولة وأميركا كأفراد. الفهم والحب ممكنان على المستوى الفردي، كما يحدث بين رمزي وباميلا، اللذين لا تَحول بينهما السياسة المتعجرفة الظالمة للدولة. يحلّ بركات الصراع على مستوى آخر أيضاً هو روايته ذاتها. فهي كنص أدبي تتناصّ وتتآخى مع عشرات النصوص الغربية من مختلف مراحل التاريخ، كما رأينا في استغلال الكاتب الموروث الغربي الأسطوري والأدبي في خلفية الرواية.

على أن هذه الرؤية التصالحية التي طرحها بركات في «عودة الطائر إلى البحر» في 1969 تبدو كأنها تذهب بدداً في روايته القصيرة «طائر الحَوْم» التي أعقبتها بما يقرب من 20 عاماً في 1988، هي إن أنصفنا عمل أقرب إلى السيرة الذاتية وإن ارتدى ثوباً قصصياً شفافاً. بطل الرواية وراويها هو أستاذ جامعي أميركي عربي الأصل، ولا أظننا نطلب مؤشراً على التماهي بين الشخصية والكاتب أكثر من ذلك. كان بركات آنئذٍ في أواخر العقد السادس من عمره، وقد استقر في أميركا نحو خمس عشرة سنة متصلة. الرواية عبارة عن فعل استرجاع وتأمل للماضي يسرده ذلك الأستاذ الجامعي المولود في الكفرون في سوريا تماماً مثل حليم بركات. الحدث يدور في حقبة الثمانينات، الحقبة اليمينية المتشددة للرئيس رونالد ريغان (1981 - 1989). ولا نبالغ إن قلنا إن الكتاب هو إدانة سافرة للثقافة الأميركية، على نحو لن يستغربه مَن تابع كتابات حليم بركات غير الأدبية، وبخاصة في الوسائط الإعلامية، في تلك الفترة. فلنتأمل في تداعي أفكار الراوي أمام أنباء الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 والذي حظي بتأييد حكومة ريغان:

«لماذا أنا في واشنطن وجبال شنندوه؟ لماذا لم أكن فيكِ يا بيروت وقتَ حصارك؟ لماذا لم أقاوم الدبابات الإسرائيلية وهي تسحق الأزهار البرية في الجنوب؟ المقاومة ملح الأرض».

«أنتِ أيتها الحضارة المُقَنَّعَة أرفضكِ. هزيلة هزيلة. أُعلنكِ هزيلةً وحقيرةً. تُسمِّين الأبطال المحررين إرهابيين. أُعلنكِ إرهابيةً. تصنِّفين العالم إلى متحضرين وبرابرة. أعلنكِ بربريةً مع أنني أمُجُّ هذه اللغة، فربما تفهمين لغتك. أُعلنك هزيلةً وحقيرةً. أناقتكِ قناع. أزياؤك الجميلة أقنعة. أنت لا تعرفين ولكنني أنا أعرف أن هناك علاقة بين انشغال شعبك بتخفيف وزنه بسبب التخمة وجوع أفريقيا. ديمقراطيتك افتراس مهذب أنيق. مصابة بالعفن».

سؤال الهوية يواجه كل مثقف عربي في المهجر الغربي وهناك شعور بالذنب؛ شعور بالقهر، شعور بالوجود في المكان الخطأ

في هذا المقتطف بقسميه الإجابة عن سؤال الهوية الذي واجهه حليم بركات والذي يواجه كل مثقف عربي في المهجر الغربي. هناك شعور بالذنب. شعور بالقهر. شعور بالوجود في المكان الخطأ. المكان الآمن المتنعم بينما وطن المنشأ والوجدان في خطر ومعاناة. شعور أشبه بالوجود بين صفوف العدو. شعور بالتخلي وهجران القضية. ثم هناك رغبة في التنفيس عن هذا الشعور بنوع من الصراحة الشرسة في إدانة الحضارة الغربية والكشف عن زيفها ونفاقها في غير مواربة.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.