نجيب محفوظ وثورة يوليو 1952

كان ضد الحكم الشمولي والدولة البوليسية خاصة في ستينات القرن الماضي

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

نجيب محفوظ وثورة يوليو 1952

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

حين نشر نجيب محفوظ روايته الكبرى «أولاد حارتنا» مسلسلة في جريدة الأهرام سنة 1959، ثارت حولها الضجة الشهيرة، وكيلت لها الاتهامات بالخروج على الدين. اتهامات تجاهلت تماماً أنها رواية ذات رؤية، يجب ألا تعامل وكأنها نص جدلي يدلي برأي ناصع قاطع. الحق أن ما فعله محفوظ في تلك الرواية الكنائية allegorical كان تأملاً في الحال البشري وعلاقته بالمطلق، بالميتافيزيقي.

أخذ التراث القصصي الديني منذ الخلق الأول، مروراً ببعض الشخوص الدينية المذكورة في التوراة والقرآن، ووصولاً إلى العصر الحديث الذي اضطلع فيه العلم بدور الدين القديم في تفسير الكون – أخذ هذا كله ونزع عنه هالات التقديس، وصبه كله في حارة مصرية تتوالى عليها الأجيال، ويتوالى عليها الصراع بين الخير والشر. بين الغني والفقير. بين القوي والضعيف. بين الظالم والمظلوم. بين الناهب والمنهوب.

صراع يظهر فيه الأبطال المصلحون المثاليون الفدائيون أصحاب المبدأ ونصراء الخير والحق، كما يظهر فيه الأشرار المحتكمون للقوة الباطشة السالبة للحقوق، المستعينة بالفتوات والبلطجية لفرض العبودية والفقر والخنوع على بسطاء الناس الذين هم الغالبية الساحقة.

وهكذا تحولت الشخصيات الدينية التاريخية في الإطار الرمزي للرواية إلى أبطال مصلحين يتصدُّون للشر، وكلما هُزم واحد، تبعه آخر بمحاولة جديدة في جيل تالٍ وهكذا دواليك. إلى أن وصل بطل الجيل الأخير، العلم. لكن حتى هذا تحول إلى سلاح في يد العصبة الشريرة للسيطرة على الغالبية المسحوقة. ويستمر الصراع. كلما ظهر الحق، عاد الباطل منتصراً من جديد، ذلك أن «آفة الحارة النسيان»، كما يقول الراوي في تلك العبارة التي تلخص الحال البشري خير تلخيص.

هذه القراءة للرواية والخلوص منها إلى الاستنتاج الجاهل أنها تعريض بالديانات هي التي سادت. ولكن ثمة قراءة أخرى قد لا تنفي هذه القراءة، وإنما تضيف إليها. وهي قراءة حرص محفوظ نفسه على لفت النظر إليها. جاءت هذه الرواية بعد خمس سنوات من الانقطاع عن الكتابة. كان محفوظ قد أتم كتابة «الثلاثية» في 1952 وإن كانت بقيت غير منشورة حتى 1956 - 1957. ثم وقع الانقلاب العسكري، أو «الحركة المباركة» أو ما عرف بعد ذلك بثورة 23 يوليو (تموز) 1952. جاءت الثورة بتغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية هائلة وفي وقت جد قصير. توقف محفوظ عن الكتابة بينما يحاول استيعاب هذا المجتمع الجديد الذي قفز إلى الوجود بين عشية وضحاها. وحين استقر الغبار وتشكلت معالم النظام بوضوح، وبدأ محفوظ يفهم المشهد والتحولات الرهيبة التي استجدت، عاد للكتابة وكانت باكورة إنتاجه هي «أولاد حارتنا».

كان النظام قد ألغى الحياة الديمقراطية. لا أحزاب. لا حياة نيابية. لا معارضة. لا صحافة حرة. لا حرية تعبير. حكم الرجل الواحد. والاعتقال والتنكيل لكل من عارض. كانت معالم الدولة الشمولية قد برزت بوضوح، مشيرة إلى الطريق الذي استقر عليه الضباط الأحرار بعد شيء من التردد والصراعات الداخلية. نعود الآن إلى حكم الناظر الظالم وفتواته المتجبرين في الرواية.

كان محفوظ يريد التحذير عن طريق الرمز من المضي في طريق «الفتونة» والحكم بالقوة الطاغية. ولا ننسى في هذا السياق أن توفيق الحكيم كتب في الفترة نفسها، في عام 1960 مسرحيته العظيمة «السلطان الحائر»، التي وضعها في سياق العصر المملوكي، ولجأ فيها أيضاً إلى أسلوب المجاز الكنائي، لكي يطرح أمام النظام وقائده أن عليهم الاختيار بين الحكم بالسيف أو الحكم بالقانون. إذا نظرنا لرواية محفوظ، وجدنا أن النظام اختار «الفتونة»، وإذا نظرنا من منظور الحكيم، وجدنا أن النظام خرج من حيرته القصيرة باختيار «الحكم بالسيف».

كان محفوظ ليبرالياً ديمقراطياً اشتراكياً طوال عمره. كتاباته الإبداعية وتصريحاته المباشرة تنطق كلها بذلك من مبدأ حياته إلى آخر أعماله. كان ضد الحكم الشمولي والدولة البوليسية كما نرى في سلسلة أعماله المنشورة في ستينات القرن الماضي بصفة خاصة، التي تنضح بنقد الفترة الناصرية من تاريخ مصر المعاصر، بينما كانت ما زالت في أوج عنفوانها. هذه العقيدة بقيت مع محفوظ حتى آخر أيامه، كما نرى في هذا الحلم من «الأحلام الأخيرة»، التي نُشرت بعد وفاته بسنوات في 2015.

«هذا هو الأمير توت عنخ آمون ينسلخ من مستقره كمومياء ليسير في شوارع القاهرة بعد منتصف الليل. وإذا بقوة من الشرطة تحيطه وتمضي به إلى المعتقل. ولكنه يفلت منهم بطريقة سحرية ويعود إلى مستقره كمومياء. ولكن إدارة الأمن أعلنت أنها قبضت على مفجِّر القنبلة، وأنه اعترف ودلّهم على الخلية التي يعمل بها فقبضوا عليها والتحقيق مستمر». (الحلم 492) عبثية الحلم لا تخفي مغزاه الواضح. فلا أحد بمنجى من ذراع الدولة البوليسية، حتى وإن كان مومياء ملك مات من آلاف السنين.

وعلى العكس من هذا الحلم السريالي، فبعض أحلام محفوظ لم تكن تتكلف غرائبية الأحلام، بل تنفذ مباشرة إلى معناها الواقعي التقريري. من مثال ذلك الحلم رقم 442، أيضاً من «الأحلام الأخيرة» حيث يقول: «رأيتني أصافح زميلي القديم (ع)، الذي فصلته من العمل لجنة التطهير عقب قيام الثورة، فقال لي إنه تابع بعض أعضاء اللجنة وكانوا أفقر منه وهم الآن يركبون السيارات ويقطنون القصور».

لا يمكن أن يكون هذا حلماً بأي تخريج من التخريجات، فليس فيه شيء من مواصفات الأحلام، وإنما هو رأي معروف لنجيب محفوظ، مؤدّاه أن طبقة الضباط الأحرار ورجال 1952 عموماً قد ورثوا مميزات الطبقة التي أزاحوها من الحكم. وقد صور محفوظ هذا تصويراً واضحاً غاية الوضوح في روايته «السمان والخريف» المنشورة 1963، كما تناوله أيضاً في الجيل الأعظم من روايات الستينات، مثل «اللص والكلاب» و«الشحاذ» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار».

وإذا كان نجيب محفوظ يستخدم توت عنخ آمون في أحلامه ليسخر من الدولة الأمنية كما رأينا أعلاه، فلننظر إلى استخدام آخر لأعلام التاريخ المصري القديم هذه المرة في مقالة تقريرية وليس في حلم. في تاريخ 23 أبريل (نيسان) 1987 يكتب نجيب محفوظ في عموده «وجهة نظر» في الأهرام، مستشرفاً عيد تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي (25 أبريل)، يقول: «ولتكن أيضاً مناسبة نذكر فيها أبطال التحرير، مثل أحمس وعمر مكرم، وعرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومحمد نجيب، وجمال عبد الناصر (وكان قد ذكر السادات في موضع آخر من المقالة)، الأحياء في قلوبنا وفي رحاب ربهم».

 لم يكن التاريخ عنده شيئاً من صنع القادة والمفكرين وحدهم، لكنه من صنع الإنسان العادي أيضاً

إنها نظرة محفوظ التاريخية الشاملة التي تجعله يضم إلى هذه القائمة اسم أحمس الأول الفرعون المصري العظيم، مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، ومحرر مصر من رعاة الشمال، الهكسوس، الذين احتلوا مصر السفلى لنحو مائة عام، بينما انحصر حكم الفراعنة في مصر العليا في طيبة، إلى أن شن أحمس حملة طردتهم من مصر السفلى ومن سيناء، معيداً مجد الإمبراطورية المصرية القديمة.

كان ذلك منذ نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، إلا أن نجيب محفوظ (الذي كتب روايته التاريخية الشهيرة «كفاح طيبة» (1944) عن بطولة الملك أحمس) يقرن اسمه بأسماء قادة مصر المعاصرين من القرن العشرين. هذا هو الفهم الحقيقي لتاريخ مصر وتسلسله عبر العصور. هذا هو الوعي الوطني، الذي يدرك الصلة والتشابه والقدوة الصالحة عبر آلاف السنين. لكن ليس كذلك سلوك حكام مصر المعاصرين، حيث كل حاكم يظن أن تاريخ مصر يبدأ به، وأن ما قبله كان عدماً.

للسبب نفسه يذكر محفوظ في القائمة نفسها اسمي مصطفى النحاس ومحمد نجيب، وقد كانا من الأسماء الممحوة من تاريخ مصر، في الفترة الناصرية، وكانت كتب التاريخ تعلم التلامذة أن عبد الناصر كان أول رئيس للجمهورية المصرية، متجاهلة محمد نجيب. لو كان لدى الدولة وجهازها الإعلامي والتعليمي حسّ بالتاريخ المصري، لكان اسم أحمس تردد عالياً يوم تحرير سيناء، فما حدث في حرب 1973 وحتى اكتمال تحرير سيناء في 1982 ثم 1989 هو بالضبط ما قام به أحمس الأول قبل 35 قرناً من الزمان.

لم يكن التاريخ عند محفوظ شيئاً من صنع القادة والمفكرين وحدهم، لكنه من صنع الإنسان العادي أيضاً، الذي خرج إلى الشارع في 1919 في مواجهة رصاص الإنجليز. كانت ثورة 1919 وليس حركة 1952 هي النموذج الأمثل عنده لقدرة الشعوب على إحداث التغيير. وهو ما نجد مصداقه في هذه الخاطرة لكمال عبد الجواد من «السكرية»، الجزء الثالث من الثلاثية: «في المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل دارون وبرجسون ورَسِل، وفي هذا السرادق (السياسي) آلاف من الأصدقاء، يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون الأُوَل خلقاً للحوادث وصنعاً للتاريخ».


مقالات ذات صلة

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب غلاف الرواية

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق على مدى عشرة أيام تزين فعاليات معرض الكتاب العاصمة السعودية (هيئة الأدب)

علوان: معرض الرياض للكتاب أيقونة ثقافية وأكبر المعارض العربية في مبيعات الكتب

بات معرض الرياض الدولي للكتاب عنواناً للريادة الثقافية للسعودية منذ انطلاقه قبل خمسة عقود وتحقيقه سنوياً لأعلى عوائد مبيعات الكتب بين المعارض العربية.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق ترتبط نورة بعالم لغة الإشارة بشكل شخصي بسبب قصة شقيقتها الكبرى (تصوير: أمنية البوحسون) play-circle 02:39

مترجمة سعودية تفتح نوافذ المعرفة لجمهور الصمّ بـ«معرض الرياض للكتاب»

تقوم مترجمة لغة إشارة سعودية بنقل ما يرِد فيها على لسان متخصصين كبار تباينت مشاربهم وخلفياتهم الثقافية إلى جمهور من الصمّ يتطلع لزيادة معارفه وإثراء مداركه.

عمر البدوي (الرياض)

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

دانيال دينيكولا
دانيال دينيكولا
TT

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

دانيال دينيكولا
دانيال دينيكولا

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة. وفي الحكاية، فإن الجهل مثل مجموعة من البشر تقطن في ظلام كهف تحت الأرض، مقيدة من الساقين والرقبة حتى تتعذر عليهم الحركة حتى لإدارة رؤوسهم، ولا تتوفر لديهم ذاكرة أخرى للحياة؛ لأنهم سُجنوا بهذه الطريقة منذ الطفولة. أمامهم، لا يرون سوى الظلال المتحركة التي تُلقيها أشياء غير معروفة لهم، مضاءة بنار متراقصة يخبرنا أفلاطون أنها تقع في مكانٍ ما خلفهم لا يمكنهم رؤيته. هذه المجموعة من البشر التعساء لا تعرف شيئاً عن هذا العالم سوى تلك الظلال، ولا تسمع سوى أصداء من أصوات الحراس، الذين لم يسبق لهم أن رأوهم قط. وعلى هذه الحال يقضون أيامهم.

«الجهل» في هذا التمثيل المروّع ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن، وأبشع من العبودية، وأقرب إلى الموت، فيقول، مستعيراً من «الأوديسة» لهوميروس عند إشارته إلى الموتى الذين يقطنون في جحيم الآخرة، حيث يظلّ «من الأفضل أن تكون خادماً متواضعاً لسيد فقير، وأن تتحمل أي شيء في هذه الدنيا، بدلاً من أن تعيش وترى ما يرون». وبينما نتأمل هذا المأزق الأفلاطونيّ المحكم، ندرك أن غياب الحريّة - وفي الصورة هنا حجز الحركة الجسديّة - يحصر عالم تجربة البشر في لُجة الجهل العميق، ويمنع عنهم خوض تجارب جديدة تتيح لهم التعلم وتفتح أمامهم آفاقاً مغايرة لما عهدوه، فيعجزون عن فهم الأشياء، أو الانشغال بأمور ذات قيمة، أو تذوق أي قيمة من قيم الجمال. إن الجهل يبدو، وفق أفلاطون، وكأنه نتاج العجز، على أن الجهلة، في حكايته، لا يدركون ولا يمكنهم أن يستوعبوا طبيعة محنتهم التي فيها يرزحون، إذ سيؤمنون في كل وقت بأن الحقيقة ليست سوى تلك الظلال المتراقصة أمامهم على جدار الكهف، وستكون تجارب حياتهم مزيجاً من خيالات مختلطة برجع صدى أصوات حرّاسهم.

كهف أفلاطون بالطبع محض خيال، وسرعان ما يشعر قارئ «الجمهوريّة» بالامتنان، لبُعدنا عن ذلك المكان القاسي والخانق بسجنائه المساكين، لكن بعد ذلك، وبشكل مرتجل تقريباً، يأتي بيان أفلاطون الصارخ والمخيف: «إنهم مثلنا، وتلك صورتنا». ومن هذه النقطة تحديداً ينطلق دانيال دينيكولا، أستاذ الفلسفة في كلية جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا، في كتابه الصادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ «فهم للجهل: التأثير الصادم لما قد لا نعرفه*»، في رحلة لاكتشاف أبعاد بحر الجهل، والتدليل على أنّه أبعد ما يكون عن مجرّد نقص في المعرفة.

يأتي هذا الكتاب في وقت من تاريخ العالم يُعرَف بعصر المعلومات، حيث لم تعد المعارف نخبوية الطابع بعيدة عن متناول الأكثرية، كما ظلّت عبر آلاف السنين، ومع ذلك يرى دينيكولا أننا قد لا نكون في كثير من الأحايين على دراية كافية، ناهيك عن تفشي المعارف الخاطئة، والاعتقادات الباطلة، والتعامي الاختياريّ، والأخبار المزيفة.

يبدو هدف دينيكولا هنا أبعد من تقديم مطارحة فلسفيّة في الأبستمولوجيا (علم المعرفة)، إذ يصرّ، في غالب الوقت على الأقل، أن يُبقي الجدل قريباً من خبرة القارئ غير المتخصص، فيبدّد من أمامه المفاهيم الخاطئة الشائعة فيما يتعلق بظاهرة الجهل بوصفه أكثر من مجرد نقص أو غياب للمعلومات، بل نتاج تفاعلات ديناميكية ومعقدة مع المعرفة، مستعيداً التمييز - الشهير الآن بفضل خطاب لدونالد رامسفيلد (وزير دفاع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش) - بين معلوم معلوم، ومجهول معلوم، ومجهول مجهول وكذلك معلوم مجهول، مستعيناً باستعارات مجازية لمقاربة الجهل: بصفته مكاناً، وحدوداً، وسدّاً، وتوجهاً.

يمكن للجهل أن يصوّر أقرب ما يكون إلى مكان/ زمان نسكن فيه: كهف أفلاطون - حيث الجهلة لا يدركون جهلهم ويركنون إلى اعتيادهم إياه ويعادون مَن قد يحاول لفت انتباههم إلى ما سواه فيحسبونه مُهَرطِقاً أو ضحية نظرية مؤامرة عليهم، مقابل فردوس «دانتي» مثلاً، نقيض الجحيم، حيث الجهل حالة سعادة يكتنفها انعدام للوعي.

الجهل ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن

أيضاً يمكن تصوّر الجهل بوصفه حدوداً فاصلة تُوقف تمدد معرفتنا، سواء الفرديّة أم الجماعيّة، لكن المساحة خارج تلك الحدود هائلة ومليئة بالوعود، والحدود نفسها ليست نهائيّة، ويمكن دائماً تحريكها من خلال التعلّم، لكن المسافة التي يمكن لبشريٍّ قطعها يومياً في استكشاف المعرفة؛ دونها سقوف، إذ لو قرأ المرء كتاباً في كل يوم من حياته فإن ذلك يبقى أقل من مجموع الكتب التي تُنشر سنوياً في الولايات المتحدة وحدها.

يمكن فهم الجهل كذلك بوصفه سداً نُشيّده باختيارنا عندما ننتخب ألا نعرف شيئاً، لاعتقادنا أنّه لا يستحق تكلفة المعرفة، أو لأنه لا يتناسب مع يقينياتنا الأيديولوجيّة، أو دوافعنا السيكولوجيّة العميقة.

وأخيراً، تخلق هذه الأماكن/ الحالات التي نخلد إليها، والحدود التي نقف أمامها، والسدود التي نختار تعليتها ما يمكن عدُّه أفقاً وتوجهاً لمقاربة الإنسان - والمجتمع - أيضاً علاقته بالعالم.

ومع توضيحه أشكال الجهل، يستعرض دينيكولا عدداً من مظاهره في مجتمعاتنا المعاصرة، ويطرح أيضاً تناقضات أخلاقية تتعلق به، إذ بينما يجري التعامل مع تجريد الجهل على أنه شيء مريع ينبغي القضاء عليه، يرى أيضاً أن بناء الثقة يتطلب أحياناً تقبُّل درجة معينة من الجهل، ثم يقترح منهجيات ممكنة لإدارة جهلنا من خلال الفضول، والسعي للمعرفة، وإلزامية التعليم، وتوظيف علوم الإحصاء والاحتمالات، وكذلك تنظيم العلاقات الاجتماعيّة من خلال الوعود، والعقود، والاتفاقيات، والالتزامات المتبادلة.

ولعلَّ أثمن ما ينتهي إليه دينيكولا في محاولته هذه القبض على الجهل هو تحذيره من الهدر على المستويين الفردي والجماعيّ الملازم للثقافة المجتمعية التي يصبح فيها الجهل مكوناً من التوجه الأيديولوجيّ، ومن ثمّ زعمه أن «الاعتراف بإمكانية جهلنا - حيث قد لا ندرك حدود فهمنا - هو باب الحكمة الذي وحده يفضي إلى مجال معرفي يسمح لنا بأن ندَع عنّا المعارف الخاطئة، ونقلل مساحة جهلنا العنيد بطلب المعارف؛ ولو بتعب وألم يرافق عملية التعلم».