أنيس الرافعي: كان هناك طموح لإنتاج نسخة مستحدثة لـ«كليلة ودمنة»

القاص المغربي الفائز بجائزة «الملتقى» للقصة القصيرة في الكويت

القاص المغربي انيس الرافعي بعد فوزه بجائزة (الملتقى) للقصة القصيرة في الكويت
القاص المغربي انيس الرافعي بعد فوزه بجائزة (الملتقى) للقصة القصيرة في الكويت
TT

أنيس الرافعي: كان هناك طموح لإنتاج نسخة مستحدثة لـ«كليلة ودمنة»

القاص المغربي انيس الرافعي بعد فوزه بجائزة (الملتقى) للقصة القصيرة في الكويت
القاص المغربي انيس الرافعي بعد فوزه بجائزة (الملتقى) للقصة القصيرة في الكويت

يمتلك أنيس الرّافعي (مواليد الدار البيضاء عام 1976)، رصيداً يربو على عشرين كتاباً في القصة القصيرة، ما بين مجموعات ومختارات ويوميات سردية ومؤلفات تجميعيّة. شارك في ملتقيات وندوات دولية مخصصة للفن القصصي بالعديد من الدول العربية في كل من مصر، والجزائر، وتونس، والإمارات، والكويت، والأردن والسعودية.

وهو حاصل على جائزة «ناجي نعمان» الكبرى للاستحقاق الأدبي (2008)، وعلى جائزة «غوتنبيرغ» الدولية للكتاب (2013)، وجائزة «أكيودي» الصينية (2014). وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة «الملتقى» للقصة القصيرة بالكويت في دورتها الأولى (2015)، وتحصل على الجائزة الكبرى لشبكة القراءة في المغرب برسم العام (2022)، وجائزة «الملتقى» للقصة العربية بالكويت (2023) في دورتها الخامسة.

هنا حوار معه حول تجربته القصصية:

* حصلت مجموعتك القصصية «سيرك الحيوانات المتوهمة» على جائزة «الملتقى» للقصة القصيرة العربية في الكويت، فبراير (شباط) الماضي، وقد قال عنها رئيس لجنة التحكيم الناقد الدكتور عبد الله إبراهيم: إنها «قصص تتحدى القارئ في وعيه، وتزعزع لديه أعراف التلقي التي رسخها فن القص التقليدي»، حدثنا عن هذه التجربة، كيف مثلّت محطة في تجربتك السردية؟

- أولاً، لا أخفيك سعادتي بما صدر عن ناقد حُجّة من قيمة وعيار الدكتور عبد الله إبراهيم، وكذا من مبدع عاشق لهذا الفن النبيل الصعب مثل رئيس الجائزة القاص والروائي طالب الرفاعي... ونعم، كانت هذه التجربة محطة جمالية جديدة داخل مشغلي المفتوح، حيث اشتغلت، تحديداً؛ على موضوعَتَي: السيرك، وتخييل الحيوان... فعلى شاكلة المنقبين عن الطاقة، الذين يرسلون شحنة صوتية إلى باطن الأرض لتعكس صورتها الباطنية، أبعث في كل كتاب قصصي شحنة روحية إلى جوف القصة؛ بحثاً عن مناطقها الزلزالية المحتملة. أبحث بلا انقطاع، وبروح مغامرة عن صدام الأشكال بداخل هذا الجنس الأدبي عسير المراس.

قصص تجريبيّة

* ازدانت هذه المجموعة برسومات مميزة، وعملت النصوص والرسوم على تقديم تجربة جميلة في السرد العربي الحديث... هل كنتَ تحاكي ما قام به يحيى بن محمود الواسطي، رأس مدرسة بغداد للرسم في نهاية العصر العباسي، في تجسيد مقامات الحريري بمنمنمات قبل نحو 800 سنة؟

- مناورتي التصويرية - القصصية مع الفنان العميق محمد العامري (فنان أردني)، تدخل ضمن سياقات اشتغالاتي الحثيثة على تلاشي الجدران الوهميّة العازلة، أو الفاصلة بين الأداءات القصصيّة، ومختلف الفنون أو الموتيفات المستحدثة؛ إذ خلصت عقب تجارب عدة إلى منقلب مفصليّ، أو بالأحرى إلى مخرجات جماليّة جديدة، أطلقت عليها مسمّى: «فن التجهيز القصصيّ في الفراغ». ففي تقديري، تبدّلت القصة بموجب هذا التخصيب إلى فن تركيبيّ رمزيّ، يتخطّى حدود النص المدوّن، والكتاب القصصيّ، والتلقّي التقليديّ. فقد كنت أراها على شاشة داخليّة وهميّة جزءاً من بيئة محيطة ومكان خارجيّ، مستوعبة مواد متباينة، ومستدعيّة علائق وأحاسيس وأمزجة مختلفة، وتراسلات متكاملة، وتضايفات محتملة، ومساكنات مزعومة، وتناضحات ممكنة. قصة منذورة للتلاشي والاضمحلال والتحلّل. حياتها تستمرّ مدّة استهلاكها، ثمّ سرعان ما يتمّ تفكيكها وتمزيقها حال الانتهاء منها. إنّها القصة - العرض.

* ماذا تعني كتابة قصص تدور أحداثها على ألسنة الحيوانات، وتسقط قضاياها على البشر في العصر الراهن... هل هي استعادة لما فعله ابن المقفع في «كليلة ودمنة»؟ أم «تهريب» للقضايا المسكوت عنها كي تصدر عبر قناة الحيوان؟

- فعلاً، كان هناك طموح لإنتاج نسخة مستحدثة لكتاب «كليلة ودمنة»، لكن وفق رؤية مضادة، وفلسفة مغايرة، أساسها؛ أولاً؛ إعادة الاعتبار للهامش التأمليّ، بوصفه تدميراً ممنهجاً للبنية الاستبدادية للخطاب القصصي، في إطار المساهمة المتعمدة في انهيار وتفكيك مركزيته الطاغية.

ثم؛ ثانياً؛ تقديم قراءة مختلفة لمجال تخييل الحيوان تبعاً لسند عجائبي، يطغى عليه السعي وراء مطاردة اللامرئي، والأرواح البعيدة الحية أو الميتة الثاوية في المتخيل الجمعي... ليس هناك أي تهريب أو مسكوت عنه بين ثنايا هذا النص؛ إذ ما يهم هو التناول الأدبي الحاذق والجمالي الخالص، وبعد نجاح هذا المشغل، يصبح نموذجه المتجسد كتابة والمتحقق فنياً، معادياً لتصوراتي القادمة عن كتابة القصة... في الحقيقة، دعني أقول لك إن ما أنتجته من قصص ليس لا سيّئاً ولا جيّداً. لا نبيلاً ولا منحطّاً. لا مضجراً ولا ممتعاً. هي فحسب قصص تجريبيّة دبّجت في حالة طوارئ وجوديّة. لا تكترث بطمأنينة الكمال. إنّها تجافي التعظيم الخاليّ من العيوب، وتستدعي سلسلة من النوائب الجماليّة والدواهي الأسلوبيّة، حتّى تتطوّر وتتقدّم إلى الأمام. إنّها على شاكلة بعض منحوتات مايكل آنجلو الناقصة، على الأخصّ «عبيده الأربعة» المتعذّر عليهم الإفلات من أسر المادّة، قصص لا مكتملة وغير ناجزة عن قصد، كي تظلّ مفتوحة على الصدفة والتأويل اللانهائيّين، متبنّية للأسلوب غير المنتهي والمتخلّى عنه أحياناً...

* بعد فوزك بجائزة الملتقى، قلت عن المجموعة: «أردت أن أجد استعارتي الخاصة، كما يفعل الكتاب العالميون، أن أجد صورة للحياة والوجود في سيرك مقلوبة فيه الأدوار بين الإنسان والحيوان»... هل يحتاج الأديب إلى الوثوق والإيمان بقدرته على تقديم فكرته؟

- منجز القاص التجريبيّ متحوّر في كلّ أوان وحين، ومخالط إلى درجة الفزع. وفي الآن ذاته، مناهض للمماثلة، ومنابذ للنمذجة... وتبعاً لهذا؛ تتعدّد أساليب القصص وتقنياتها، لأنّ الناس جميعهم لا يقومون برواية العالم وتفسيره وتخريبه بالكيفيّة ذاتها... إذن، لا وثوقية فيما أكتبه، ولا اطمئنان فيما أقترحه من حدوس كتابية شيمتها الانقلاب على قناعاتها، وقتل نفسها بنفسها...

* فنياً، هل تعدّ هذه المجموعة تكريساً لمنهجكم في التجريب السردي، الذي التزمت به طوال مشروعك القصصي؟

- الهبة الهزيلة التي عدت بها من حروب التجريب المريرة، هي ترف أن أنكر في كلّ حين أنني خضت هذه الحروب باسم التجريب. هبة أن أرجع مرّة أخرى غريباً يمشي في كلّ مرّة على شاطئ إبداعي مقفر ومليء بالحصى والقواقع الفارغة والنوارس النافقة. ألا أدّخر في جعبتي قوانين جاهزة، وحتّى إذا ما قيّض لي أن أمتلكها، فأنا مطالَب على وجه السرعة بخرقها. فكلّ ما كتبته في وقت سابق هو ما يشكّل الجزء الميّت والجميل مني، حسبما أظنّ. في الحقيقة، لا ﺃحد يعود من حروب التجريب الضّاريّة بكامل ﺃطرافه، سواء الرابح ﺃم الخاسر.

* أكثر من كاتب وناقد أطلق عليك لقب «ناسك» القصة القصيرة... في إشارة لالتزامك بهذا الفنّ السردي... ماذا تمنحك القصة القصيرة...؟

- أكتب داخل أحيزة الطرز القصصيّ فقط ولا أغادرها، حتّى وإن كانت القناعة مترسّخة لديّ بأنّ همّة المقصد وقيمة الأثر في الحاضر، يحتمل في الموازين الجائرة، ألا يكونا على قدر تداول المنجز وشيوع الصدى. لا أكثرت مطلقاً ﺑﻣﺂلات هذه الخسارة الرائعة، وأصون عهدي الأجناسيّ الراسخ... لستُ قاصاً تصادفيّاً ﺃو عرضيّاً، وإنّما كاتب قصة مداوم، وصادق العهد والطويّة. كاتب قصة إلى ما لا نهاية...

* ألا تجد أن السرد القصير يوّفر أفقاً محدوداً، مقابل الرواية، التي توّفر فضاءات أكثر رحابة؟

- يتوارى الروائيّ في جروح الآخرين، في حين يختفي القاص بين ثنايا جرحه الذّاتيّ. الروائي يخيط الجرح من الخارج، بينما يرتق القاص جرحه من الداخل. أمّا الشاعر فيتوهّم جرحاً مفتوحاً ونازفاً بحجم الكون، ويمتنع البّتة عن محاولة مداواته أو تقطيبه.

* إحدى قصص مجموعتك القصصية «مصحة الدمى» تحولت إلى فيلم قصير، كيف تتكامل التجربة الابداعية بين السرد والسينما وبقية الفنون... خاصة أننا نعلم أنك تشتغل بجميع هذه العناصر؟

- إن تبعيد أو نفيّ الجماليّات الأخرى عن القصة يفضي بالضرورة إلى إفقارها وﺇجذاب ﺃسلوبيتها. وبتحوير بسيط لمقولة المصمّم «الغرافيكيّ» الإيطاليّ برونو موناري عن الفنّ، يمكن القول: «عندما يكون كلّ شيء حكياً، فلا شيء يكون حكياً»...


مقالات ذات صلة

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

ثقافة وفنون الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
ثقافة وفنون الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت، صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
يوميات الشرق منحوتاته تعكس صمود نساء يثابرن رغم ما يُعرقل (كارين أخيكيان)

الأرميني كارين أخيكيان لـ«الشرق الأوسط»: منحوتاتي صوت معارك النساء

كارين أخيكيان نحّات من أرمينيا، تستكشف أعماله موضوعات الصمود والعواطف المركَّبة. باستخدامه أسلاك الحديد والنحاس، يبتكر منحوتات تعكس تخبُّط الروح وإنجازاتها.

فاطمة عبد الله (بيروت)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
ثقافة وفنون غازي القصيبي

غازي القصيبي... صيغة مركبة

مبادرة غازي القصيبي امتازت بما أسميه «الإبداع المركب»، فهل بسبب كونه شاعراً، اصطبغت محاضراته في التدريس الجامعي أستاذاً في العلاقات الدولية والعلوم السياسية.

محمد رضا نصر الله

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟