دون كيخوتي... النص العابر للغات والجغرافيات

أكثر من 4 قرون على رحيل سرفانتس

سرفانتس
سرفانتس
TT

دون كيخوتي... النص العابر للغات والجغرافيات

سرفانتس
سرفانتس

ها قد مرّ أكثر من أربعة قرون على رحيل مؤسس الرواية الحديثة ميغيل دي سرفانتس (1547 - 1616)، إلا أنني كلما حاولت ترتيب الأوراق المبعثرة لأحوال عصرنا هذا، وتفكيك مكوناته المتشابكة، أشعر بأنه ما زال بيننا. وكلما قمتُ بزيارة تلك المغارة الرابضة على هضبة، في كِبْرٍ تطلّ على البحر من أعالي الجزائر العاصمة ببلدية بلوزداد بالحامة، يُشبَّه لي أنني أرى طيفه يتحرك داخلها، غير آبهٍ بأحد. لم يبرحها، وقد اختارها ملجأ له، ومهجعاً له ولأحلامه وهواجسه وأمنياته ورغبته العارمة، ومحاولاته الأربع اليائسة للهرب من الأَسر نحو الضفة الأخرى من المتوسط، أو نحو وهران جهة الغرب؛ حيث كانت المدينة تحت سلطة الإسبان.

ربما من داخل رطوبة مغارة بلوزداد وظلمتها، استيقظ خياله الخِصب، وعلى بُعد أكثر من أربعمائة سنة، ومثل ساحر محترف، أكاد أسمع صوته يلاعب تفاصيل مخيّلته، ويردد أول سطر من روايته العجيبة (Don Quijote De La Mancha) دون كيخوتي دي لمانتشا:

«En un lugar de la mancha de cuyo nombre no quiero acordarme ...ect...ect».

الغريب أن هذه الرواية ظلت تخترق العصور، وكأن سرفانتس، وبحسِّه، سبق عصرنا الميكانيكي والتكنولوجي والرقمي بمئات السنين، فكأنه كان يضع منظاراً كاشفاً ومكتشفاً لأعمق دهاليز النفس البشرية المعقدة. دون كيخوتي دي لمانتشا، إنها الرواية العالمية، التي على الرغم من مُضيّ زمن طويل على صدورها، وعلى مرحلتين، وفي جزأيها: الأول سنة 1605 وكان سرفانتس بعمر السابعة والخمسين، وقد جرَّب الترحال والأَسر والحرب وفقَد بها يده اليسرى، ويصدر الجزء الثاني بعد عشر سنوات؛ أي سنة 1615، فإنها ما فتئت إلى اليوم تُغري العالم بأَسره بالقراءة، والترجمة، والمسرح، والسينما، والرسوم المتحركة، والموسيقى، والفن التشكيلي، وتتسابق جميع الفنون على مقاربتها، كلٌّ بأدواته ولغته.

ما انفكّت تبهر العالم الذي يقرأ، وتثير اهتمامه، وتصطفُّ في مقدمة الروائع الأدبية الأكثر أهمية في الأدب الإنساني عبر العصور، الأمر الذي يجعل الباحثين ينشغلون بها، وبشغف، بشتى اللغات ومن مختلف الثقافات. ولا يتردد الباحث والمفكر الإسباني المعروف خيسوس. ج. مايسترو Jesus.G.Maestro وكثيرون غيره من المتخصصين، فيعتبرونها في حسم ومغالاةٍ أيضاً، ودون منازع، أنها «جينوم Génome» الأدب العالمي والإنساني، وأنها الرواية الأعظم عبر العصور والأزمنة. وليس بغريب أن ينجز الكاتب وعضو «الأكاديمية الملكية الإسبانية» أرتورو بيريث ريفيرتي Arturo Pérez-Reverte من «الدون كيخوتي» صيغة روائية مختصرة شعبية ومدرسية، ويدعو إلى إدراجها في برامج التعليم بالفصول المدرسية، وفي متناول القراء الفتيان؛ وذلك درءاً، من جهة، لكل قطيعة قد تحدث مع الزمن للأجيال الجديدة مع الأدب الإسباني، وذاكرته الأولى التي هي رواية سرفانتس، ومن جهة أخرى لإغرائهم بقراءتها كاملة في زمن لاحق، بعد استمتاعهم بتوليفتها المختصرة، وبلغة تحاول أن تكون حديثة. لا أحد يشكُّ في حقيقة قدرة «دون كيخوتي دي لمانتشا» على إبهار قارئها، ولكن لماذا ظلت تفعل ذلك عابرة الأزمنة والأمكنة والأجيال واللغات والثقافات؟ ألأنها تشبه الإنسان، وتفضح انحيازه وغريزته للظلم من جهة، وتكتب جنونه ضد الظلم من جهة ثانية، وتصور شيزوفرينياه؟

إذا كانت شهرزاد في «ألف ليلة وليلة» مسلَّحة بترسانة عجيبة من الحكايات، مستعملة قبة خيالها الخارق، ومهارتها الدبلوماسية ومقاومتها الناعمة، وطاقتها الأنثوية لتدفع بالموت بعيداً، كل ليلة، وتقهر الظالم، وتغلبه رمزياً، فإن شخصية ألونصو كيخانو دون كيخوتي، هو الآخر، ممتلئ حتى التمام بحكايات وقصص الفروسية، وأخلاق الفرسان النبلاء، والشهامة، والرجولة، والشجاعة، ثمرة قراءاته المزمنة، الشرِهة لروايات الفروسية. سنوات طويلة من قراءة هذه الكتب جعلته يروي خياله حتى فاضَ، ليسوقه إلى ما يشبه الجنون، فلا تدرأ عنه الموت، بل تدفعه نحو المغامرة وتجرُّه نحو الهلاك.

فمركزية حكاية شخصية ألونصو كيخانو، المسكون حتى الدوخة بقراءة روايات الفروسية لسنوات طويلة، تتمثل في قراره المفاجئ أن يخرُج من الكتب إلى الواقع، أن يُخرِج أثقالها وينقل حمولتها إلى الحياة، أن يحقق في الواقع ما تحقق في تلك الروايات من فضائل الأخلاق الإنسانية السامية، فلا تظل «حبراً على ورق»، هي تلك فلسفته: تكريس حياته في سبيل مساعدة الآخر من باب الإنسانية الكبير، وليس من زاوية التآزر العقائدي الضيق.

أن يصبح بدوره فارساً في الواقع، ويطلق على نفسه اسم «الدون كيخوتي دي لمانتشا» يمتطي حصانه المسن روسينانتي Rocinante ويدعو صانتشو بانزا Sancho Panza أحد الفقراء من سكان قريته، لمرافقته، ليصير مُساعدَه وساعده وتابعه، ويعِدُه بأن ينصّبه حاكماً على إحدى الجزر، بعد انتصاره على الأشرار. آلى على نفسه أن يسير في الأرض، أن يقتفي أثر الأشرار ويحاربهم وينتصر للحق، ويساند المظلومين بفضل عزيمة سيفه القديم، ودرعه المهلهل، وحصانه المتعب، يتبعه صانتشو فوق حماره المسنّ.

وكجميع الفرسان في روايات الفروسية، لا بد أن يكون عاشقاً بحبّ أفلاطوني. سيضع دون كيخوتي نصب عينيه وقلبه وسيفه صورة لمحبوبته الفاتنة دولسينيا ديل توبوسو Dulcinea del Toboso، وهي في الحقيقة إحدى القرويات، وهو لا يعرفها. ينطلق في مغامرة مكافحة الشرِّ والأشرار، الظلم والظلمة، يهاجم طواحين الهواء؛ لأنه يراها في شكل عمالقة شريرين بشِعين وعنيفين، يضمرون السوء للبشرية، ويقف في وجه كتيبتين خطيرتين من العسكر المسلَّحين حتى الأضراس، ويهاجمهما، إلا أنهما في الحقيقة ليستا سوى قطيع من الخراف. ويرى في المساكن القديمة قصوراً، وفي بائعات الهوى سيدات من الطبقة النبيلة...

وتمتدُّ الحكايات عبر مئات الصفحات. وتتناسل حكايات دون كيخوتي، البطل الطيب الساذَج القادم من عالم الكتب المثالي في مواجهة الواقع الشنيع، يدافع باستماتة عن حق المرأة واليتيم والضعيف والفقير والمظلوم والأرملة، كل ذلك في لعبة سردية مثيرة، وتكاد المعارك الطاحنة الخاسرة في كل مرة، أن تؤدي بحياته إلى الهلاك، وتستمر الأحداث والحوارات والمغامرات والحروب الوهمية لبطلنا دون كيخوتي، تجعل المشاعر تراوح بين السخرية المُرّة، والشعور بالإشفاق الموجع. فرجة على فرد أم على التاريخ برمته؟ إلى أن يعود إلى بيته جريحاً طريح الفراش والهزيمة، ليسلم الروحَ والحلمَ بالسلام والعدالة، بعد حمّى الأيام الستة، وبعد أن يتنصل من ذاته ويستسلم بالعودة إلى «رشده»!:

- هنِّئوني، لم أعد دون كيخوتي... أنا ألونصو كيخانو الطيب Yo soy Alonso Quijano el Bueno!

هل من شك في أن دون كيخوتي قضى من الكآبة؟ لا شك... فقد أدرك بعد لأْيٍ أن الكتب لا تغير العالم؛ لأن العالم في شراسته وقساوته يقع خارج الكتب، وأما الساهرون حول فراشه من أهله ومعارفه، فيؤمنون بأن الداء العقلي الذي أصابه، جاءه من فيروسات الأفكار المعششة في روايات الفروسية التي كان يقرؤها بنهم. ولعلّ ذلك ما أعطى الشرعية للقس والحلاق للتفكير في التخلص من أخطرها بإحراقها؛ لأنها كتب تتسبب في انهيار العقول، وتصيب الناس بمرض الوهم.

أغلب الظن أن من أسباب الافتتان العالمي برواية ميغيل سرفانتس، أن كلّ من يكمل قراءتها، يكتشف أنه المعنيّ الوحيد، وأن فيه شيئاً من جينات DNA دون كيخوتي. ما الذي يستطيع فعله قارئ معاصر من سلالته، وهو جزء من هذا العالم المعاصر الواقف على شفا حفرة من الجنون والحرب والدمار؟

ونحن... أين نحن من هذا كله، بينما نسمع صوت الجنون العاقل للدون كيخوتي؟ ألسنا معنيين جداً ما دام سرفانتس كان بيننا أسيراً لخمس سنوات، يختلي بالمغارة المُطلة على أفق المتوسط؟ على الأغلب – على رأي المؤرخين - فإن الرواية ولدت بها، وليس عبثاً وجود صوت ساردٍ عربي في النص لقّبه بـ«سيد أحمد بن أنخلي».

ثم لا مهرب، فإن سرفانتس يظل ابن إسبانيا الممهورة بحضارة الأندلس الإسلامية، وكما أفضتْ لي صديقة فنانة إسبانية، خلال ملتقى بمدينة قرطبة - وليس من باب المجاملة - بقولها:

- هنا... يكفي أن يُرفع عندنا حَجرٌ... فيطلّ من عندكم أثر.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي