غلبرت وغوبار تعودان إلى «امرأة العِلْيَّة»

بعد أربعة عقود من صدور كتابهما الأول

سوزان غوبار وساندرا إم. غلبرت
سوزان غوبار وساندرا إم. غلبرت
TT

غلبرت وغوبار تعودان إلى «امرأة العِلْيَّة»

سوزان غوبار وساندرا إم. غلبرت
سوزان غوبار وساندرا إم. غلبرت

الحقيقة أن الأكاديميتين والناقدتين النسويتين ساندرا إم. غلبرت وسوزان غوبار لا تعودان إلى «امرأة العِلْيَّة»؛ أقصد العودة بمعنى تناول موضوعها في كتابهما الجديد «لا تزال مجنونة... الكاتبات الأمريكيات والخيال النسوي، 2021»، ولكنهما اختارتا عنواناً يحيل عليها، وفي الوقت نفسه يُشَكِّل رابطاً بين كتابهما الجديد وكتابهما المشترك الأول «المرأة المجنونة في العِلْيَّة: الكاتبة والخيال الأدبي في القرن التاسع عشر، 1979» الذي يعد معلماً في النقد النسوي، وعملهما الأكثر شهرةً وتأثيراً «magnum opus» من بين كتبهما الثمانية - أحدها من ثلاثة أجزاء - التي اشتركتا في تحريرها أو تأليفها بداية بـ«المرأة المجنونة في العِلْيَّة»، وانتهاءً بـ«لا تزال مجنونة/ Still Mad» أو «لا تزال غاضبة».

ففي المتن تنزاح الكلمة «mad» عن المعنى «مجنون» نحو معاني «الغضب والارتباك والتمرد» في حديث المؤلفتين عن حالهما وحال الكثير من النسويات. لكن هذا الانزياح لا يلغي إحالة العنوان إلى «امرأة العِلْيَّة» وإلى الكتاب السابق، خصوصاً من وعي وذاكرة من قرأه، أو لأَقل تظل المجنونة ويظل الكتاب ذاته أثراً عالقاً بــ«mad» العنوان، لا يمكن محوه. هذا ما حدث لي لحظة قراءة خبر صدور الكتاب الجديد، لقد ذكرني على الفور بـ«المرأة المجنونة في العَلْيّة».

المرأة المجنونة في العِلْيَّة التي يشير إليها العنوان هي بيرثا ميسون أو بيرثا روتشستر، زوجة السيد إدوارد روتشستر في رواية شارلوت برونتي «جين اير، 1847»، التي تعاني من الجنون، وترى الناقدتان أنها تلعب دور البديل لشخصية جين اير، وتجادلان بأن مواجهة جين في الرواية ليست مع السيد روتشستر ولكن مع بيرثا. في «ثورنفيلد هول» القصر الذي يقيم فيه السيد روتشستر، وحيث تأتي للعمل مربيةً ومعلمةً للفتاة الفرنسية أديل، تلتقي جين اير ببديلتها بيرثا التي تعبر بتصرفاتها عن مشاعر الغضب والتمرد الموّارة في داخل جين نفسها.

ارتباط التأليف والسلطة

في كتابهما «المرأة المجنونة في العِلْيَّة»، كانت غلبرت وغوبار تحاولان، على حد قولهما، تفحص ارتباط التأليف والسلطة، وعلى امتداد قرون، بالذكورة بهدف التنقيب والكشف عن تقاليد أدبية نسائية وموروث نسائي تعرض إمّا للطمس أو التجاهل. يمثل ما تقوم به الناقدتان في «المرأة المجنونة في العِلْيَّة» تحولاً نوعياً في الدراسات الأدبية، تحولاً من تفحص كيفية خلق الكُتّاب للشخصيات النسائية نحو التعريف بالأدب الأنثوي، وكيفية بناء الكاتبات للشخصيات النسائية، مع الأخذ بعين الاعتبار المناخات والسياقات الثقافية والسياسية للكتابة والقراءة.

يأتي «لا تزال مجنونة» بعد أربعة عقود من صدور كتابهما الأول، لتناقشا في أقسامه وفصوله «التاريخ الثقافي الكامن وراء الحركة النسوية المعاصرة التي (لا تزال مجنونة) حتى اليوم، بعد نصف قرن من الموجة الثانية من الحركة النسوية التي أطلقت على نفسها اسم حركة تحرير المرأة في الستينات» (لا تزال مجنونة، 24). ولعله من المناسب التطرق إلى نسوية الموجة الأولى، أو الموجة الأولى من النسوية قبل الكتابة عن دراسة غلبرت وغوبار للموجة النسوية الثانية.

الموجة النسوية الأولى

ثمة اعتقاد سائد بأن الموجة الأولى من النسوية بدأت في 1848، وتؤرخُ بدايتها بانعقاد أول مؤتمر رسمي لحركة حقوق المرأة في سينيكا فولز في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة. تزامن تشكل الموجة الأولى من الحركة النسوية مع الحركة النضالية لإلغاء الاستعباد. وكان من إنجازات ومكتسبات الموجة الأولى: التعديل التاسع عشر في دستور الولايات المتحدة الذي منح المرأة حق التصويت في عام 1920، وقد نصّ التعديل على أنه لا يمكن حرمان الفرد من حق التصويت بسبب جنسه. واتسعت قوانين ممتلكات المرأة المتزوجة بأن أصبح لها الحق في أن يكون لها ممتلكاتها المنفصلة، وفي حيازتها واستخدامها والتصرف بها.

الموجة الثانية

الموجة الثانية التي لا تزال مجنونة، التي بدأت ونمت في خمسينات القرن العشرين، هي الموضوع الذي ينصب عليها اهتمامُ الناقدتين غلبرت وغوبار، ويتعاطيان معها سرداً لتاريخها ولسير الناشطات فيها وقراءةً وتحليلاً لإنتاجاتهن الأدبية والفنية والفكرية: «لرواية قصة ما نَعُدّها الموجةَ الثانيةَ المستمرةَ من النسوية، اخترنا ما يمثلها من شاعرات وروائيات ومسرحيات وصحفيات وكاتبات مذكرات ومُنَظِّرات - اللاتي بَدَوْنَّ لنا كارزميات على نحو خاص» (لا تزال مجنونة، 3). لقد قوضت أولئك الناشطات - تقول الكاتبتان - الصورة الكاريكاتيرية السائدة لحركة المرأة بأنها بيضاء ومن الطبقة المتوسطة ونخبوية. وتوضحان أنهما اقتصرا اختيارهما على الأديبات في الولايات المتحدة مع أن كل كتبهما السابقة تدرس العلاقات العبر قومية لكتابة المرأة باللغة الإنجليزية. وكان سبب حصر تركيزهما على النسويات في بلدهما هو صدمة انتخاب رئيس شعبوي وغير مؤهل - دونالد ترمب.

ربما يمكن القول إنه لولا ترمب نفسه ما فكرتا في تأليف هذا الكتاب الذي جاءت فكرته ليكون إيماءة تضامن ومناصرة للمسيرات النسائية الحاشدة في 21 يناير (كانون الثاني) 2017 في واشنطن العاصمة والعديد من المدن الأميركية وفي مدن أخرى من العالم. هذا ما يُفهمُ مما تقولانه في الفقرة الاستهلالية من مقدمة الكتاب: «أولئك اللاتي لا يستطعن الزحف، يكتبن. بينما كان الكثير من صديقاتنا يتأهبن للذهاب إلى المسيرة النسائية... كنا نعرف أننا، وبسبب إعاقاتنا المختلفة، لن نستطيع الانضمام إليهن. وتساءلنا كيف يمكن الوقوف تضامناً معهن. وجاءت الإجابة عن هذا السؤال قبل أسبوع من المظاهرات العظيمة في واشنطن العاصمة والعديد من المدن حول العالم، عندما بدأنا التعاون على هذا الكتاب» (لا تزال مجنونة، 1).

انطلقت المسيرات الحاشدة في اليوم التالي لتنصيب دونالد ترمب رئيساَ للولايات المتحدة، احتجاجاً على خطابه السياسي ومواقفه التي عرّت عداءه للمرأة والتهديد لحقوقها. كانت تلك أضخم مسيرة تُنظمُ في يوم واحد. وكانت المسيرة في واشنطن العاصمة أكبر المسيرات الحاشدة، شارك فيها حوالى 440.000 شخص، وبلغ عدد المسيرات في الولايات المتحدة كلها 408 مسيرات، و169 مسيرة في 81 دولة أخرى.

يبدو أن فكرة الحشد والحشود سيطرت على ذهنى غلبرت وغوبار، ومنهما تسربت، بوعي أو بدون وعي إلى الكتاب، وقد تجلى ذلك في الحشد الكبير من الأسماء الأدبية والفنية والصحفية ومن أسماء المشتغلات على النظرية، فكأنما أرادتا أن يضاهي كتابهما تلك المسيرة باكتظاظه بالأسماء، أو أن يكون الجزء المعبر عن ذلك الكل متعدد الهويات العرقية والإثنية والقومية والمهنية والاهتمامات للمشاركات فيه. لقد زاد عدد أسماء الأديبات والفنانات على الأربعين، أذكر على سبيل المثال: سيلفيا بلاث، ديان دي بريما، أدريان ريتش، أودري لورد، غلوريا أنزالدوا، أندريا دوركين، غلوريا ستاينم، سوزان سونتاغ، توني موريسون، لورين هانزبري، دينيس ليفرتوف، أليس ووكر، جوديث بتلر، إيف كوسوفسكي، كيت ميليت، مارغريت آتوود، المغنية وكاتبة الأغاني نينا سيمون، جوان ديديون.

قابلَ تعددَ الأسماء والاهتمامات والاشتغالات تَشعبُ اهتمامِ المؤلفتين، إذ اجتمع في مقاربتهما للموضوع التحليل النقدي والتأريخ والسرد السيري الانتقائي بتسليط الضوء على الجوانب الخاصة والشخصية (الشخصي - سياسي) في حياة الأديبات ورصد تحولاتهن وانخراطهن في الحركة النسوية، أو حركة الحقوق المدنية أو معارضة الحرب في فيتنام، أو فيها كلها. فسيلفيا بلاث على سبيل المثال تحضر مذ كانت فتاة صغيرة وقارئة نهمة لمجلات الفتيات ثم الدوريات الموجهة لربات البيوت، وينتقل القارئ معها إلى كامبردج، حيث تُقدِّمُ نفسها أثناء دراستها الجامعية كَدُمْيَّةٍ حية في مقالة كتبتها لجريدة الجامعة بعنوان «سيلفيا بلاث تطوف بالمتاجر وتتوقع أزياء أسبوع مايو»، ثم ارتباطها بالشاب الوسيم «القذر» تيد هيوز الذي لم يكن يملك سوى بنطال واحد من نوع «دنغري» وجاكيت أسود... كانت تطلب منه دائماً غسل شعر رأسه وتنظيف أظافره وشراء ملابس أفضل... ثم زواجهما وقضاؤهما شهر العسل على طريقة شخصيات إرنست هيمنغوي، مروراً بخيانة هيوز وانفصالهما... إلى يوم 11 فبراير 1963، عندما وضعت أكواب الحليب وشرائح الخبر جانب أسرة أطفالها، وفتحت النوافذ، وأغلقت عليهم الباب بإحكام، ونزلت إلى المطبخ في الطابق الأرضي لتفتح الغاز للمرة الأخيرة في حياتها.

"لا تزال مجنونة" الكتاب الذي أُلِّفَ تضامناً مع مسيرات يناير الحاشدة، «احتشد» بالشخصيات الأدبية والفنية والصحفية والفكرية، وبالتحليل النقدي والسرد السيري وبالمعلومات التاريخية عن موجة النسوية الثانية (1950-2020). «لا تزال مجنونة/Still Mad»، أو «لا تزال غاضبة» كتاب يتميز بالغنى المعرفي وبمنح قارئه قدراً كبيراً من المتعة الذهنية الفكرية.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.