رأس ملكي من تيماء كان جزءاً من تمثال عملاق

يتبع بأسلوبه المنهج الخاص بالمدرسة الدادانية

رأس ملكي محفوظ في متحف تيماء
رأس ملكي محفوظ في متحف تيماء
TT

رأس ملكي من تيماء كان جزءاً من تمثال عملاق

رأس ملكي محفوظ في متحف تيماء
رأس ملكي محفوظ في متحف تيماء

يحوي متحف تيماء مجموعة كبيرة من القطع الأثرية عُثر عليها في نواحٍ عدة من محافظة تيماء، منها رأس من الصلصال الرملي يتميّز بحجمه الضخم، ويعود -حسب أهل الاختصاص- إلى تمثال عملاق، حُفر في كتلة واحدة متراصة يناهز ارتفاعها 4 أمتار، ويمثل أحد أسياد مملكة لحيان التي قامت قديماً في إقليم الحجاز، وضمّت أجزاء عدة من المناطق الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية، منها دادان وتيماء وجبل عكمة.

طول هذا الرأس 47 سنتيمتراً، وعرضه 40، وقد جرى ترميمه بتأنٍّ، وبات اليوم حاضراً في كتلة مستقلّة يبلغ عمقها نصف متر. الأنف مفقود، وكذلك الثغر، والجزء الأسفل من الوجه المتمثّل بالذقن. مع غياب هذه الملامح، تحوّل هذا الوجه إلى عينين كبيرتين مفتوحتين، تحدّقان بثبات في الفراغ. يعلو هاتين العينين حاجبان عريضان على شكل شريطين مقوّسين ناتئين. محجر العين أملس ومجرّد، تتوسّطه مقلة بيضاوية واسعة يحدّها جفن ناتئ. تبدو هذه المقلة أشبه بلوزة ذات طرفين مروّسين، وتحوي في الوسط نقشاً دائرياً غائراً يمثّل البؤبؤ. هكذا تحضر الصلبة، أي بياض العين، وتحضر في وسطها الحدقة، أي البؤبؤ، على شكل ثقب غائر منفّذ بشكل خفر.

الجبين أملس وخالٍ من أي تفاصيل، يحدّه في الأعلى شريط ناتئ يشكّل عقالاً يلتفّ حول الرأس، ويشدّ الغترة الملساء التي تُخفي الشعر بشكل كامل. تتدلّى هذه الغترة من الخلف، وتشكّل كتلة عريضة ملاصقة للعنق الذي ضاع الجزء الأسفل منه. الخدّان أملسان، غير أن الرؤية المتأنية تكشف عن لحية خفيفة تمتدّ من سالفين طويلين يتّصلان بأعلى شعر الرأس، وتشكّل معهما مساحة واحدة تكسو الجزء الأسفل من الخدين والذقن. الأذنان محدّدتان بدقّة، وتتميّزان كما العينين بحجمهما الضخم. يلتفّ صيوان الأذن على شكل حرف الواو، ويضمّ قناة الأذن التي تأخذ كذلك شكل هذا الحرف. تظهر الشحمة بوضوح، وهي الجزء السفلي من الأذن، وقد جعلها النحات على شكل مساحة نصف بيضاوية، تعلو طرفها دائرة ناتئة تشكّل حلقة وصل بينها وبين الصيوان.

عُثر على هذا الوجه في قاعة تعود إلى معبد قديم، ضمّت بقايا عدد من التماثيل، ممّا يوحي بأنها خُرّبت ونُقِلت إلى هذه القاعة، وذلك لاستعمال حجارتها في أمور بنيانية لاحقة، في حقبة تلت انهيار مملكة لحيان بشكل كامل. شهدت هذه البقعة من الجزيرة نشوء مملكة عُرفت بمملكة دادان، تلتها مملكة عُرفت بمملكة لحيان، وتميل الأبحاث المعاصرة إلى القول بأن الحقبة اللحيانية شكّلت امتداداً للحقبة الدادانية. مرّت هذه المملكة بثلاث مراحل: أولاها من القرن السابع حتى القرن السادس قبل الميلاد، تلتها مرحلة امتدّت من القرن الخامس إلى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وفيها بلغت أوج الازدهار. بعدها ظهرت دولة بني معين وسيطرت على إدارة التجارة، وتركت للحيانيين إدارة المملكة وتنظيم شؤون الحكم فيها حتى مطلع القرن الأول للميلاد.

ابتدعت هذه المملكة العربية أسلوباً خاصاً في النحت، وتجلّى هذا الأسلوب بشكل أساسي في تماثيل آدمية ضخمة، هي قامات تقف منتصبة في حركة واحدة جامعة لا تتغيّر. تظهر هذه القامات شبه عارية، ولباسها الوحيد إزار أملس يخلو من أي ثنايا، يلتفّ حول الحوض، وينسدل عند ركبتي الساقين. ويتميّز هذا الإزار بحزام مزدوج ينعقد حول الخصر، يتدلّى منه شريط ينسدل بشكل ثابت عند طرف الساق اليسرى. خرج العدد الأكبر من هذه التماثيل من موقع الخريبة في العُلا، كما خرج عدد آخر منها من موقع أم دراج المجاور، وتشكّل النماذج المعدودة التي عُثر عليها في تيماء امتداداً لهذا النتاج كما يبدو، وأهمّها هذا الرأس الذي يتميّز بحجمه الضخم، ويتبع بأسلوبه المنهج الخاص بالمدرسة الدادانية، كما تشهد بشكل جليّ صياغة ملامحه.

يظهر هذا الطابع في قطع أخرى عُثر عليها إلى جانب هذا الرأس، منها ذراع طويلة وصلت بشكل شبه كامل تجسّد الجمالية الدادانية بشكل لا لبس فيه. وتتجلّى هذه الجمالية في الأسلوب المتبع في نحت الساعد والزند وقبضة اليد، مع الإبهام الظاهر عند أعلى هذه القبضة. كذلك تظهر هذه الجمالية في قطعة طولها 120 سنتيمتراً تمثّل الجزء الأوسط من تمثال كبير، وهو الجزء الخاص بالإزار الذي ينسدل على أعلى الساقين، مع حزام مزدوج، يتدلّى منه شريط قصير عند طرف الخصر، وفقاً للمنهج المتّبَع في هذه البقاع من الجزيرة العربية. من جهة أخرى، يبدو الجانب الخلفي لهذا التمثال مسطّحاً بشكل تام، كما أنه يخلو من أي تفاصيل بارزة، ممّا يعني أنه كان معداً ليثبَّت عمودياً إلى حائط، وفقاً للطريقة المتبَعة في الخريبة وأم دراج. وتشهد هذه الخصائص لأسلوب جامع واحد اتُّبع في تيماء، كما في هذه المواقع الأثرية من العُلا.

في الخلاصة، يشكّل الرأس الضخم المحفوظ في متحف تيماء امتداداً للرؤوس التي عُثر عليها في العُلا، ويوحي حجمه الاستثنائي بأنه يعود إلى ملك من الملوك الذي حكموا مملكة لحيان، وعُرفوا بألقاب كثيرة حفظتها النقوش الكثيرة التي عُثر عليها في هذه البقاع، ومنها على سبيل المثال: المنيع، والسماوي، والسامي، والحامي، والراعي، وملك الجبال.


مقالات ذات صلة

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

يوميات الشرق المتحف المصري الكبير يضم آلافاً من القطع الأثرية (الشرق الأوسط)

المتحف المصري الكبير يحتفي بالفنون التراثية والحِرف اليدوية

في إطار التشغيل التجريبي للمتحف المصري الكبير بالجيزة (غرب القاهرة) أقيمت فعالية «تأثير الإبداع» التي تضمنت احتفاءً بالفنون التراثية والحِرف اليدوية.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج بجنوب مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

«اليونيسكو» تحذر إسرائيل من استهداف آثار لبنان

أثمرت الجهود اللبنانية والتعبئة الدولية في دفع منظمة اليونيسكو إلى تحذير إسرائيل من تهديد الآثار اللبنانية.

ميشال أبونجم (باريس)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟