لبؤة العُلا فريدةٌ في عالم الجزيرة العربية الأثري

لوح يعود وفق أهل الاختصاص إلى الفترة الممتدة من القرن الـ6 إلى القرن الـ4 قبل الميلاد

لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود
لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود
TT

لبؤة العُلا فريدةٌ في عالم الجزيرة العربية الأثري

لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود
لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود

يحتفظ متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بلوح من الحجر الرملي الأحمر نُقشت عليه صورة لبؤة تُرضع وليدها. مصدر هذا الحجر موقع الخُريبة، في الجهة الشمالية الشرقية من العُلا، وهو غير مؤرخ، ويعود بحسب أهل الاختصاص إلى الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

نُقشت هذه الصورة الناتئة على أرضية ملساء ناعمة متوسّطة الحجم، طولها 33 سنتمتراً وعرضها 46 سنتمتراً. تظهر اللبؤة في وضعية جانبية، وتتميز برأس ضخم تلِف الجزء الأمامي منه للأسف، وسلمت منه عين كبيرة، على شكل دائرة غائرة تمثّل المقلة، تحوي دائرة ناتئة ترمز إلى البؤبؤ. تحدّ هذا الرأس لبدة كثيفة، تظهر بشكل مختزل في ثلاث مساحات ناتئة متوازية ومتساوية حجماً. الجسم طويل وأملس، أعضاؤه محدّدة بشكل مجرّد من التفاصيل، وتتكوّن من أربع قوائم قصيرة، ضاعت منها القائمة الأمامية اليسرى والجزء الأسفل من القائمة اليمنى، وذَنَب قصير في طرفه جمة، يلتفّ مشكّلاً دائرة مفتوحة، وأربع حلمات تظهر في طرف أسفل البطن على شكل أسنان مشط صغير.

وسط المساحة التي تفصل بين القائمتين الأماميتين والقائمتين الخلفيتين، ينتصب الشبل الوليد، وما بقي منه هو الجزء الأعلى فحسب للأسف. الرأس منفّذ وفق الأسلوب نفسه، وتحدّه كذلك ثلاث مساحات ناتئة متوازية. والجسد ضاع الجزء الأسفل منه، وبقي منه صدره، والقائمة الأمامية اليمنى المرفوعة نحو الأعلى، والقائمة الأمامية اليسرى المنحنية نحو الأسفل. يرفع الشبل رأسه في اتجاه حلمات أمّه، ويمدّ لسانه كأنه يهمّ بأن يلعق منها، وصورة اللبؤة وشبلها معروفة في الميراث الأدب القديم، وقد ذكرها هيرودوت في الجزء الثالث من موسوعته التاريخية، كما ذكرها أرسطو في الفصل السادس من «تاريخ الحيوان».

يقول هيرودوت إن اللبؤة، «أقوى الحيوانات وأكثرها جرأة، لا تُنجب في حياتها سوى شبل واحد؛ ذلك أنها حينما تلد الشبل تخرج الرحم أو ما بقي منها معه، لأنّ الشبل عندما يبدأ في التحرّك في بطنها، يخدش جدران الرحم بمخالبه، التي تتّصف بأنها أقوى من مخالب أي حيوان آخر، وفيما هو ينمو يستمرّ في الخدش. بحيث تقارب الرحم التلف حينما يأتي وقت ولادته، فتخرج بقاياها معه». من جهته، رأى أرسطو أن هذه الرواية هي في الواقع خيالية، وأن اللبؤة تنجب في أغلب الأحيان شبلين، وعدد أشبالها في أقصى حد ستة، ويحدث ألا تنجب إلا شبلاً واحداً. ونقل الفيلسوف رواية غريبة تقول إن اللبؤات في سوريا ينجبن خمس مرات، ويلدن في الحمل الأول خمسة أشبال، ثم يتضاءل هذا العدد تدريجياً، بعدها يتوقفن عن الحمل، ويصبحن في النهاية عاقرات.

اللافت، أن رواية هيرودوت انتقلت لاحقاً إلى العالم الإسلامي، وتردّد صداها في مراجع عدّة، كما أشار الوطواط في «مباهج الفكر ومناهج العبر»: «إن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون إن اللبؤة لا تضع إلا جرواً واحداً، وتضعه بضعة لحم ليس فيها حس ولا حركة، فتحرسه من غير حضانة ثلاثة أيام، ثم يأتي أبوه بعد ذلك فينفخ في تلك البضعة المرة بعد المرة حتى تتحرّك، وتتنفّس فتنفرج الأعضاء، وتتشكّل الصورة ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلا بعد سبعة أيام من تخلقه، وهي ما دامت ترضع لا يقربها الذكر البتة، فإذا مضت على الجرو ستة أشهر، كلف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب».

تحتلّ صورة الأسد مكانة رفيعة في فنون الشرق القديم بأقاليمه المتعدّدة، غير أن صورة اللبؤة مرضعة تُعدّ نادرة في هذا الميدان الواسع، وشواهدها معدودة، ومنها تلك التي تبرز في منحوتة من منحوتات «قصر العبد» الذي يقع جنوب بلدة عراق الأمير، غرب مدينة عمّان في الأردن. يعود هذا القصر إلى العصر الهلنستي، وإلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد شُيّد في زمن صعود الدولة السلوقية التي تأسّست في بابل، وامتدّت وتوسّعت حتى شملت في أوجها، أراضي تمتد من الأناضول إلى بلاد فارس وبلاد الرافدين وبلاد الشام، وبلغت أراضي تعود في زمننا إلى الكويت وأفغانستان وتركمانستان. في هذا القصر، تحضر اللبؤة المرضعة في نحت ناتئ أُنجز بحرفية عالية، وفيه تظهر الأم في وضعيّة جانبية، ويظهر وليدها في وضعيّة المواجهة، منتصباً تحت حلمات بطنها. وهذه اللبؤة أحدث زمنياً من لبؤة العُلا، وصورتها تشابه في تأليفها صورة لبؤة العُلا دون أن تماثلها، وتختلف عنها جذرياً في أسلوبها المتقن.

تبدو لبؤة العلا بأسلوبها البسيط أقرب إلى الفنون البدائية، وتختلف بشكل كبير عن الأسود الأربعة التي تحرس المقبرة المعروفة بمقبرة الأسود في الخُريبة، حيث تظهر في قالب واحد جامع، وتطلّ في وضعية المواجهة في كتلة ناتئة، منتصبةً على قوائمها الأماميّة. تشكّل صورة لبؤة العُلا امتداداً لصور الأسود المنقوشة على الصخور، ومنها تلك التي تحضر في جبال جبة وياطب وأم سنمان، في منطقة حائل. كما أنها تشابه في تأليفها الأسود العملاقة المنحوتة في الصخر في الطريق المؤدية إلى وادي فرسا، في الجهة الغربية من «الجبل المذبح» في إقليم البتراء الأردني، والأسدين البرونزيين اللذين وُجدا في معبد مدينة نشان الأثرية، في الخربة التي تُعرف اليوم بخربة السودة، وتقع في منطقة الجوف الشمالية في اليمن، وهذان الأسدان من نتاج القرن السادس قبل الميلاد، وهما مهديّان إلى المعبودة العربية «عثتر»، من قِبل ملكَي نشان، «يدع» و«يشهر»، كما تؤكد الكتابة المنقوشة على قاعدتي التمثالين.

في الخلاصة، تبرز لبؤة الخريبة بموضوعها في الدرجة الأولى، وتشكّل لوحة فريدة من نوعها في عالم الجزيرة العربية الأثري الشاسع بأقاليمه المتعدّدة اللغات والأساليب الفنية.


مقالات ذات صلة

اكتشاف بقايا معبد الوادي لحتشبسوت في الأقصر

يوميات الشرق اكتشافات أثرية جديدة في الأقصر (البعثة الآثارية)

اكتشاف بقايا معبد الوادي لحتشبسوت في الأقصر

أعلن عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس، الأربعاء، عن اكتشاف بقايا معبد الوادي للملكة حتشبسوت بالأقصر (جنوب مصر)، مع عدد من الاكتشافات الأثرية الأخرى.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق شكّلت العلا ملتقى للحضارات القديمة حيث ربطت بين ثقافات شبه الجزيرة العربية (الشرق الأوسط)

شراكة سعودية - صينية لتعزيز الحفاظ على التراث بالعلا

وقّعت الهيئة الملكية لمحافظة العلا وأكاديمية «دونهوانغ» الصينية شراكة استراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون الثقافي والسياحي والتراثي بين المملكة والصين.

«الشرق الأوسط» (العلا)
يوميات الشرق الغرابة (SWNS)

تمثال غريب الشكل في الكويت يُحيِّر علماء الآثار

اكتُشف رأسٌ غريب الشكل لكائن غير معروف، من الفخار، يعود إلى آلاف السنوات خلال عملية تنقيب في الكويت، مما أثار حيرة علماء الآثار بشأنه.

«الشرق الأوسط» (وارسو)
يوميات الشرق المقبرة تضم رموزاً لطبيب القصر الملكي في الدولة القديمة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: اكتشاف مصطبة طبيب ملكي يبرز تاريخ الدولة القديمة

أعلنت مصر، الاثنين، اكتشافاً أثرياً جديداً في منطقة سقارة (غرب القاهرة)، يتمثّل في مصطبة لطبيب ملكي بالدولة المصرية القديمة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق مدخل مقبرة بسقارة

مصر: اكتشاف مصاطب ومقابر أثرية تبوح بأسرار جديدة عن سقارة

ما زالت منطقة سقارة الأثرية تبوح بأسرارها، حيث اكتشفت البعثة الأثرية المصرية اليابانية مصاطب ومقابر ودفنات تكشف مزيداً عن تاريخ هذه المنطقة الأثرية المهمة. …

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

أغلفة روايات القائمة الطويلة
أغلفة روايات القائمة الطويلة
TT

إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

أغلفة روايات القائمة الطويلة
أغلفة روايات القائمة الطويلة

أعلنت الجائزة العالمية للرواية العربية الروايات المرشّحة للقائمة الطويلة بدورتها عام 2025؛ إذ تتضمّن القائمة 16 رواية. وكانت قد ترشحت للجائزة في هذه الدورة 124 رواية، وجرى اختيار القائمة الطويلة من قِبل لجنة تحكيم مكوّنة من خمسة أعضاء، برئاسة الأكاديمية المصرية منى بيكر، وعضوية كل من بلال الأرفه لي أكاديمي وباحث لبناني، وسامبسا بلتونن مترجم فنلندي، وسعيد بنكراد أكاديمي وناقد مغربي، ومريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية إماراتية.

وشهدت الدورة المذكورة وصول كتّاب للمرّة الأولى إلى القائمة الطويلة، عن رواياتهم: «دانشمند» لأحمد فال الدين من موريتانيا، و«أحلام سعيدة» لأحمد الملواني من مصر، و«المشعلجي» لأيمن رجب طاهر من مصر، و«هوّارية» لإنعام بيوض من الجزائر، و«أُغنيات للعتمة» لإيمان حميدان من لبنان، و«الأسير الفرنسي» لجان دوست من سوريا، و«الرواية المسروقة» لحسن كمال من مصر، و«ميثاق النساء» لحنين الصايغ من لبنان، و«الآن بدأت حياتي» لسومر شحادة من سوريا، و«البكّاؤون» لعقيل الموسوي من البحرين، و«صلاة القلق» لمحمد سمير ندا من مصر، و«ملمس الضوء» لنادية النجار من الإمارات.

كما شهدت ترشيح كتّاب إلى القائمة الطويلة وصلوا إلى المراحل الأخيرة للجائزة سابقاً، وهم: «المسيح الأندلسي» لتيسير خلف (القائمة الطويلة في 2017)، و«وارثة المفاتيح» لسوسن جميل حسن (القائمة الطويلة في 2023)، و«ما رأت زينة وما لم ترَ» لرشيد الضعيف (القائمة الطويلة في 2012 و2024)، و«وادي الفراشات» لأزهر جرجيس (القائمة الطويلة في 2020، والقائمة القصيرة في 2023).

في إطار تعليقها على القائمة الطويلة، قالت رئيسة لجنة التحكيم، منى بيكر: «تتميّز الروايات الستّ عشرة التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة هذا العام بتنوّع موضوعاتها وقوالبها الأدبية التي عُولجت بها. هناك روايات تعالج كفاح المرأة لتحقيق شيءٍ من أحلامها في مجتمع ذكوريّ يحرمها بدرجات متفاوتة من ممارسة حياتها، وأخرى تُدخلنا إلى عوالم دينيّة وطائفيّة يتقاطع فيها التطرّف والتعنّت المُغالى به مع جوانب إنسانيّة جميلة ومؤثّرة».

وأضافت: «كما تناولت الكثير من الروايات موضوع السلطة الغاشمة وقدرتها على تحطيم آمال الناس وحيواتهم، وقد استطاع بعض الروائيين معالجة هذا الموضوع بنفَسٍ مأساوي مغرقٍ في السوداوية، وتناوله آخرون بسخرية وفكاهة تَحُدّان من قسوة الواقع وتمكّنان القارئ من التفاعل معه بشكل فاعل».

وتابعت: «أمّا من ناحية القوالب الأدبيّة فتضمّنت القائمة عدّة روايات تاريخيّة، تناول بعضها التاريخ الحديث، في حين عاد بنا البعض الآخر إلى العهد العبّاسيّ أو إلى فترة محاكم التفتيش واضطهاد المسلمين في الأندلس. كما تضمّنت القائمة أعمالاً أقرب إلى السيرة الذاتيّة، وأخرى تشابه القصص البوليسيّة إلى حدّ كبير».

من جانبه، قال رئيس مجلس الأمناء، ياسر سليمان: «يواصل بعض روايات القائمة الطويلة لهذه الدورة توجّهاً عهدناه في الدورات السابقة، يتمثّل بالعودة إلى الماضي للغوص في أعماق الحاضر. لهذا التوجّه دلالاته السوسيولوجية، فهو يحكي عن قساوة الحاضر الذي يدفع الروائي إلى قراءة العالم الذي يحيط به من زاوية تبدو عالمة معرفياً، أو زاوية ترى أن التطور الاجتماعي ليس إلّا مُسمّى لحالة تنضبط بقانون (مكانك سر). ومع ذلك فإنّ الكشف أمل وتفاؤل، على الرغم من الميل الذي يرافقهما أحياناً في النبش عن الهشاشة وعن ضراوة العيش في أزمان تسيطر فيها قوى البشر على البشر غير آبهة بنتائج أفعالها. إن مشاركة أصوات جديدة في فيالق الرواية العربية من خلفيات علمية مختلفة، منها الطبيب والمهندس وغير ذلك، دليل على قوّة الجذب التي تستقطب أهل الثقافة إلى هذا النوع الأدبي، على تباين خلفياتهم العمرية والجندرية والقطرية والإثنية والشتاتية». وسيتم اختيار القائمة القصيرة من قِبل لجنة التحكيم من بين الروايات المدرجة في القائمة الطويلة، وإعلانها من مكتبة الإسكندرية في مصر، وذلك في 19 فبراير (شباط) 2025، وفي 24 أبريل (نيسان) 2025 سيتم إعلان الرواية الفائزة.

ويشهد هذا العام إطلاق ورشة للمحررين الأدبيين تنظّمها الجائزة لأول مرة. تهدف الورشة إلى تطوير مهارات المحررين المحترفين ورفع مستوى تحرير الروايات العربية، وتُعقد في الفترة بين 18 و22 من هذا الشهر في مؤسسة «عبد الحميد شومان» بالأردن.