«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

علي نكيل يكتب عن أكثر فترات العراق حلكة

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»
TT

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

تبدو رواية «غرابيل» للأديب البصري علي نكيل «أبو عراق»، في بنائها الدرامي مثل مسرحية كلاسيكية تتفاعل فيها الأحداث، وتتصارع فيها الشخصيات، بشكل لولبيّ متصاعد، وصولاً إلى ذروة العمل.

إذ تبدأ رحلة أبو عراق الروائية باستدعائه إلى دائرة الأمن المُرعبة في البصرة، بسبب تحول مكتبته الصغيرة في العشار إلى ملتقى للمثقفين «المارقين» على طغيان النظام، ثم تتسارع الأحداث بعد ذلك على وقْع قرع طبول احتلال الكويت، ومن ثَمّ تحريرها من الاحتلال العراقي، وانتفاضة الجوع والغضب الشعبية التي أعقبت هزيمة الجيش الأعزل والمنهار نفسياً أمام عاصفة الصحراء.

ليس غريباً أن يسمِّي البصريون مبنى دائرة الأمن الكبيرة، المطلية بالأبيض، بـ«الليث الأبيض»؛ لأن دخول هذا العرين المُخيف لا يجري بالسهولة التي يُتصور بها دخوله. يخرج أبو عراق من عرين الليث سليماً، بعد أن يتضح أن الاستدعاء كان مجرد تحذير من تحول مكتبته الصغيرة إلى وكر للشيوعيين التائبين، والمثقفين الناقمين. وهذا في زمنٍ تجري فيه أحداث القصة، في الفترة القصيرة الفاصلة بين نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ونهاية غزوة الكويت المجنونة، وحينما تحولت البصرة بأكملها إلى عرين ليث أبيض.

يتضح لنا في الحال أن «أبو عراق» ليس بطل هذه الرواية المأساوية التي تُغَربل أكثر فترات العراق حلكة، وشهدت الخراب الجديد الذي يحلّ بالبصرة، مثل متوالية هندسية تتكرر فيها الزوايا. ليس الراوية في «غرابيل»، وأقصد علي نكيل، غير شاهد على ما حلَّ من دمار في أبنية المدينة، وأرواح أبنائها الحالمة بالخلاص من الدكتاتورية والحروب. يؤدي علي هنا دور الراوية في مسرحية دراماتيكية، لا ينسب لنفسه فيها أية بطولة، ولا يتدخل في أحداثها على الطريقة البريختية، لكنه يصورها لنا بكل واقعية.

أبطال هذه الرواية، سواء أكانوا سلبيين أم إيجابيين، هم أبناء البصرة؛ من مثقفين يحافظون على أفكارهم، مقابل مثقفين نزعوا جلودهم وانقلبوا «غرابيل» (بمعنى نمّامين ووُشاة هنا)، وعامة الناس بين من ثار ضد الظلم والجوع منهم، وبين من تحوّلوا إلى نهّابين تعاملوا مع الانتفاضة كـ«فرهود» جديد.

يقال «إن من غربل الناس نخلوه»، وهذا ما جرى للبعثيين وعملاء الأمن و«الشمامين»، الذين لاحقهم الثائرون وقتلوهم بلا رحمة. اختفى البعثيون في بيوتهم، أو في بيوت «المحسنين» إليهم، وتحوّلوا في لحظة من قامعين إلى مقموعين مستعدّين للهتاف مع الجموع الغاضبة بالشعارات الطائفية الساذجة.

تبلغ الدراما ذروتها بمقتل الشخصية البصرية الشعبية «مرجان» على أيدي الحرس الجمهوري، بعد تعذيبه والتنكيل به بتهمة زائفة لا يبدو أن سفلة النظام بحاجة إليها كي يطلقوا على عظمه الغربالي (عظم في قاع الجمجمة بين الأنف والدماغ) رصاصة الرحمة. ينهار مرجان (الأسود) في القبر الذي حفره بنفسه هو، يشدد على أنه رجل بسيط لا يجيد غير أساليب الدعاية الشعبية للأفلام، عازفاً الموسيقى بالناي من أنفه، وهو يهز مؤخرته المكوَّرة أمام أنظار الفتيات الخجِلات الرائحات والغاديات على جسر الهنود (جسر المغايز).

جمع المؤلف في هذه الشخصية الشعبية كامل مواصفات أبطاله، الذين يمثلون الشخصية البصرية البسيطة، هذه الشخصية البصرية التي تتحدر ربما من ثورة الزنج التي قادها علي بن محمد، شخصية محبوبة لا تختلف في هويتها عن الهوية المتعددة لهذه المدينة - الميناء التي تحمل أحياؤها أسماء «سوق الهنود»، و«جبل البلوش»، و«جسر العبيد»؛ تعبيراً عن تنوعها وتعايشها الثقافي.

لم يكن أبو عراق حراً في اختيار المكان في رواية «غرابيل»؛ لأن الحديث عن تفاصيل الانتفاضة، التي أعقبت تحرير الكويت، انطلقت من ساحة سعد في البصرة. لحظة جنون وانفجار واجهها الجيش «العقائدي» بعنف لا يقارَن أبداً بالخنوع والذل، الذي واجه به هذا الجيش جيش «الغزاة» الأميركان. غربل الأميركان الجنود العراقيين بأسلحتهم الفتاكة (غربل هنا بمعنى قتل أو سحق)، وترك البقية للحرس الجمهوري؛ كي يغربل الصغير والكبير بمنخل ناعم، فالمكان الذي تجري فيها وقائع الرواية هو أحياء المدينة الفقيرة وحي العشار - البجاري؛ حيث تقع مكتبة علي نكيل حتى الآن، هذه المدينة التي كرهها صدام بحسين بسبب تمرد أهلها وسماها «المدينة السوداء».

يكشف لنا قاموس المعاني أن غربلة الناس تعني كشف أحوالهم ومصائرهم، وهذا ما يفعله مؤلف «غرابيل»، الذي يبدو أنه اختار هذه العنوان بعناية بالغة. سمعنا الكثير عن الفظائع التي خلّفتها هذه الحرب، والفظائع الكبرى التي خلفها الحصار والجوع، لكن علي نكيل يغربل كل هذه الأحداث ليسرد لنا أفظعها، عن الرجل الذي ربط عيون أطفاله الثلاثة وألقى بهم من الجسر إلى النهر، لعجزه عن إطعامهم، وعن المعيدية الجميلة التي صارت تتاجر بجثث وهمية خلّفتها الحرب العراقية الإيرانية. بدأت سكينة المعيدية بيع الأجهزة الكهربائية المعطوبة في إيران هناك، بعد تهريبها عبر مسالك الأهوار الممتدة بين العراق وإيران، تطور عملها بعدها، وزاد طمعها في المال الحرام ليجرّدها من كل إنسانية لديها، إذ صارت تنبش الجثث من مقبرة «المندائيين» في البصرة، وتبيعها إلى الإيرانيين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب، بعد أن تضع أسماء الجنود الإيرانيين على هذه الجثث. تسرد سكينة للآخرين، بلا تأنيب ضمير، كيف تنتزع الجثث «الطرية» من لحدها، كي تبيعها في إيران.

لا يعادل الحقد ضد النظام في البصرة آنذاك غير الإحباط الكبير من تملص الأميركان من مسؤولياتهم بصفتهم قوة غازية، وتغاضيهم عن طائرات الهليكوبتر العسكرية العراقية، التي كانت تسحق الناس من منتفضين وغير منتفضين، من بريئين وغير بريئين، بنيرانها الفوسفورية.

يقول صديقه علي الساعدي، الذي كان من المترددين على مكتبته الصغيرة، وهو ينظر إلى الجموع التي تطلق الأهازيج المطالبة بحكم شيعي: «هي فورة ستخمد، البصرة لا تغير هويتها. منذ زمن بعيد تنازعتها أهواء مختلفة، لكنها تقاوم كل هذه الدعاوى، لحيويتها الاجتماعية وموقعها الجغرافي، مرّت بمئات الخرابات، ونهضت من جديد، مدينة لا تشيخ، ولا تستسلم للأهواء العابرة وللطغاة والدمار».

يقتحم قتَلة النظام البيوت في البصرة، ويجمعون الرجال والنساء والأطفال، الملتصقين بعباءات أمهاتهم، قرب النهر، ويقولون لهم إن ساعة إعدامهم الجماعية ستحلُّ قريباً. المفارقة هي أنهم يطلبون من الناس الهتاف بحياة الطاغية: «صدام اسمك هز أمريكا»، وهو القائد «الفلتة» الذي هزّ ذيله للأميركان في كل مواجهة.

لا يمكن وصف ما يسرده علي نكيل في رواية «غرابيل» من أحداث مأساوية تَلَت السقوط المدوِّي لحلم احتلال الكويت، بأنه انتفاضة، ربما لأنها، في سرده، أقرب إلى فورة غضب عارمة أجّجتها الهزيمة والقهر والجوع. شاركت بعض شخصيات الرواية عن وعي في رسم أحداث تلك الأيام، وانتهت تحت الأسوار، أو أنها تسللت بعد ذلك إلى البلدان القريبة؛ خلاصاً من موت أكيد، لكن الغالبية من الفقراء كانوا ملهوفين للقمة عيش كريمة مع «الحسناء»، بعد أن عانت طويلاً من وجبة «وحش الطاوة» بلا طماطم.

صدرت الرواية عن دار الرفاه للطباعة والنشر، وتقع في 131 صفحة من القَطع المتوسط. صمَّم الغلاف الفنان صالح جادري.



الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات
TT

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

الدموع هي سيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات

إذا كان المكتوب يُقرأ في معظم الأحيان من عنوانه، كما تقول العرب، فإن أكثر ما شدّني إلى قراءة كتاب توم لوتز «تاريخ البكاء» هو عنوانه بالذات، خصوصاً وأن المؤلف أضاف إليه عنواناً فرعياً أكثر إثارة للفضول، هو «تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي». ورغم أن موضوع البكاء، بتعبيراته المرئية وغير المرئية، لم يكن بعيداً عن متناول الباحثين في علوم الطب والاجتماع والنفس، فإن ما أكسب الموضوع جاذبيته الخاصة هو تعقب الكاتب الدؤوب لما يظنه القارئ، لشدة بديهيته واتساع رقعته الزمنية، عصياً على التدوين.

وفي تقديمه للكتاب، الصادر عن دار «صفحة 7»، الذي نقله إلى العربية عبد المنعم محجوب، يشير لوتز إلى أن دافعه للكتابة كان سؤال أستاذه رولان بارت في إحدى المحاضرات عمن من تلامذته سيكتب تاريخ الدموع. وبعد أن انبرى العديد من تلامذته للقول بشكل تلقائي «كلنا سيفعل ذلك»، أحس لوتز برغبته العميقة في عدم خذلان أستاذه، وبأن واجبه الأخلاقي أن يتصدى لهذه المهمة، مهما كان حجم الصعاب التي تعترض طريقه. لكن هذا الدافع المباشر كان مقروناً بدافعين آخرين، يتعلق أولهما بتبرم لوتز من التنظير الفلسفي المحض الذي يسميه «تواتر اللامعنى»، وبنزوعه الملح إلى المواءمة التامة بين الفلسفة التطبيقية والعلوم الحديثة.

أما ثانيهما فيرتبط بتكوين المؤلف النفسي والعاطفي. فهو إذ يصنف البشر بين بكائين و«جفافين»، أي الذين جفت مدامعهم، يعلن انحيازه بصورة واضحة إلى الصنف الأول، مستعيناً على مهمته بالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وبعلم وظائف الأعضاء والفيزيولوجيا العصبية والكيمياء والحيوية. لكن كل تلك العلوم لم تكن لتكسب الكتاب أهميته، لولا الخلطة السحرية التي وفرها لوتز لكتابه، جامعاً على طريقة أستاذه بارت، بين المعرفة الموسوعية الجامعة، ودقة التصويب إلى التفاصيل، والأسلوب الشاعري المتوهج.

وإذ يستهل المؤلف كتابه بمجموعة من التساؤلات المتتالية عن أسباب البكاء، وعن الطبيعة الملتبسة للدموع التي اعتدنا على ذرفها في مناسبات متناقضة، كتعبير عن الفرح أو الحزن، الربح أو الخسارة، عن متعة الحب وآلام الفراق، وعن الاحتفال بقريبٍ عائد أو الحداد على عزيزٍ راحل، لا يتوانى عن العودة بعيداً إلى الوراء، ليتقصى جذور الدموع الأم في الميثولوجيا والدين والشعر والسحر والطقوس الجمعية المختلفة.

وقد بدت الدموع في حضارات الشرق القديمة، كما لو أنها الخمرة المسكرة، أو الماء الذي يحتاجه المكلومون لإرواء غليلهم. فالآلهة العذراء «عناة»، ظلت تذرف الدموع إثر وفاة أخيها «بعل» إلى أن «أتخمت نفسها بكاءً وصارت تشرب الدموع كما الخمر»، وفق النصوص التي اكتشفت في أوغاريت في مطالع القرن الفائت. لا بل إن للدموع في الأساطير، بخاصة دموع النساء، أثرها البالغ على عتاة «الصفوف الأولى» من الآلهة، الذين عمدوا بتأثير من بكاء «عناة» إلى إعادة «بعل» إلى الحياة لشهور عدة. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بكاء عشتروت على أدونيس، وإنانا على ديموزي، وإيزيس على أوزيريس.

وفي «العهد القديم» تبدو الدموع بمثابة التماس للغفران وتطهر من الإثم، حيث يقول الرب لحزقيال «لقد رأيت دموعك وها أنا أشفيك». كما أن داود في المزامير يستخدم دموعه لاستدرار عطف الخالق، مفترضاً أن دموع الصلاة غالباً ما يُستجاب لها، ومردداً بحرقة بالغة «اسمع صلاتي يا رب، واصغِ إلى بكائي، ولا تسكت عن دموعي». ويعدُّ المؤلف أن العبريين الذين أقاموا حائطاً للدموع سموه «حائط المبكى»، لم يتركوا وسيلة من وسائل العويل وشق الثياب والتلطخ بالرماد إلا واستخدموها للتأثير على إلههم «يهوه»، الذي كان يعاقبهم على جحودهم وإيغالهم في العقوق وارتكاب الفواحش، قبل أن يشفق عليهم في نهاية الأمر. وبعد أن حل بهم وباء الجراد، وشرعوا بشق الثياب كالعادة، ينقل نبيهم يوئيل عن «يهوه» قوله لهم «اذهبوا الآن وارجعوا إليَّ بالصوم والصلاة والبكاء والنواح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم».

وفي الأناجيل الأربعة لم تبتعد دلالة الدموع عن دلالاتها في التوراة. لا بل إن دموع مريم المجدلية التي ركعت باكية عند قدمي المسيح، وفق ما رواه لوقا، وأخذت تمسحهما بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب، كانت واحدة من علامات توبتها وتطهرها من الخطايا، الأمر الذي أكدته مخاطبة المسيح لها بالقول «إن إيمانكِ قد خلّصك يا امرأة، اذهبي بسلام». وإذ تبدو الدموع في المسيحية جزءاً لا يتجزأ من طقوس البكاء على المسيح، يتساءل القديس أوغسطين عما إذا كانت الدموع تستمد حلاوتها من الاعتقاد بأنها مرئية من قبل الله، فيما يقر توما الأكويني بأن ذرفها بكثرة هو ما يخفف المعاناة ويتيح الحصول على النعمة.

ولم تكن الدموع بما تحمله من دلالات متداخلة لتغيب عن بال المبدعين في العصور القديمة والحديثة. وقد أثارت العلاقة بين الدموع والجمال اهتمام الكثير من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم فيرجيل الذي أشار في «الإنياذة» إلى الدموع التي تشبه الزخارف، كما يرد في أحد الأمثال القديمة بأن «المرأة ترتدي دموعها مثل المجوهرات». وحيث يعدُّ أوفيد أن الدموع تجرف الحزن بعيداً، وتضفي على المرأة قدراً غير قليل من الجاذبية والجمال، يتحدث يوروبيديس عن الدموع التي ترافق اللذة، فيما يعدها آخرون بمثابة العقوبة الطبيعية للمتعة.

إلا أن ذلك لم يمنع الكثيرين من النظر إلى دموع المرأة بعين الريبة والتوجس، وفي طليعتهم وليم شكسبير الذي حذر في غير واحدة من مسرحياته، مما تخفيه الدموع وراءها من مكائد. فهو يقول بلسان عطيل، وقد استبدت به مشاعر الغيرة على ديسدمونا: «أيها الشيطان، إذا سالت دموع امرأة على الأرض، فكل قطرة تذرفها ستثبت أنها تمساح».

وفي إطار ما يسميه المؤلف «علم اجتماع الدموع»، يشير لوتز إلى العديد من ظواهر البكاء الحدادي في العالم. فهو إذ يبدو عند بعض الجماعات نوعاً من قطع الروابط الأخيرة مع الموتى، يتحول عند بعضها الآخر إلى مهنة للارتزاق، كما تفعل قبائل الولف السنغالية، حيث يتم استئجار النساء للندب على الموتى. وإذ تناط بالنساء مهمة البكاء بالأجرة في بعض مناطق الفيليبين، ما يلبث الطرف المستأجِر أن يقدِّم لهن حبوباً باعثة على الضحك، كنوع من التسرية عنهن بعد إنجاز المهمة.

فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي

على أن فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي، سواء تعلق الأمر بالبكاء على الأطلال، أو دموع الصوفيين كرابعة العدوية، أو دموع العشاق العذريين، أو بطقوس النواح الكربلائي، وصولاً إلى الدموع السخية التي ذرفها الأحياء على الموتى، في مسلسل الحروب الدموية التي لا تكف عن التوالد. وإذا لم يكن لباحثٍ أميركي أن يتنبه لهذا الأمر، فقد تكفل الشعراء العرب بهذه المهمة على أكمل وجه، بحيث بدا الشعر العربي في جانبه الأكبر، مدونة للرثاء والفقدان، بدءاً بمعلقة امرئ القيس الاستهلالية «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ»، وليس انتهاء بصرخة محمود درويش ذات مواجهة مماثلة مع الاحتلال:

تعب الرثاءُ من الضحايا

والضحايا جمَّدت أحزانها

أوَّاه مَن يرثي المراثي؟

في غزة اختلف المكانُ مع الزمان،

وكانت الصحراء جالسةً على جلدي،

وأول دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيةً،

هل تذكرون دموع هاجرَ،

أوّل امرأةٍ بكتْ في هجرةٍ لا تنتهي؟