هل ينتقد الناس ذواتهم حقّاً أم يتظاهرون بذلك؟

لا يُعقل أن تكون أحوالُ الناس كلُّها على ما يُرام

سقراط
سقراط
TT

هل ينتقد الناس ذواتهم حقّاً أم يتظاهرون بذلك؟

سقراط
سقراط

على قدر ما يَسهل على الإنسان أن ينتقد الآخرين، يَصعب عليه أن ينتقد ذاتَه. انتقادُ الآخرين بضاعةٌ شائعةٌ في جميع البيئات والأوساط. ذلك بأنّ مثل هذا الانتقاد يمنحنا بعض التعزيات الوهميّة، فيجعلنا نشعر ببعضٍ من التفوّق على الناس الذين نخالطهم، ويضعنا في مأمنٍ من التعرّض والانكشاف، ويُنسينا مطالبَ الارتداد النفسيّ والتوبة الجوّانيّة والإصلاح الذاتيّ. لذلك؛ يجب علينا أن نفكّر في مسألة النقد الذاتيّ، فنسأل أنفسَنا عن حقيقة المسعى الذي ندّعي إنجازَه حين نُوهم أنفسَنا والآخرين بأنّنا نُعيد النظر في بنيتنا الذهنيّة، ومسلّماتنا الفكريّة، وتصوّراتنا الاعتناقيّة، وثوابتنا العقائديّة، ومُثلنا ومبادئنا وقيَمنا وأحكامنا.

لا بدّ في البداية من التذكير بأبرز أنواع النقد الذي يمارسه الفكرُ الفلسفيُّ على وجه العموم. أقدمُ أصناف النقد المراجعةُ الاستفساريّةُ التي مارسها الفيلسوف الإغريقيّ سقراط (تُوفّي العامَ 399 ق.م.) حين حرّض الناسَ على انتقاد مدّعي المعرفة السوفسطائيّين الذين كانوا يزيّنون لهم الحقيقة بحسب مصالحهم الشخصيّة. من أبرز عمليّات النقد السقراطيّ التهكّمُ الذي يجرّد الإنسان من كلّ أصناف المعرفة، ويجعله صاحبَ السؤال المزعج. وحده الإنسان الذي يتخلّى عن كلّ المعارف ويعود إلى ذاته المنعتقة من كلّ الأحكام، يستطيع أن يطرح السؤال الوجوديّ الأخطر. أمّا أهلُ المعرفة الشاملة القطعيّة المطلقة فيُضطرّون إلى الإجابة؛ إذ لا يليق بمن يدّعي امتلاك المعرفة أن يَسأل عن موضوع معرفته. غير أنّ النهج الاستفساريّ هذا لم ينقذ سقراط من قسوة أهل المدينة الذين لم يستحسنوا استفزازه الوجدانيّ الحادّ، فألصقوا به تهمة الإلحاد، وفي اعتقادهم أنّ أقبح ضروب الإلحاد أن يَعمد الإنسانُ إلى التشهير باقتناعاته الشخصيّة الراسخة.

لم يُفلح الناقد الإغريقيّ الأوّل هذا في نشر ثقافة النقد الذاتيّ. بيد أنّ البذرة زُرعت في تربة الحضارة الإنسانيّة، فتعاقبت الاجتهاداتُ الفلسفيّةُ وتنوّعت مظاهرُ الدعوة إلى التدقيق في العمارات الفكريّة والاعتقاديّة التي يبنيها الناسُ من أجل تعيين موقعهم في الوجود وتسيير أمورهم الحياتيّة. يَعلم الجميع أنّ النقد هذا اتّخذ شكلَ الشكّ عند الفلاسفة الارتيابيّين الإغريق الأوائل، وعند القدّيس أوغسطينُس (354-430)، وعند الغزالي (1058-1111)، وعند ديكارت (1596-1650). لا ريب في أنّ ما يجمع هؤلاء الفلاسفة، على تباين تناولاتهم، رغبتُهم الصادقة في تحرير النفس الإنسانيّة من أوهام المعرفة الخاطئة. وهذا ضربٌ حميدٌ من ضروب النقد الذاتيّ.

 

 

 

كانط

 

 

الأسئلة الفلسفية الثلاثة

أمّا النقد الفلسفيّ الأخطر فأتى به الفيلسوف الألمانيّ كانط (1724-1804) حين أكبّ يتحرّى الشروطَ النظريّة الأساسيّة التي تنتظم بها عمليّةُ المعرفة برمّتها. يَذكر الجميعُ الأسئلة النقديّة الأربعة التي طرحها كانط: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ ماذا يجوز لي أن آمل؟ ما الإنسان؟ من الواضح أنّ كلّ سؤال من هذه الأسئلة ينطوي على طاقةٍ نقديّةٍ جبّارةٍ؛ إذ إنّه يتقصّى الخلفيّات المعرفيّة والأخلاقيّة والاعتقاديّة والأنثروبولوجيّة الناظمة. في المعرفة ينتقد كانط كلَّ المعارف التي لا تدخل في قرائن الزمان والمكان، ولا تخضع لبنية الفاهمة ومقولاتها الحاكمة، ولا تراعي نظام الربط الذي يعتمده العقل المجرّد. في الأخلاق ينتقد كانط كلَّ القيَم التي لا تصون مبدأ الواجب المحض، ويرفض الأفعال الإنسانيّة التي تنبثق من خلفيّات المنفعة المستترة. في الدِّين ينبذ كلَّ البراهين العقليّة التي تدّعي الاستدلال على الوجود الإلهيّ، ويكتفي بافتراض الضرورة الإيمانيّة المستندة إلى مسلّمات الحرّيّة الشخصيّة وخلود النفس. ذلك بأنّ سقوط هاتَين الحقيقتَين يُبطل معنى الحياة الأخلاقيّة والإنسانيّة على الإطلاق. ومن ثمّ، يصبح الله، بحسب النقد الكانطيّ، ضرورةً أخلاقيّةً عمليّةً، لا حقيقةً نظريّةً تؤيّدها الأدلّة العقليّة. في الأنثروبولوجيا يرسم لنا كانط الإنسانَ في طور القابليّة الاكتماليّة التي تسمو بالتهذيب الأخلاقيّ والرقيّ المسلكيّ.

تحوَّل النقد الكانطيّ هذا مثالاً ناصعاً يحتذي به الناسُ في إنجاز عمليّات النقد التي تصيب حقول الوجود. بما أنّ كانط نظر في البنى الأساسيّة الناظمة، أي في الشروط النظريّة الأصليّة، فإنّ النقد الأصدق ينبغي أن ينظر في الخلفيّات المستترة التي منها تنبثق كلُّ المعارف والأحكام. على هذا النحو سار النقدُ الماركسيُّ الذي اكتفى بإعمال النظر في شروط الإنتاج المادّيّة وفضح ظلمَ اقتسام ثمار القوى العاملة. وعلى النحو عينه قام النقدُ الفرويديّ الذي دخل في أعماق النفس الإنسانيّة يستجلي طبقات اللاوعي المنحجبة فيها ويفضح التواءات الرغبة المكتومة. والمثال عينُه اعتمدته الفلسفات البنيويّة التفكيكيّة التي أعادت النظر في طريقة التفكير المألوفة بين الناس، وشكّكت في صحّة الحقائق المستخرجة وسلامة اليقينيّات المعتمدة.

أذكر هذا كلَّه لأبيّن للقارئ أنّ النقد الذاتيّ من أخطر الصناعات الوجوديّة قاطبةً. ليس كلُّ إنسان مُعَدّاً ومستعدّاً للخوض في مثل العمليّة الانقلابيّة هذه. ولكنّ النضج الإنسانيّ في المجتمعات لا يستقيم إلّا حين يرضى كلُّ إنسانٍ بإعادة النظر في المسلّمات التي بنى عليها حياتَه كلَّها. لستُ بغافلٍ عن الاختلاف الواضح بين الشكّ الذي يعطّل المعارف، والنقد الذي يتقصّى صحّتها وصوابها وصلاحيتها وراهنيّتها. غير أنّ الشكّ شرطٌ أساسيٌّ في تمهيد عمليّة النقد؛ إذ إنّ الإنسان الذي لا يشكّ في حقائق الأنظومة التي استنّها لنفسه لا يملك أن ينتقد عيوبها، ويفضح نقائصها، ويندّد بانسداداتها. فهل نستطيع فعلاً أن ننتقد ذواتنا حتّى نخرج بخلاصات أُخَر ونُفضي إلى تصوّراتٍ حياتيّةٍ جديدةٍ؟

الحقيقة الذاتية والحقيقة المطلقة

لكي يستطيع الإنسان أن ينتقد ذاته، لا بدّ له من أن يميّز الحقيقة الذاتيّة من الحقيقة المطلقة، ويفصل بين الاقتناع الشخصيّ الثابت والفكر المغاير المتطوّر. بعبارةٍ أوضح، لا بدّ للإنسان المقتنع بفائدة النقد الذاتيّ من أن يفصل بين متطلّبات النضج الذاتيّ المبنيّ على تطوير المسعى الاقتناعيّ، وضرورات التمسّك ببعض الحقائق التي ترتّب له بنيانَ شخصيّته وتضبط في أفكاره وأقواله وأفعاله موازينَ الاتّساق المنطقيّ والتماسك الصائب. واقعُ الأمر أنّ النقد الذاتيّ يضع الإنسان في منزلةٍ بين منزلتَين: الاعتصام الضروريّ بمكتسبات الخبرة الحياتيّة التي تتيح له أن يصون وحدة كيانه، والانفتاح الخلاصيّ على الغيريّات المستنهِضة، والاختلافات المستفزّة، والمستحدثات الطارئة، والممكنات الجديدة الواعدة المرتسمة في أفق الوجود الإنسانيّ المتجدّد.

الخوف من النقد الذاتي

أعرف أنّ معظم الناس لا يرغبون في ممارسة النقد التغييريّ الجذريّ هذا. بعضهم يكتفي بالنقد النظريّ الافتراضيّ الترَفيّ الذي لا يستتلي أيَّ ضربٍ من ضروب التغيير الفكريّ أو المسلكيّ. بعضهم الآخر يجرؤ فيستطلع إمكانات التغيير الضروريّ في حياته، ولكنّه لا يقوى على إنجازها. من الممكن، والحال هذه، أن تستمرّ الحياة الإنسانيّة على الكوكب المأهول هذا من غير تبدّلٍ جسيمٍ في التصوّرات والمبادئ والقيَم والاقتناعات. ولكنّ تطوّر المعارف بلغ اليوم حدّاً من الاستفزاز المربك جعل الوعي الإنسانيّ يفقد الثوابت الأساسيّة التي بنى عليها رؤيته الفكريّة الشاملة. زدْ على ذلك أنّ الاختلاط الكثيف بين الشعوب في المدينة الإنسانيّة المعاصرة الواحدة أضحى يستحثّ الناس على التفكير في معنى الاختلافات الجليلة التي يعاينون آثارَها في جميع حقول الحياة اليوميّة المشتركة.

ومن ثمّ، ينبغي لنا أن نستنبط سبيلاً جديداً من المعايشة يعتمد في المقام الأوّل على مسار النقد الذاتيّ الذي يحرّر الإنسان من أوهام امتلاك الحقيقة. ذلك بأنّ الذين يضطلعون بمسؤوليّة النقد هذا يدركون أنّ ما استقرّ في وعيهم الجوّانيّ من حقائق راسخة لم يعد صالحاً، في جوانب شتّى، لتدبّر تحدّيات الحياة الطارئة، وقد تجلّت في وجهَين اثنَين: التطوّر المذهل في المعارف العلميّة والتكنولوجيّة والطبّيّة، والاختلاط المتعاظم بين الجماعات العرقيّة والقوميّة والثقافيّة الشديدة التباين في تصوّراتها الوجوديّة الناظمة. لا شكّ في أنّ المتغيّرَين الثقافيَّين الجليلَين هذَين يحرّضان الجميع على إعادة النظر في أسُس العمارة الفكريّة التي يركنون إليها في حلّهم وترحالهم. بيد أنّ إعادة النظر لا تستقيم إلّا إذا استندت إلى عمليّة النقد الذاتيّ الصادق. جميع العمليّات التجميليّة الأُخَر لا تستطيع أن تنقذ الوعي الإنسانيّ المعاصر من أزمة التعدّديّة الكونيّة المستفحلة.

إذا أردنا أن ننزع عن وعينا غشاءَ العمى الذي أصابه من شدّة الامتداح الذاتيّ والرضوان التخديريّ، وَجب علينا أن نتجاوز مراتب التأزّم التي اختبرتها الإنسانيّة على تعاقب العصور. فنعالج أسباب الوعي الزائف، والوعي الملتبس، والوعي المتغرّب عن ذاته، والوعي الشقيّ، والوعي الاستعلائيّ، حتّى نبلغ عمق الاضطراب في وعينا المتصلّب المصفّح الممانع الذي يقاوم جميع ضروب النقد الإصلاحيّ.

أمّا إذا سألني أحدُهم: لماذا أصرّ هذا الإصرار على ضرورة النقد الذاتيّ؟ فجوابي واضحٌ وضوحَ نور الشمس! ذلك بأنّي لم أسمع عن حروبٍ نشبت ودماءٍ سالت بسببٍ من حاكم مستنيرٍ انتقد ذاتَه وعزم على إصلاح مُلكه بقوّة توبته الفكريّة وارتداده الروحيّ الصادق. خلافاً لهذا كلّه، اندلعت معظمُ حروب الأرض من جرّاء الانتقاد الذي أصابنا من الآخرين. ومن ثمّ، لا يستقيم حوار الحضارات إلّا حين ترضى كلُّ أنظومةٍ ثقافيّةٍ بانتقاد ذاتها من داخل بنيانها الفكريّ العقائديّ. كلُّ انتقادٍ يأتينا من الغير يصيبنا بالتشنّج المرَضيّ، شئنا ذلك أم أبينا. أمّا الانتقاد النابع من رغبتنا الصادقة في التقويم والإصلاح والتجويد، فيعزّز لنا وللآخرين فرَصَ التسالم والتحاور والتعاون والتضامن.

رأس الكلام في هذا كلّه أنّ النقد الذاتيّ شرطُ المعيّة الإنسانيّة الناضجة المتضامنة المتقابسة في قرائن المدينة المعاصرة المتعدّدة الأجناس والأفكار والأذواق والأفعال. لا يستطيع الناسُ المختلفون أن يحيوا معاً حياةً صادقةً منتجةً إلّا إذا عمدوا إلى انتقاد التصوّرات الأصليّة التي بُنيت عليها اعتقاداتهُم. من دون ذلك تتحوّل معيّتُهم إلى مكاذبةٍ فاضحةٍ تشلّ طاقات الإبداع في مجتمعهم المتنوّع. النقد الذاتيّ شرطُ تقدّم الأمَم. لا غرابة، والحال هذه، من أن تَسقط مجتمعاتُ الاستبداد في محنة التخلّف الفكريّ الذي يرهب النقدَ في جميع وجوهه. لا يمكنني أن أتصوّر مجتمعاً قائماً على الرضا الوجدانيّ المطّرد والمدح الذاتيّ الدائم. لا يُعقل أن تكون أحوالُ الناس كلُّها على ما يُرام، وأن يحظى الجميع بأرفع شهادات السلوك. الخوف من النقد الذاتيّ علامةٌ على رهبةٍ كيانيّةٍ تجعل الإنسانَ مريضَ أوهامه يعجز عن استقبال الجِدّة الآتية من عبقريّة العقول المستنيرة ووعود الأجيال الصاعدة. ذلك بأنّ النقد ضمانةُ الاستقامة المسلكيّة الرائدة، وعربونُ الإبداع الفكريّ البنّاء، ودليلُ التألّق الحضاريّ المغني.



علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.