القاسمي: أستلهم البيئة العُمانية

تحدث لـ «الشرق الأوسط» عن «تغريبة القافر» حائزة «بوكر»

زهران القاسمي
زهران القاسمي
TT

القاسمي: أستلهم البيئة العُمانية

زهران القاسمي
زهران القاسمي

فازت رواية «تغريبة القافر» للكاتب العماني زهران القاسمي بجائزة «بوكر» للرواية العربية التي أُعلنت في أبوظبي، أول من أمس. واختارت لجنة التحكيم هذه الرواية لكونها اهتمت «بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة». وفي الحوار الذي تنشره «الشرق الأوسط» معه، يؤكد القاسمي أنَّ كل رواياته تستلهم البيئة العمانية، «وهذه هي مهمة الروائي؛ أن يغوص في أعماق تراث بلده، ويستخرج ما هو خافٍ».

ولكن لماذا هذا العنوان الغامض بعض الشيء، «تغريبة القافر»؟ يعترف القاسمي بأنَّه كان محتاراً في تسمية الرواية إلى أن استقر على هذا العنوان.

والقافر هو مقتفي أثر الماء، الذي تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية. وتقع أحداث الرواية في عالم الأفلاج، النظام الفلاحي لريّ البساتين، المرتبط بالحياة القروية في عُمان ارتباطاً وثيقاً، والذي دارت حوله الحكايات والأساطير. هذه الشخصية، كما يقول، عاشت تجربة مريرة، وقاست كثيراً، لذلك ربطها بالتغريبة، لأن فئة كبيرة تعمل في مجال الأفلاج. وكان في ذهنه «تغريبة بني هلال» و«التغريبة الفلسطينية» كما كتبها إبراهيم نصر الله.



«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»
TT

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

تبدو رواية «غرابيل» للأديب البصري علي نكيل «أبو عراق»، في بنائها الدرامي مثل مسرحية كلاسيكية تتفاعل فيها الأحداث، وتتصارع فيها الشخصيات، بشكل لولبيّ متصاعد، وصولاً إلى ذروة العمل.

إذ تبدأ رحلة أبو عراق الروائية باستدعائه إلى دائرة الأمن المُرعبة في البصرة، بسبب تحول مكتبته الصغيرة في العشار إلى ملتقى للمثقفين «المارقين» على طغيان النظام، ثم تتسارع الأحداث بعد ذلك على وقْع قرع طبول احتلال الكويت، ومن ثَمّ تحريرها من الاحتلال العراقي، وانتفاضة الجوع والغضب الشعبية التي أعقبت هزيمة الجيش الأعزل والمنهار نفسياً أمام عاصفة الصحراء.

ليس غريباً أن يسمِّي البصريون مبنى دائرة الأمن الكبيرة، المطلية بالأبيض، بـ«الليث الأبيض»؛ لأن دخول هذا العرين المُخيف لا يجري بالسهولة التي يُتصور بها دخوله. يخرج أبو عراق من عرين الليث سليماً، بعد أن يتضح أن الاستدعاء كان مجرد تحذير من تحول مكتبته الصغيرة إلى وكر للشيوعيين التائبين، والمثقفين الناقمين. وهذا في زمنٍ تجري فيه أحداث القصة، في الفترة القصيرة الفاصلة بين نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ونهاية غزوة الكويت المجنونة، وحينما تحولت البصرة بأكملها إلى عرين ليث أبيض.

يتضح لنا في الحال أن «أبو عراق» ليس بطل هذه الرواية المأساوية التي تُغَربل أكثر فترات العراق حلكة، وشهدت الخراب الجديد الذي يحلّ بالبصرة، مثل متوالية هندسية تتكرر فيها الزوايا. ليس الراوية في «غرابيل»، وأقصد علي نكيل، غير شاهد على ما حلَّ من دمار في أبنية المدينة، وأرواح أبنائها الحالمة بالخلاص من الدكتاتورية والحروب. يؤدي علي هنا دور الراوية في مسرحية دراماتيكية، لا ينسب لنفسه فيها أية بطولة، ولا يتدخل في أحداثها على الطريقة البريختية، لكنه يصورها لنا بكل واقعية.

أبطال هذه الرواية، سواء أكانوا سلبيين أم إيجابيين، هم أبناء البصرة؛ من مثقفين يحافظون على أفكارهم، مقابل مثقفين نزعوا جلودهم وانقلبوا «غرابيل» (بمعنى نمّامين ووُشاة هنا)، وعامة الناس بين من ثار ضد الظلم والجوع منهم، وبين من تحوّلوا إلى نهّابين تعاملوا مع الانتفاضة كـ«فرهود» جديد.

يقال «إن من غربل الناس نخلوه»، وهذا ما جرى للبعثيين وعملاء الأمن و«الشمامين»، الذين لاحقهم الثائرون وقتلوهم بلا رحمة. اختفى البعثيون في بيوتهم، أو في بيوت «المحسنين» إليهم، وتحوّلوا في لحظة من قامعين إلى مقموعين مستعدّين للهتاف مع الجموع الغاضبة بالشعارات الطائفية الساذجة.

تبلغ الدراما ذروتها بمقتل الشخصية البصرية الشعبية «مرجان» على أيدي الحرس الجمهوري، بعد تعذيبه والتنكيل به بتهمة زائفة لا يبدو أن سفلة النظام بحاجة إليها كي يطلقوا على عظمه الغربالي (عظم في قاع الجمجمة بين الأنف والدماغ) رصاصة الرحمة. ينهار مرجان (الأسود) في القبر الذي حفره بنفسه هو، يشدد على أنه رجل بسيط لا يجيد غير أساليب الدعاية الشعبية للأفلام، عازفاً الموسيقى بالناي من أنفه، وهو يهز مؤخرته المكوَّرة أمام أنظار الفتيات الخجِلات الرائحات والغاديات على جسر الهنود (جسر المغايز).

جمع المؤلف في هذه الشخصية الشعبية كامل مواصفات أبطاله، الذين يمثلون الشخصية البصرية البسيطة، هذه الشخصية البصرية التي تتحدر ربما من ثورة الزنج التي قادها علي بن محمد، شخصية محبوبة لا تختلف في هويتها عن الهوية المتعددة لهذه المدينة - الميناء التي تحمل أحياؤها أسماء «سوق الهنود»، و«جبل البلوش»، و«جسر العبيد»؛ تعبيراً عن تنوعها وتعايشها الثقافي.

لم يكن أبو عراق حراً في اختيار المكان في رواية «غرابيل»؛ لأن الحديث عن تفاصيل الانتفاضة، التي أعقبت تحرير الكويت، انطلقت من ساحة سعد في البصرة. لحظة جنون وانفجار واجهها الجيش «العقائدي» بعنف لا يقارَن أبداً بالخنوع والذل، الذي واجه به هذا الجيش جيش «الغزاة» الأميركان. غربل الأميركان الجنود العراقيين بأسلحتهم الفتاكة (غربل هنا بمعنى قتل أو سحق)، وترك البقية للحرس الجمهوري؛ كي يغربل الصغير والكبير بمنخل ناعم، فالمكان الذي تجري فيها وقائع الرواية هو أحياء المدينة الفقيرة وحي العشار - البجاري؛ حيث تقع مكتبة علي نكيل حتى الآن، هذه المدينة التي كرهها صدام بحسين بسبب تمرد أهلها وسماها «المدينة السوداء».

يكشف لنا قاموس المعاني أن غربلة الناس تعني كشف أحوالهم ومصائرهم، وهذا ما يفعله مؤلف «غرابيل»، الذي يبدو أنه اختار هذه العنوان بعناية بالغة. سمعنا الكثير عن الفظائع التي خلّفتها هذه الحرب، والفظائع الكبرى التي خلفها الحصار والجوع، لكن علي نكيل يغربل كل هذه الأحداث ليسرد لنا أفظعها، عن الرجل الذي ربط عيون أطفاله الثلاثة وألقى بهم من الجسر إلى النهر، لعجزه عن إطعامهم، وعن المعيدية الجميلة التي صارت تتاجر بجثث وهمية خلّفتها الحرب العراقية الإيرانية. بدأت سكينة المعيدية بيع الأجهزة الكهربائية المعطوبة في إيران هناك، بعد تهريبها عبر مسالك الأهوار الممتدة بين العراق وإيران، تطور عملها بعدها، وزاد طمعها في المال الحرام ليجرّدها من كل إنسانية لديها، إذ صارت تنبش الجثث من مقبرة «المندائيين» في البصرة، وتبيعها إلى الإيرانيين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب، بعد أن تضع أسماء الجنود الإيرانيين على هذه الجثث. تسرد سكينة للآخرين، بلا تأنيب ضمير، كيف تنتزع الجثث «الطرية» من لحدها، كي تبيعها في إيران.

لا يعادل الحقد ضد النظام في البصرة آنذاك غير الإحباط الكبير من تملص الأميركان من مسؤولياتهم بصفتهم قوة غازية، وتغاضيهم عن طائرات الهليكوبتر العسكرية العراقية، التي كانت تسحق الناس من منتفضين وغير منتفضين، من بريئين وغير بريئين، بنيرانها الفوسفورية.

يقول صديقه علي الساعدي، الذي كان من المترددين على مكتبته الصغيرة، وهو ينظر إلى الجموع التي تطلق الأهازيج المطالبة بحكم شيعي: «هي فورة ستخمد، البصرة لا تغير هويتها. منذ زمن بعيد تنازعتها أهواء مختلفة، لكنها تقاوم كل هذه الدعاوى، لحيويتها الاجتماعية وموقعها الجغرافي، مرّت بمئات الخرابات، ونهضت من جديد، مدينة لا تشيخ، ولا تستسلم للأهواء العابرة وللطغاة والدمار».

يقتحم قتَلة النظام البيوت في البصرة، ويجمعون الرجال والنساء والأطفال، الملتصقين بعباءات أمهاتهم، قرب النهر، ويقولون لهم إن ساعة إعدامهم الجماعية ستحلُّ قريباً. المفارقة هي أنهم يطلبون من الناس الهتاف بحياة الطاغية: «صدام اسمك هز أمريكا»، وهو القائد «الفلتة» الذي هزّ ذيله للأميركان في كل مواجهة.

لا يمكن وصف ما يسرده علي نكيل في رواية «غرابيل» من أحداث مأساوية تَلَت السقوط المدوِّي لحلم احتلال الكويت، بأنه انتفاضة، ربما لأنها، في سرده، أقرب إلى فورة غضب عارمة أجّجتها الهزيمة والقهر والجوع. شاركت بعض شخصيات الرواية عن وعي في رسم أحداث تلك الأيام، وانتهت تحت الأسوار، أو أنها تسللت بعد ذلك إلى البلدان القريبة؛ خلاصاً من موت أكيد، لكن الغالبية من الفقراء كانوا ملهوفين للقمة عيش كريمة مع «الحسناء»، بعد أن عانت طويلاً من وجبة «وحش الطاوة» بلا طماطم.

صدرت الرواية عن دار الرفاه للطباعة والنشر، وتقع في 131 صفحة من القَطع المتوسط. صمَّم الغلاف الفنان صالح جادري.


أدب الجريمة يهيمن على عالم الرواية كماً ومبيعاً

«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار
«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار
TT

أدب الجريمة يهيمن على عالم الرواية كماً ومبيعاً

«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار
«أدب الجريمة» له الهيمنة في عالم الرواية من ناحية الانتشار

إذا كانت الرواية تلقى حالة من الرواج في الثقافة العربية منذ سنوات، حتى أن الناقد الراحل الدكتور جابر عصفور سمَّاها، كما هو معروف: «ديوان العرب»، فإنه يبدو أن «أدب الجريمة» تحديداً تظل له الهيمنة داخل عالم الرواية من ناحية الكم والمبيعات.

تُقبل الأجيال الجديدة على تلك النوعية من الإبداع بحثاً عن أجواء التشويق والإثارة النفسية المعتمدة على جريمة قتل غامضة، ثم عمليات البحث عن القاتل؛ لكن السؤال الذي يفرض نفسه، خصوصاً في ظل «إدمان» بعض المراهقين هذا النوع من الكتابة: هل يمكن أن يتحول القارئ إلى مجرم تأثراً بأجوائها؟ وما سر اكتساح هذا اللون من الإبداع مبيعات الأدب حول العالم، وليس عربياً فقط؟

في هذا التحقيق، استطلعت «الشرق الأوسط» آراء كتاب ونقاد وناشرين حول «أدب الجريمة» وما قد ينطوي عليه من مخاطر تؤثر نفسياً في قارئه.

ميرنا المهدي (كاتبة شابة، ومن مؤلفاتها سلسلة أعمال «تحقيقات نوح الألفي»، و«صديقي السيكوباتي»، و«دليل جدتي لقتل الأوغاد») تقول: «لطالما راودتني قصة أن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان تعرض لمحاولة اغتيال بسبب تأثر أحد مشاهدي فيلم Taxi Driver (سائق التاكسي) بمعاناة البطل، وقرر أن ينفِّذ محاولة اغتيال كبيرة مثله، حتى يصير بطلاً في عين المجتمع، وعين الفتاة المعجب بها. أيعني هذا أن أعمال الجريمة هي سبب رئيس في إلهام القارئ المختل بتنفيذها؟ لا أعتقد؛ فارتكاب جريمة يتطلب كثيراً من العوامل النفسية والاجتماعية حتى يُقبل عليها أي شخص مختل. ما من شخص سوي سيقرأ رواية أو يشاهد فيلماً ويقرر فجأة أن ينفذ الجريمة نفسها. قد يصير هذا العمل هو القشة التي قصمت ظهر البعير لا أكثر. إلا أن العكس صحيح، فقد تعرض رواية جريمة أو قضية تؤثر على عقلية القارئ بالإيجاب، أو يرى فيها موعظة ما تجعله يعيد التفكير قبل إيذاء أحد. هناك كثير من المسلسلات البوليسية والوثائقية ساهمت في فضح مخططات المجرمين والقتلة المتسلسلين، مما جعل المشاهدين أكثر تيقظاً وحذراً، وعليه تمكنوا من تجنب الوقوع في فخاخ المحتالين والسفاحين بفضل تلك الأعمال المفصلة، هذا إلى جانب فضل كثير من الأعمال التي ساهمت في رفع وعي المجتمع بالعوامل القادرة على خلق مجرم، مثال ذلك أعمال مثل (سايكو) و(صمت الحملان) التي حمَّست علماء النفس والجريمة لتوسيع أفق البحث وعرضها على المجتمع ليحمي أفراده».

نهى داود (متخصصة في أدب الجريمة)، تقول: «إن تأثير النص الروائي يتسع ويتمدد بمرونة كأي عملية إبداعية يشترك فيها الطرفان، الكاتب والقارئ، ليحققا أكبر قدر من التماهي، فليس كافياً أن يكون النص مكتوباً بشكل إبداعي ويحتوي على أفكار ورؤى قيِّمة وذات تأثير ممتد، إن لم يكن القارئ على قدر الإبداع الفكري والمرونة والانفتاح لتقبل النص والتفاعل معه والتماهي فيه. وفي رأيي: تأثير النص يتحقق من خلال طيف واسع يبدأ بتحقيق المتعة دون تقديم أية رسالة. فالمتعة في حد ذاتها رسالة كافية في كثير من الأحيان، والرواية هي فن ترفيهي في المقام الأول، إن انتفى عنه ركن المتعة تهاوى مهما كان علوه. ثم ترتقي مستويات التأثير لتتخطى المتعة، وتمتد إلى الفكرة والرسالة، وقد تصل إلى التحدي وقلب الموازين وبلبلة الأفكار، وهي تمارين عقلية فيها من المتعة والثقافة والتغيير ما يتوق له القراء ويبحثون عنه في طيات الروايات وشخوصها، من خلال التفاعل معهم والتماهي مع تحدياتهم وصراعاتهم مع أنفسهم ومع الآخر ومع المجتمع، فيجد القارئ مرآته، ويرى نقاط ضعفه وقوته، فيحاسب نفسه ويضع لها المحددات من أجل تجربة ثرية وغد أفضل».

وتضيف: «لا أعتقد أن أدب الجريمة يمكن أن يدفع القارئ لارتكابها. الأمر عكس ذلك تماماً. أدب الجريمة دوره هو نصرة العدالة وتعظيم الضحية والقصاص من المجرم مهما كانت دوافعه تبدو مقنعة أو مستحقة للتعاطف. هذا هو دورنا بوصفنا كتاب أدب جريمة، أن نقدمها في ثوب واقعي يدرأ عن المجتمع وقوعها من خلال تقديم المجرم للعدالة ومحاسبته. وإلا فكان أولى بصفحات الحوادث أن تكون هي الدافع للقراء لارتكاب الجرائم على اختلاف صنوفها ودوافعها وأدوات ارتكابها. ولكن الهدف من إيرادها يكون العظة والحكمة، وتعلُّم إدارة الغضب والتحكم فيه، لمنع النفس عن الوقوع في براثن الجريمة».

أدب الجريمة قد يؤثر إيجابياً

ميسرة الدندراوي (كاتب ومترجم) يقول: «للنص الروائي تأثير كبير على القارئ؛ حيث يمكن أن يؤثر في مختلف جوانب حياته وتفكيره عاطفياً، مما قد يولد لديه أحياناً ردود فعل غير محسوبة، أو أن يمنحه أفكاراً أكثر جموحاً وخيالاً مما قد يصل إليه عقله، لكنه نادراً ما تكون نتيجته أن يرتكب القارئ جريمته متأثراً بالنص الروائي. ولا أعتقد أن أدب الجريمة يمكن أن يؤثر بصورة سلبية على قارئ هذا النوع من الأدب، إلا إذا تهيأت له الظروف الشخصية والنفسية والاجتماعية التي قد تدفعه لارتكاب جريمة. على الجانب الآخر، أعتقد أن أدب الجريمة قد يؤثر إيجابياً على متلقيه، مثل زيادة الوعي المجتمعي بخطورة الجرائم، وتوسيع ثقافة القراء بالتحقيقات الجنائية، واستفزاز عقولهم في أغلب الأحيان للتفكير الخلاق؛ خصوصاً لو كان النص الروائي يحترم عقلية القارئ، ويراعي دائماً إنشاء حبكة متقنة ومشوقة بلغة سلسة، ويعطي كل تفصيل أهميته الشديدة، وأن تكون الشخصيات واقعية ومتعددة الأبعاد».

علاج نفسي

الدكتورة أسماء علاء الدين (استشارية العلاج النفسي، وكاتبة)، تقول: «إن سر الجاذبية الشديدة التي ينطوي عليها أدب الجريمة وتأثيره نفسياً على القراء، يعود إلى أنه يغوص في المناطق الداكنة من النفس البشرية في إطار أحداث ممكنة الحدوث وأقرب لواقعنا، فنفكر ونستنتج ونشك في شخصية المجرم، ونضع أكثر السيناريوهات درامية بأنفسنا، كل ذلك في إطار من التشويق و(كوكتيل) من المشاعر الصارخة، من المفاجأة والتوتر والرعب والفضول والتناقض والخوف والنشوة حين نصل للحل الصحيح، فنضمن بذلك إفراز المخ للدوبامين والسيروتونين والإندورفين، وبالتالي ننال الشعور بالسعادة دون إدمان ودون مخالفة لضمائرنا».

وتضيف: «من المشاعر التي نختبرها في أدب الجريمة أيضاً: تحقق الانتقام، وهو ما يرضي تلك الغريزة لدينا أحياناً، حينما نملك أعداء حقيقيين أو أشباحاً من الماضي نتمثلها في تلك الحالة، فيمن عانوا مرارة الانتقام! ويبقى استكشاف ومشاهدة أسوأ ما في النفس البشرية في قصص الجريمة دون أن نضطر لمواجهته على أرض الواقع، الدافع الأهم والأكثر تأثيراً في تفضيل القراء عبر العصور، وفي كافة أنحاء العالم لأدب الجريمة».

وعلى عكس الشائع من تأثر القارئ بالجريمة وتقليدها، تكشف عن مفاجأة تتمثل في استخدام هذا اللون من الأدب في علاج المرضى النفسيين. وتشير إلى بعض الأبحاث التي أجريت في جامعتي تورينو الإيطالية وجرونيجن الهولندية، بين عامي 2013 و2017، في إطار ما يسمى العلاج بالقراءة، أو «Bibliotherapy»؛ إذ أظهر المشاركون في 6 دراسات تحسناً كبيراً في درجات الاكتئاب، بعد خضوعهم على مدار 3 سنوات لدورات العلاج بالكتابة. ولعبت دراما الجريمة هنا دوراً لافتاً في تحسن حالة المرضى.

مسابقات لكُتاب الجريمة الشباب

محمود عبد النبي (مدير النشر بدار «إبييدي»)، يقول: «ربما لا يعلم كثيرون أن عالمنا العربي عرف رواية أدب الجريمة منذ حكايات (ألف ليلة وليلة)؛ حيث كانت حكاية (التفاحات الثلاث) من أوائل القصص في هذا السياق، عندما حكت شهرزاد أن هناك صندوقاً وجده صياد في نهر دجلة وبه فتاة مقتولة بداخله. وعندما علم هارون الرشيد بالأمر أمر وزيره أن يكشف ملابسات الحادث ويفض غموضه في غضون 3 أيام أو يُقطع رأسه. وكان يهدف بذلك إلى ممارسة أكبر قدر من الضغط عليه حتى لا يخفق في تنفيذ المهمة».

ويضيف: «رغم الانتقادات التي يتعرض لها أدب الجريمة عربياً، مثل التأثر بالنماذج الغربية، ونقل حبكات من أفلام عالمية، فإنه يظل في صدارة المبيعات، وهذا ما دعا دار (إبييدي) إلى تنظيم مسابقة بين الأدباء الشبان في هذا السياق، لاكتشاف المواهب وإتاحة الفرص للنشر. وهناك عدة معايير تضمن نجاح رواية الجريمة، ففضلاً عن الحبكة المشوقة والأسلوب المتماسك لا بد من أن تكون القصة بأكملها تتوافق والتقاليد العربية، وأن تكون أحداثها واقعية نابعة من البيئة العربية حتى تكتسب مصداقيتها».

قراؤه ليسوا شباباً ومراهقين فقط

شريف بكر (مدير عام النشر بدار «العربي»)، يقول: «لي تجربة خاصة مع أدب الجريمة، فقد شاركت في ورشة تدريب بالتعاون مع معهد (جوته) الألماني بالقاهرة عام 2009، ولاحظت ضعف تيار أدب الجريمة عربياً في ذلك التوقيت. ومن هنا جاءت فكرة إطلاق سلسلة لرواية الجريمة المترجمة عالمياً، تطرح لقارئ العربية أهم إصدارات هذا اللون في كل بلد على حدة؛ لا سيما في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية. نجحت السلسلة وتنوعت كماً وكيفاً حتى أصبح في جعبة دار (العربي) منذ ذلك الحين عشرات الأعمال المتخصصة في هذا الأدب».

ويضيف: «من المفاهيم الخاطئة حول أدب الجريمة أن قراءه يقتصرون على الشباب والمراهقين، والحق أن فئات ونماذج عمرية أخرى تُقبل على هذا اللون بكثافة؛ لكنها لا تفصح عن ذلك خوفاً من الانطباع السائد المتعلق بأن هذا الأدب يفتقر للعمق ويتسم بالسذاجة ولا يناسب المثقفين، وهو بالطبع انطباع خاطئ، ولو صدق في بعض الأعمال لا يصدق في البعض الآخر بالضرورة».


أدب الجريمة يهيمن على عالم الرواية كماً ومبيعاً

نهى داود
نهى داود
TT

أدب الجريمة يهيمن على عالم الرواية كماً ومبيعاً

نهى داود
نهى داود

إذا كانت الرواية تلقى حالة من الرواج في الثقافة العربية منذ سنوات، حتى أن الناقد الراحل الدكتور جابر عصفور سمَّاها، كما هو معروف: «ديوان العرب»، فإنه يبدو أن «أدب الجريمة» تحديداً تظل له الهيمنة داخل عالم الرواية من ناحية الكم والمبيعات.

تُقبل الأجيال الجديدة على تلك النوعية من الإبداع بحثاً عن أجواء التشويق والإثارة النفسية المعتمدة على جريمة قتل غامضة، ثم عمليات البحث عن القاتل؛ لكن السؤال الذي يفرض نفسه، خصوصاً في ظل «إدمان» بعض المراهقين هذا النوع من الكتابة: هل يمكن أن يتحول القارئ إلى مجرم تأثراً بأجوائها؟ وما سر اكتساح هذا اللون من الإبداع مبيعات الأدب حول العالم، وليس عربياً فقط؟

في هذا التحقيق، استطلعت «الشرق الأوسط» آراء كتاب ونقاد وناشرين حول «أدب الجريمة» وما قد ينطوي عليه من مخاطر تؤثر نفسياً في قارئه.

ميرنا المهدي (كاتبة شابة، ومن مؤلفاتها سلسلة أعمال «تحقيقات نوح الألفي»، و«صديقي السيكوباتي»، و«دليل جدتي لقتل الأوغاد») تقول: «لطالما راودتني قصة أن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان تعرض لمحاولة اغتيال بسبب تأثر أحد مشاهدي فيلم Taxi Driver (سائق التاكسي) بمعاناة البطل، وقرر أن ينفِّذ محاولة اغتيال كبيرة مثله، حتى يصير بطلاً في عين المجتمع، وعين الفتاة المعجب بها. أيعني هذا أن أعمال الجريمة هي سبب رئيس في إلهام القارئ المختل بتنفيذها؟ لا أعتقد؛ فارتكاب جريمة يتطلب كثيراً من العوامل النفسية والاجتماعية حتى يُقبل عليها أي شخص مختل. ما من شخص سوي سيقرأ رواية أو يشاهد فيلماً ويقرر فجأة أن ينفذ الجريمة نفسها. قد يصير هذا العمل هو القشة التي قصمت ظهر البعير لا أكثر. إلا أن العكس صحيح، فقد تعرض رواية جريمة أو قضية تؤثر على عقلية القارئ بالإيجاب، أو يرى فيها موعظة ما تجعله يعيد التفكير قبل إيذاء أحد. هناك كثير من المسلسلات البوليسية والوثائقية ساهمت في فضح مخططات المجرمين والقتلة المتسلسلين، مما جعل المشاهدين أكثر تيقظاً وحذراً، وعليه تمكنوا من تجنب الوقوع في فخاخ المحتالين والسفاحين بفضل تلك الأعمال المفصلة، هذا إلى جانب فضل كثير من الأعمال التي ساهمت في رفع وعي المجتمع بالعوامل القادرة على خلق مجرم، مثال ذلك أعمال مثل (سايكو) و(صمت الحملان) التي حمَّست علماء النفس والجريمة لتوسيع أفق البحث وعرضها على المجتمع ليحمي أفراده».

نهى داود (متخصصة في أدب الجريمة)، تقول: «إن تأثير النص الروائي يتسع ويتمدد بمرونة كأي عملية إبداعية يشترك فيها الطرفان، الكاتب والقارئ، ليحققا أكبر قدر من التماهي، فليس كافياً أن يكون النص مكتوباً بشكل إبداعي ويحتوي على أفكار ورؤى قيِّمة وذات تأثير ممتد، إن لم يكن القارئ على قدر الإبداع الفكري والمرونة والانفتاح لتقبل النص والتفاعل معه والتماهي فيه. وفي رأيي: تأثير النص يتحقق من خلال طيف واسع يبدأ بتحقيق المتعة دون تقديم أية رسالة. فالمتعة في حد ذاتها رسالة كافية في كثير من الأحيان، والرواية هي فن ترفيهي في المقام الأول، إن انتفى عنه ركن المتعة تهاوى مهما كان علوه. ثم ترتقي مستويات التأثير لتتخطى المتعة، وتمتد إلى الفكرة والرسالة، وقد تصل إلى التحدي وقلب الموازين وبلبلة الأفكار، وهي تمارين عقلية فيها من المتعة والثقافة والتغيير ما يتوق له القراء ويبحثون عنه في طيات الروايات وشخوصها، من خلال التفاعل معهم والتماهي مع تحدياتهم وصراعاتهم مع أنفسهم ومع الآخر ومع المجتمع، فيجد القارئ مرآته، ويرى نقاط ضعفه وقوته، فيحاسب نفسه ويضع لها المحددات من أجل تجربة ثرية وغد أفضل».

وتضيف: «لا أعتقد أن أدب الجريمة يمكن أن يدفع القارئ لارتكابها. الأمر عكس ذلك تماماً. أدب الجريمة دوره هو نصرة العدالة وتعظيم الضحية والقصاص من المجرم مهما كانت دوافعه تبدو مقنعة أو مستحقة للتعاطف. هذا هو دورنا بوصفنا كتاب أدب جريمة، أن نقدمها في ثوب واقعي يدرأ عن المجتمع وقوعها من خلال تقديم المجرم للعدالة ومحاسبته. وإلا فكان أولى بصفحات الحوادث أن تكون هي الدافع للقراء لارتكاب الجرائم على اختلاف صنوفها ودوافعها وأدوات ارتكابها. ولكن الهدف من إيرادها يكون العظة والحكمة، وتعلُّم إدارة الغضب والتحكم فيه، لمنع النفس عن الوقوع في براثن الجريمة».

أدب الجريمة قد يؤثر إيجابياً

ميسرة الدندراوي (كاتب ومترجم) يقول: «للنص الروائي تأثير كبير على القارئ؛ حيث يمكن أن يؤثر في مختلف جوانب حياته وتفكيره عاطفياً، مما قد يولد لديه أحياناً ردود فعل غير محسوبة، أو أن يمنحه أفكاراً أكثر جموحاً وخيالاً مما قد يصل إليه عقله، لكنه نادراً ما تكون نتيجته أن يرتكب القارئ جريمته متأثراً بالنص الروائي. ولا أعتقد أن أدب الجريمة يمكن أن يؤثر بصورة سلبية على قارئ هذا النوع من الأدب، إلا إذا تهيأت له الظروف الشخصية والنفسية والاجتماعية التي قد تدفعه لارتكاب جريمة. على الجانب الآخر، أعتقد أن أدب الجريمة قد يؤثر إيجابياً على متلقيه، مثل زيادة الوعي المجتمعي بخطورة الجرائم، وتوسيع ثقافة القراء بالتحقيقات الجنائية، واستفزاز عقولهم في أغلب الأحيان للتفكير الخلاق؛ خصوصاً لو كان النص الروائي يحترم عقلية القارئ، ويراعي دائماً إنشاء حبكة متقنة ومشوقة بلغة سلسة، ويعطي كل تفصيل أهميته الشديدة، وأن تكون الشخصيات واقعية ومتعددة الأبعاد».

علاج نفسي

الدكتورة أسماء علاء الدين (استشارية العلاج النفسي، وكاتبة)، تقول: «إن سر الجاذبية الشديدة التي ينطوي عليها أدب الجريمة وتأثيره نفسياً على القراء، يعود إلى أنه يغوص في المناطق الداكنة من النفس البشرية في إطار أحداث ممكنة الحدوث وأقرب لواقعنا، فنفكر ونستنتج ونشك في شخصية المجرم، ونضع أكثر السيناريوهات درامية بأنفسنا، كل ذلك في إطار من التشويق و(كوكتيل) من المشاعر الصارخة، من المفاجأة والتوتر والرعب والفضول والتناقض والخوف والنشوة حين نصل للحل الصحيح، فنضمن بذلك إفراز المخ للدوبامين والسيروتونين والإندورفين، وبالتالي ننال الشعور بالسعادة دون إدمان ودون مخالفة لضمائرنا».

وتضيف: «من المشاعر التي نختبرها في أدب الجريمة أيضاً: تحقق الانتقام، وهو ما يرضي تلك الغريزة لدينا أحياناً، حينما نملك أعداء حقيقيين أو أشباحاً من الماضي نتمثلها في تلك الحالة، فيمن عانوا مرارة الانتقام! ويبقى استكشاف ومشاهدة أسوأ ما في النفس البشرية في قصص الجريمة دون أن نضطر لمواجهته على أرض الواقع، الدافع الأهم والأكثر تأثيراً في تفضيل القراء عبر العصور، وفي كافة أنحاء العالم لأدب الجريمة».

وعلى عكس الشائع من تأثر القارئ بالجريمة وتقليدها، تكشف عن مفاجأة تتمثل في استخدام هذا اللون من الأدب في علاج المرضى النفسيين. وتشير إلى بعض الأبحاث التي أجريت في جامعتي تورينو الإيطالية وجرونيجن الهولندية، بين عامي 2013 و2017، في إطار ما يسمى العلاج بالقراءة، أو «Bibliotherapy»؛ إذ أظهر المشاركون في 6 دراسات تحسناً كبيراً في درجات الاكتئاب، بعد خضوعهم على مدار 3 سنوات لدورات العلاج بالكتابة. ولعبت دراما الجريمة هنا دوراً لافتاً في تحسن حالة المرضى.

مسابقات لكُتاب الجريمة الشباب

محمود عبد النبي (مدير النشر بدار «إبييدي»)، يقول: «ربما لا يعلم كثيرون أن عالمنا العربي عرف رواية أدب الجريمة منذ حكايات (ألف ليلة وليلة)؛ حيث كانت حكاية (التفاحات الثلاث) من أوائل القصص في هذا السياق، عندما حكت شهرزاد أن هناك صندوقاً وجده صياد في نهر دجلة وبه فتاة مقتولة بداخله. وعندما علم هارون الرشيد بالأمر أمر وزيره أن يكشف ملابسات الحادث ويفض غموضه في غضون 3 أيام أو يُقطع رأسه. وكان يهدف بذلك إلى ممارسة أكبر قدر من الضغط عليه حتى لا يخفق في تنفيذ المهمة».

ويضيف: «رغم الانتقادات التي يتعرض لها أدب الجريمة عربياً، مثل التأثر بالنماذج الغربية، ونقل حبكات من أفلام عالمية، فإنه يظل في صدارة المبيعات، وهذا ما دعا دار (إبييدي) إلى تنظيم مسابقة بين الأدباء الشبان في هذا السياق، لاكتشاف المواهب وإتاحة الفرص للنشر. وهناك عدة معايير تضمن نجاح رواية الجريمة، ففضلاً عن الحبكة المشوقة والأسلوب المتماسك لا بد من أن تكون القصة بأكملها تتوافق والتقاليد العربية، وأن تكون أحداثها واقعية نابعة من البيئة العربية حتى تكتسب مصداقيتها».

قراؤه ليسوا شباباً ومراهقين فقط

شريف بكر (مدير عام النشر بدار «العربي»)، يقول: «لي تجربة خاصة مع أدب الجريمة، فقد شاركت في ورشة تدريب بالتعاون مع معهد (جوته) الألماني بالقاهرة عام 2009، ولاحظت ضعف تيار أدب الجريمة عربياً في ذلك التوقيت. ومن هنا جاءت فكرة إطلاق سلسلة لرواية الجريمة المترجمة عالمياً، تطرح لقارئ العربية أهم إصدارات هذا اللون في كل بلد على حدة؛ لا سيما في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية. نجحت السلسلة وتنوعت كماً وكيفاً حتى أصبح في جعبة دار (العربي) منذ ذلك الحين عشرات الأعمال المتخصصة في هذا الأدب».

ويضيف: «من المفاهيم الخاطئة حول أدب الجريمة أن قراءه يقتصرون على الشباب والمراهقين، والحق أن فئات ونماذج عمرية أخرى تُقبل على هذا اللون بكثافة؛ لكنها لا تفصح عن ذلك خوفاً من الانطباع السائد المتعلق بأن هذا الأدب يفتقر للعمق ويتسم بالسذاجة ولا يناسب المثقفين، وهو بالطبع انطباع خاطئ، ولو صدق في بعض الأعمال لا يصدق في البعض الآخر بالضرورة».


«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»
TT

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

«غربلة» خراب البصرة في رواية «غرابيل»

تبدو رواية «غرابيل» للأديب البصري علي نكيل «أبو عراق»، في بنائها الدرامي مثل مسرحية كلاسيكية تتفاعل فيها الأحداث، وتتصارع فيها الشخصيات، بشكل لولبيّ متصاعد، وصولاً إلى ذروة العمل.

إذ تبدأ رحلة أبو عراق الروائية باستدعائه إلى دائرة الأمن المُرعبة في البصرة، بسبب تحول مكتبته الصغيرة في العشار إلى ملتقى للمثقفين «المارقين» على طغيان النظام، ثم تتسارع الأحداث بعد ذلك على وقْع قرع طبول احتلال الكويت، ومن ثَمّ تحريرها من الاحتلال العراقي، وانتفاضة الجوع والغضب الشعبية التي أعقبت هزيمة الجيش الأعزل والمنهار نفسياً أمام عاصفة الصحراء.

ليس غريباً أن يسمِّي البصريون مبنى دائرة الأمن الكبيرة، المطلية بالأبيض، بـ«الليث الأبيض»؛ لأن دخول هذا العرين المُخيف لا يجري بالسهولة التي يُتصور بها دخوله. يخرج أبو عراق من عرين الليث سليماً، بعد أن يتضح أن الاستدعاء كان مجرد تحذير من تحول مكتبته الصغيرة إلى وكر للشيوعيين التائبين، والمثقفين الناقمين. وهذا في زمنٍ تجري فيه أحداث القصة، في الفترة القصيرة الفاصلة بين نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ونهاية غزوة الكويت المجنونة، وحينما تحولت البصرة بأكملها إلى عرين ليث أبيض.

يتضح لنا في الحال أن «أبو عراق» ليس بطل هذه الرواية المأساوية التي تُغَربل أكثر فترات العراق حلكة، وشهدت الخراب الجديد الذي يحلّ بالبصرة، مثل متوالية هندسية تتكرر فيها الزوايا. ليس الراوية في «غرابيل»، وأقصد علي نكيل، غير شاهد على ما حلَّ من دمار في أبنية المدينة، وأرواح أبنائها الحالمة بالخلاص من الدكتاتورية والحروب. يؤدي علي هنا دور الراوية في مسرحية دراماتيكية، لا ينسب لنفسه فيها أية بطولة، ولا يتدخل في أحداثها على الطريقة البريختية، لكنه يصورها لنا بكل واقعية.

أبطال هذه الرواية، سواء أكانوا سلبيين أم إيجابيين، هم أبناء البصرة؛ من مثقفين يحافظون على أفكارهم، مقابل مثقفين نزعوا جلودهم وانقلبوا «غرابيل» (بمعنى نمّامين ووُشاة هنا)، وعامة الناس بين من ثار ضد الظلم والجوع منهم، وبين من تحوّلوا إلى نهّابين تعاملوا مع الانتفاضة كـ«فرهود» جديد.

يقال «إن من غربل الناس نخلوه»، وهذا ما جرى للبعثيين وعملاء الأمن و«الشمامين»، الذين لاحقهم الثائرون وقتلوهم بلا رحمة. اختفى البعثيون في بيوتهم، أو في بيوت «المحسنين» إليهم، وتحوّلوا في لحظة من قامعين إلى مقموعين مستعدّين للهتاف مع الجموع الغاضبة بالشعارات الطائفية الساذجة.

تبلغ الدراما ذروتها بمقتل الشخصية البصرية الشعبية «مرجان» على أيدي الحرس الجمهوري، بعد تعذيبه والتنكيل به بتهمة زائفة لا يبدو أن سفلة النظام بحاجة إليها كي يطلقوا على عظمه الغربالي (عظم في قاع الجمجمة بين الأنف والدماغ) رصاصة الرحمة. ينهار مرجان (الأسود) في القبر الذي حفره بنفسه هو، يشدد على أنه رجل بسيط لا يجيد غير أساليب الدعاية الشعبية للأفلام، عازفاً الموسيقى بالناي من أنفه، وهو يهز مؤخرته المكوَّرة أمام أنظار الفتيات الخجِلات الرائحات والغاديات على جسر الهنود (جسر المغايز).

جمع المؤلف في هذه الشخصية الشعبية كامل مواصفات أبطاله، الذين يمثلون الشخصية البصرية البسيطة، هذه الشخصية البصرية التي تتحدر ربما من ثورة الزنج التي قادها علي بن محمد، شخصية محبوبة لا تختلف في هويتها عن الهوية المتعددة لهذه المدينة - الميناء التي تحمل أحياؤها أسماء «سوق الهنود»، و«جبل البلوش»، و«جسر العبيد»؛ تعبيراً عن تنوعها وتعايشها الثقافي.

لم يكن أبو عراق حراً في اختيار المكان في رواية «غرابيل»؛ لأن الحديث عن تفاصيل الانتفاضة، التي أعقبت تحرير الكويت، انطلقت من ساحة سعد في البصرة. لحظة جنون وانفجار واجهها الجيش «العقائدي» بعنف لا يقارَن أبداً بالخنوع والذل، الذي واجه به هذا الجيش جيش «الغزاة» الأميركان. غربل الأميركان الجنود العراقيين بأسلحتهم الفتاكة (غربل هنا بمعنى قتل أو سحق)، وترك البقية للحرس الجمهوري؛ كي يغربل الصغير والكبير بمنخل ناعم، فالمكان الذي تجري فيها وقائع الرواية هو أحياء المدينة الفقيرة وحي العشار - البجاري؛ حيث تقع مكتبة علي نكيل حتى الآن، هذه المدينة التي كرهها صدام بحسين بسبب تمرد أهلها وسماها «المدينة السوداء».

يكشف لنا قاموس المعاني أن غربلة الناس تعني كشف أحوالهم ومصائرهم، وهذا ما يفعله مؤلف «غرابيل»، الذي يبدو أنه اختار هذه العنوان بعناية بالغة. سمعنا الكثير عن الفظائع التي خلّفتها هذه الحرب، والفظائع الكبرى التي خلفها الحصار والجوع، لكن علي نكيل يغربل كل هذه الأحداث ليسرد لنا أفظعها، عن الرجل الذي ربط عيون أطفاله الثلاثة وألقى بهم من الجسر إلى النهر، لعجزه عن إطعامهم، وعن المعيدية الجميلة التي صارت تتاجر بجثث وهمية خلّفتها الحرب العراقية الإيرانية. بدأت سكينة المعيدية بيع الأجهزة الكهربائية المعطوبة في إيران هناك، بعد تهريبها عبر مسالك الأهوار الممتدة بين العراق وإيران، تطور عملها بعدها، وزاد طمعها في المال الحرام ليجرّدها من كل إنسانية لديها، إذ صارت تنبش الجثث من مقبرة «المندائيين» في البصرة، وتبيعها إلى الإيرانيين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب، بعد أن تضع أسماء الجنود الإيرانيين على هذه الجثث. تسرد سكينة للآخرين، بلا تأنيب ضمير، كيف تنتزع الجثث «الطرية» من لحدها، كي تبيعها في إيران.

لا يعادل الحقد ضد النظام في البصرة آنذاك غير الإحباط الكبير من تملص الأميركان من مسؤولياتهم بصفتهم قوة غازية، وتغاضيهم عن طائرات الهليكوبتر العسكرية العراقية، التي كانت تسحق الناس من منتفضين وغير منتفضين، من بريئين وغير بريئين، بنيرانها الفوسفورية.

يقول صديقه علي الساعدي، الذي كان من المترددين على مكتبته الصغيرة، وهو ينظر إلى الجموع التي تطلق الأهازيج المطالبة بحكم شيعي: «هي فورة ستخمد، البصرة لا تغير هويتها. منذ زمن بعيد تنازعتها أهواء مختلفة، لكنها تقاوم كل هذه الدعاوى، لحيويتها الاجتماعية وموقعها الجغرافي، مرّت بمئات الخرابات، ونهضت من جديد، مدينة لا تشيخ، ولا تستسلم للأهواء العابرة وللطغاة والدمار».

يقتحم قتَلة النظام البيوت في البصرة، ويجمعون الرجال والنساء والأطفال، الملتصقين بعباءات أمهاتهم، قرب النهر، ويقولون لهم إن ساعة إعدامهم الجماعية ستحلُّ قريباً. المفارقة هي أنهم يطلبون من الناس الهتاف بحياة الطاغية: «صدام اسمك هز أمريكا»، وهو القائد «الفلتة» الذي هزّ ذيله للأميركان في كل مواجهة.

لا يمكن وصف ما يسرده علي نكيل في رواية «غرابيل» من أحداث مأساوية تَلَت السقوط المدوِّي لحلم احتلال الكويت، بأنه انتفاضة، ربما لأنها، في سرده، أقرب إلى فورة غضب عارمة أجّجتها الهزيمة والقهر والجوع. شاركت بعض شخصيات الرواية عن وعي في رسم أحداث تلك الأيام، وانتهت تحت الأسوار، أو أنها تسللت بعد ذلك إلى البلدان القريبة؛ خلاصاً من موت أكيد، لكن الغالبية من الفقراء كانوا ملهوفين للقمة عيش كريمة مع «الحسناء»، بعد أن عانت طويلاً من وجبة «وحش الطاوة» بلا طماطم.

صدرت الرواية عن دار الرفاه للطباعة والنشر، وتقع في 131 صفحة من القَطع المتوسط. صمَّم الغلاف الفنان صالح جادري.


أدونيس يعلن هزيمة جيل الحداثة الأول... ويتوجّس من أدلجة القراءة

أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
TT

أدونيس يعلن هزيمة جيل الحداثة الأول... ويتوجّس من أدلجة القراءة

أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)

أينما حل الشاعر السوري أدونيس فإنه قادر على الاستئثار بالاهتمام وإثارة التساؤلات، وفي زيارته الثانية إلى السعودية، أطل صاحب كتاب «الثابت والمتحوّل» هذه المرة من منبر قرائي مخاطباً الشباب العرب، في جلسة حوارية صباحية وكلمة احتفالية مسائية، ضمن فعاليات ختام برنامج إثراء القراءة (اقرأ)، الذي نظمه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) بالظهران، وسط حضور كثيف من مثقفين سعوديين وعرب.

وفي المرتين اللتين صعد بهما أدونيس على مسرح «إثراء»، كان يُظهر حنكته في نقد التراث الشعري، ودك عرش رموزه، حيث صرّح في الجلسة التي حاوره فيها الناقد السعودي محمد العباس، قائلاً: «لو أخذنا جيل الحداثة الأول، من بدر شاكر السياب مروراً بنزار قباني ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم، ثم قارنا إنتاجه بما تكتبه المرأة العربية، فأنا أشهد بأن ما تكتبه المرأة العربية اليوم هو أكثر أهمية مما كتبناه».

الكينونة الإنسانية

وأرجع أدونيس ذلك إلى أن المرأة العربية بدأت تخرج من رأسها الثقافي وتكتب جسدها العميق الحقيقي، بما يراه يفتح طرقاً جديدة للتعبير الشعري، في حين أن الجيل الحداثي الذي أسمى رموزه؛ بقي متردداً من الاعتراف بذلك. جاء ذلك خلال سؤاله عن مدى رضاه عن الشعر العربي في الوقت الحالي، وأضاف: «نحن اليوم لا نزال نكتب برأسنا، فنحن نكتب الشعر ثقافياً، أما عوالم الجسد والمخيّلة والانفعالات والأحلام والغضب وغيره مما هو مرتبط بالكينونة الإنسانية العميقة، فإننا لم نكتب عنه بعد». وأردف: «لا نزال نكتب ما يكتبه الآخرون، والفرق بين شاعر وشاعر آخر يكمن في المعرفة اللغوية والثقافية، وليس في الشعرية ذاتها».

الحداثة الشعرية

كما فتح أدونيس النار على الشاعر الراحل أحمد شوقي، الملقب بأمير الشعراء، باعتباره كان من أعظم شعراء عصره، إلا أن أدونيس له رأي مخالف، حيث تساءل قائلاً: «في حال وضعنا أحمد شوقي مع الشعراء من أمثال البحتري وأبي تمام والمتنبي، وسألنا عما أضافه أمير الشعراء إلى هؤلاء الذين استعار منهم؟ فإن الجواب أنه لم يضِف شيئاً على الإطلاق».

تناول أدونيس الحداثة الشعرية في الجلسة الحوارية التي اكتظت بالحضور، ثم أردف: «السور القرآنية تبدو كتابياً كأنها حديقة مفتوحة على جميع الجهات»، وأضاف: «يمكن أن نعد السور القرآنية نموذجاً أساسياً لكتابة الشعر نثراً باللغة العربية». ثم اتجه ناحية الحضور قائلاً إن «أعظم ما يمكن أن يقوم به القارئ العربي أن ينقد نفسه، ماذا نقرأ وماذا نكتب».

اختزال القراءة

وفي كلمة «نوبليّة» مطوّلة ألقاها أدونيس قبيل دقائق من إعلان نتائج الفائزين بلقب قارئ العام، استشهد بالآيات القرآنية من سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَان مَا لَم يَعلَم). وأردف بالقول: «هو كلام قرآني يؤكد أن القراءة أن يتعلم الإنسان ما لا يعلم، وهي اكتشاف لما يجهله».

وبعد ما وصفه بالتجربة الحيّة لرجل تجاوز عامه التسعين، يقول أدونيس: «لدى معظم القراء العرب ميل واضح إلى العزوف عن قراءة ما يخالف قناعاتهم، أو يظنون أنهم يخالفونه، وهذا الميل يدفعهم لاختزال القراءة فيما يثبّت ما في أنفسهم ويدفعهم إلى القراءة انطلاقاً من مُسبّقات متنوعة، آيديولوجية وسياسية».

أدونيس الذي قال: «كم هو خطير فعل القراءة، وكم هو خطير أيضاً فعل العزوف عن القراءة»، خاطب الشباب المكتظ في مسرح «إثراء» قائلاً: «أشير إلى أن القراءة هي - بطبيعتها - فعل خلّاق، وإلى أن الكون كتاب يُقرآ بلا نهاية، ويُكتب أيضاً بلا نهاية»، وتابع: «قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت».

هويّة وجودية

وكعادته، هام أدونيس في وجدان الشعر العربي، قائلاً: «الشعر العربي في نشأته قبل الإسلام، هو كينونة أكثر منه ثقافة، إنه جسد آخر للشاعر وحياة ثانية داخل الحياة، هو هويّة وجودية قبل أن يكون هويّة ثقافية». وأردف: «لن نجد شاعراً في معظم اللغات الحيّة يخطئ في لغته التي هي جوهره، كما نجد في لغتنا العربية، وأما الكتب المترجمة، وبخاصة الفلسفية والشعرية، فإن من أكثر الضرورات إلحاحاً أن يُنظر في أمرها على نحوٍ شامل».

هذا الحضور الشعري رافقته نصوص أدبية عميقة ألقاها المتسابقون الخمسة الذين وصلوا إلى نهاية سباق القراءة بعد أشهر طويلة من التنافس والتحضير والإعداد، كما رافق الحفل عذوبة صوت المغنية السورية فايا يونان، التي شدت بأغاني القصائد العربية بطلة ملائكية لافتة، واختتم هذا الحفل المبهر بإعلان النتائج، حيث فاز العراقي زين العابدين المرشدي بجائزة لجنة التحكيم لقارئ العام، فيما فاز المشارك المغربي سفيان البراق بلقب قارئ العام بحسب تجربة الملتقى، واستحوذت السعودية بلقيس الصولان على جائزة الجمهور لاختيار قارئ العام.


هل نضجت الحداثة في الخليج؟

نزار قباني
نزار قباني
TT

هل نضجت الحداثة في الخليج؟

نزار قباني
نزار قباني

استكمالاً لما سبق طرحه حول إشكالية مفهوم الحداثة، الذي شغل المشهد الخليجي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، فإننا نبدأ من حيث انتهينا حول إشكالية دخول الحداثة للمنطقة. كما هو معروف، فإن المنطقة لم تخضع لاستعمار تقليدي من قبل الأوروبيين الذين كانوا ينقلون أدواتهم الحديثة ويجبرون السكان على تبني بعض من أديباتهم. فحتى الحاميات البريطانية في سواحل الخليج لم تكن تتدخل بشكل مباشر في حياة الناس، والأمر نفسه ينطبق على الشركات البريطانية والأميركية التي عملت في المنطقة وعزلت رعايا الدول الغربية عن سكان المنطقة الذين كانوا يحتكون بالأجانب في حدود العمل الضيقة.

إن انتقال المواطن الخليجي للعمل في شركات النفط لم يكن وفق آليات الحداثة الغربية، ولا حتى في الدول التي تأثرت بالنمط الصناعي الغربي كالدول الشرق آسيوية. فكثير من المواطنين الذين عملوا في تلك الشركات احتفظوا بالنمط القروي/ البدوي في حياتهم اليومية لأن أداورهم كانت منحصرة في الأعمال التي تتطلب جهداً جسدياً، تماماً كما كانوا يفعلون في الأعمال التقليدية في مجتمعاتهم، بمعنى أن دخولهم في ثقافة الوظيفة في الشركة تأخر كثيراً عن بداياتهم كعمال. لقد انتقل الخليجي من وظيفة الفلاح/ الراعي الأجير إلى عامل الشركة الأجير. والمقصود بالأجير هنا: الشخص الذي يعمل ساعات طويلة بعائد زهيد بالكاد يكفي حاجته.

تأخرت آثار الثقافة الصناعية في المنطقة حتى زاد عدد المنخرطين في التدريب المهني، مما ساعد في ترقية العمال داخل الشركة، الذي مكّنهم من بناء بيوت الإسمنت، وإرسال أبنائهم للمدارس بشكل منظم بدلاً من أخذهم لسوق العمل في مرحلة مبكرة من حياتهم. وعليه، ازداد عدد الملتحقين بمدارس التعليم العام وانتقل جزء منهم للدراسة في الجامعات، وجاء ذلك نتيجة الثقافة الصناعية التي تذهب لكون الارتقاء في التعليم يعني الارتقاء في السلم الوظيفي، الذي يعني الارتقاء في المستوى الاقتصادي للأسرة بغض النظر عن كونها ليست من الأسر أصحاب الأملاك. هذا النوع من التحول الاقتصادي ذي الأساس الرأسمالي/ الغربي شكّل بيئة خصبة لتلقي الأفكار اليسارية/ الشرقية، وذلك لأن تغير نمط العمل والدخل في الأسرة لم تصاحبه ثقافة رأسمالية متكيّفة مع الثقافة العربية/ الإسلامية. هنا جاءت أفكار اليسار، التي برع الناشطون العرب فيها بتكييف بعض القيم الإسلامية (العدالة الاجتماعية، المساواة بين البشر، التواضع) لتناسب الخطابات الحماسية التي كانت تصل للخليج من محيطه العربي. ولعل الخطأ الأساسي الذي ارتكبه اليسار العربي كان يكمن في دخوله في مواجهة لم تكن بالضرورية مع الدين، مما شكَّل رفضاً له من الحاضنة الاجتماعية في الخليج.

جاءت الطفرة النفطية في نهاية الستينات لترفع من عدد أفراد الطبقتين المتوسطة والثرية، مما أعطى للتعليم والثقافة فرصة كبيرة للازدهار. وكما هو معروف، فإن الأدب هو لُب الثقافة العربية، خصوصاً في مجتمعات كانت القراءة والكتابة فيها متركزة عند فئة طلبة العلوم الدينية الذين كانوا ينظرون للأدب بوصفه معيار الثقافة خارج إطار التخصص الشرعي. لذلك لم يكن مستغرباً أن تزدهر الثقافة الأدبية في الخليج بدخول عدد كبير من الشباب الذين تعلموا في المدارس ولديهم الوقت للمطالعة والنقاش المعرفي. لم يكن يشغل هم الناس وقتها غير الأدب والسياسة، ولأن المجتمعات الخليجية محافظة ومستقرة سياسياً ولا ترحب حكوماتها باليسار الثوري، فقد شكّل الأدب ميداناً للتعبير عن التغيرات الجديدة في المنطقة.

نازك الملائكة

أصبح الأدباء - بشقيهم الإسلامي والمدني - فرسان الساحة الثقافية التي كان منبرها الرئيسي هو الصحافة. ولعل تزامن الصحوة مع عودة عدد كبير من خريجي الجامعات الغربية في مجال الدراسات الأدبية قد لعب دوراً في «علانية» الصراع. لم يكن أساتذة العلوم السياسية والاجتماعية بوارد الدخول في صراع مع الصحويين وذلك لأن عدد الكُتّاب من تلك الخلفيات أقل بكثير من عدد المشتغلين بالأدب. وحتى من كان يكتب في الصحافة منهم، لم يكن يتعاطى مع موضوعات تستفز الصحويين. بالمقابل، فإن الأدباء والنقاد الأدبيين كانوا يتصدرون ساحة التبشير بالحداثة، محتفين بأبرز رموز الشعر الحديث في الوطن العربي.

كان طرح أسماء مثل نزار قباني، ونازك الملائكة، والسيَّاب، والبياتي، وأدونيس كافياً ليثير حفيظة الصحويين الذين أخضعوا شعراء الحداثة لمحاكمات دينية ذات أفق ضيق يختصر قيمة المبدعين في «تصور الصحويين» لعقائدهم. بالمقابل، دافع الأدباء عن «أدبية الأدب» وعدم محاكمة النص الأدبي بناء على قيم غير أدبية، مهما كانت. لن نخوض في تاريخ هذا الصراع، الذي كُتب حوله الكثير، فما يهمنا هنا ما سقط من ذلك الصراع! أي الحداثة نفسها.

نزار قباني - السياب

لم يكن بوارد المتصارعين أن الحداثة تطور ثقافي يجيء نتيجة تطور مادي قائم على الصناعية، وهذا ما لم يكن متجلياً في مجتمعاتنا. لذلك، فقد شُغل المشهد الفكري بالنزاع حول الحداثة في إطار ضيق يتمحور حول الصراع بين شرعية «أدبية الأدب» و «خطورة الأدب على العقيدة». وكأن هذا الصراع يعيد الإشكالية التراثية في النزاع حول المبنى والمعنى.

في الوقت الذي كان الغرب فيه مشغولاً بفلسفة ما بعد الحداثة والاقتصاد بعد الصناعي، انشغل مشهدنا الثقافي باتهام وتبرئة الشعر الحديث من إخلاله بالعقيدة. وحتى من أبدع من فرسان المعركة كان يركّز على الآليات النقدية التي ترفع من مستوى جمالية تلقي النص الأدبي. وهذا أمر طبيعي، كون الفارق الزمني بين التحول من ركوب الدابة إلى السيارة كان قياسياً، وقس على ذلك أموراً مثل الفارق الزمني القصير جداً بين انتشار التلفزيون في البيوت ودخول الفيديو والفضائيات لها. لقد انتقل المواطن من موقع الفلاح/ الراعي إلى الموظف في فترة قياسية جعلته «يحدّث» حياته المادية دون وجود خطاب ثقافي حديث يواكب المرحلة، حيث انشغل ذوو الأقلام في معركة ترف فكري لا تناغم احتياجات المجتمع ولا تسبر أغوار التغيرات التي يمر بها. وعليه، فقد اختلطت مفاهيم الحداثة بما بعد الحداثة، تماماً كما اختلطت مفاهيم الصناعية (التحول للعمل في وظائف الإنتاج بأجور) بما بعد الصناعية (التحول للأعمال الخدمية غير الإنتاجية). حتى على مستوى الدراسات الأدبية، فقد اختلطت البنيوية بالتفكيك عند كثير من طلبة الأدب كونها مفاهيم نقدية أكاديمية دخلت في فترة متزامنة، مقارنة بالمرحلية الفكرية في الغرب.

ختاماً، لقد شكَّل النفط نعمة كبيرة على منطقتنا بأن غيَّر المنظومة الاقتصادية التي أسهمت بشكل كبير في «تحديث» المجتمع. ولكن السرعة المهولة التي نما فيها الاقتصاد كانت أكبر بكثير من أن يستوعبها المجتمع، ولذلك بقيت قيم المحافظة الدينية والقبلية تحكم تصرفات الناس ليبقى الفلاح/ الراعي كما هو وإن حمل أعلى الشهادات. لقد احتاجت تلك التحولات الاقتصادية/ المادية إلى قرارات جريئة تعثرت بمفهوم «خصوصية المجتمع» حتى جاءت «رؤية 2030» لتحرّك المجتمع بسرعة تواكب التطور الاقتصادي. لذلك، فإن الجيل الذي ولد في القرن الحالي لا يشعر بالاغتراب وأزمة الهوية بمستوى جيل آبائه، فهو يعيش حياة متناغمة مع التطور التقني ويعتز بهويته الوطنية التي كانت مُختطفة بشعارات أممية عابرة للحدود ولا تعبر عنه. نحن عرب دون الغرق في مشروع قومي توسعي، ومسلمون دون انجرار لمناطق الصراع تحت ذريعة نصرة الأمة الإسلامية. هي ذي الفترة التي يعيشها هذا الجيل متصالحاً مع ما بعد الحداثة التي لا يشعر أنه تأخر فيها كثيراً.


شعراء ونقاد ودبلوماسيون: الاحتفال بنازك هو احتفال باللغة العربية

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته
الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته
TT

شعراء ونقاد ودبلوماسيون: الاحتفال بنازك هو احتفال باللغة العربية

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته
الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته

دعا شعراء ونقاد ومبدعون مصريون وعرب للاحتفاء بمنجز الشاعرة العراقية نازك الملائكة من خلال دراسة أعمالها والاهتمام بها ونشرها، وإبراز مكانتها في الشعر العربي الحديث. وقال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في احتفالية أقامها أول من أمس «بيت الشعر» العربي بالقاهرة بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد الملائكة إنها تستحق تقديراً في كل العواصم العربية يليق بإبداعاتها.

وتحدث حجازي عن البيئة التي نشأت فيها الشاعرة العراقية، مشيراً إلى أنها كانت تنتمي لعائلة شعرية، يكتب كل أفرادها الشعر، وهو ما يشير إلى أن قرابة الدم بالنسبة لها كانت هي نفسها قرابة الشعر، وقد كان جدها لأمها وأبوها واثنان من أخوالها يكتبون الشعر، ولم يكن عجيباً من خلال هذه النشأة أن تبدأ نازك الملائكة كتابة الشعر وهي في سن مبكرة جداً، وقد نظمت أولى قصائدها وهي في العاشرة من عمرها، وقد ظلت على اهتمامها بنظم الشعر حتى أصبح شاغلها الأساسي وهي في الثامنة عشرة من عمرها.

وذكر حجازي أن الملائكة التي توفيت في 20 يونيو (حزيران) 2007 في القاهرة عن عمر ناهز 83 عاماً ارتبطت بعلاقة وثيقة بمصر وثقافتها، وقد تواصلت هذه العلاقة حتى رحيلها، مشيراً إلى أن الاحتفال بها يعني في صميمه الاحتفال باللغة العربية، «ونحن نحتفل بمن مضى ومن يأتون، نازك جمعتنا جميعاً».

ولم يقتصر الاحتفال بمئوية الملائكة على المبدعين فقط، لكن كان هناك حضور دبلوماسي لافت تمثل في السفير العراقي بالقاهرة الدكتور أحمد نايف رشيد الدليمي، ومندوب بغداد الدائم لدى جامعة الدول العربية، الذي قال إن نازك الملائكة رمز للشعر الحر، واحتفاء مصر بها يدل على عمق العلاقات التاريخية التي تربط العراق ومصر على كافة المستويات وعلى رأسها الجانب الثقافي.

وقال الديلمي إن القيادة العراقية تولي اهتماماً خاصاً بالرموز الأدبية والثقافية، عرفاناً منها لمنزلتهم الكبيرة وتأثيرهم في الوعي الحضاري العراقي والعربي، وقد جرى احتفال رسمي بمئويتها، وتخصيص يوم لها لتعريف الجيل الجديد بإسهاماتها البارزة في الثقافتين العربية والعراقية.

جانب من الاحتفالية

احتفاء بيت الشعر بمئوية نازك الملائكة الذي حضره نجلها الدكتور البرّاق عبد الهادي، وشقيقتها ميسون الملائكة، يأتي في إطار الاحتفال باليوم العربي للشعر الذي أقرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وقد تضمن قراءات شعرية لبعض قصائد نازك الملائكة قدمها شعراء من مصر وسوريا والعراق والجزائر، فضلاً على شهادات شخصية ونقدية حولها تركزت على دورها الريادي في حركة الشعر الحديث والسياقات التي أفرزت هذه الحركة وروادها.

وفي هذا السياق تحدث الباحث والناقد الدكتور حسين هنداوى الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية عن مسيرة نازك الملائكة الشعرية مشيراً إلى أنها تعد رمزاً من رموز الشعر العربي، وقد جعلها عطاؤها الشعري لا سيما في فترتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي من أبرز الأصوات الشعرية التي أثّرت في الشعر العربي الحديث، وهي لم تكن شاعرة مبدعة فقط إنما كانت كاتبة وناقدة واسعة الثقافة حاولت أن تجمع بين الفكر والفن.

وقال الناقد العراقي عبد الرحمن عبد الوهاب في كلمته إن نازك الملائكة «تميزت بأسلوب خاص في كتابة القصيدة، وقدمت إسهاماً عظيماً للشعر العربي، وسوف تظل مسيرتها مصدر إلهام للأجيال الجديدة من الشعراء والأدباء، تذكرهم دائماً بأن للشعر العربي تراثاً ثرياً ومتنوعاً تجب المحافظة عليه وتطويره».

ومن جهته، وصف الشاعر سامح محجوب مدير بيت الشعر نازك الملائكة بأنها «التحويلة الفنية القوية والدقيقة جداً في مسيرة القصيدة العربية الطويلة، من الجماعة للذات، ومن الموضوع للتجربة، ومن القصيدة للنص، من البارودي وشوقي القابضين على المقولات الكبرى للقصيدة العربية، إلى نازك الملائكة ومعاصريها أبناء عصر سقوط تلك المقولات الكبرى؛ ذلك الجيل الذي نظر بداخله ملياً ليكتب العالم من خلال ذاته، بطريقته التي تعكس روحه وروح عصره».

يذكر أن نازك الملائكة وُلدت في بغداد عام 1923، وحصلت على شهادة دار المعلمين العالية عام 1944. مثلما حصلت على شهادة معهد الفنون الجميلة عام 1949، وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن - ماديسون في أميركا، وقامت بالتدريس في جامعات بغداد، والبصرة، والكويت.

ومن المعروف أن نازك الملائكة اختارت مصر منذ عام 1990 لتعيش فيها في عزلة اختيارية، وتوفيت عام 2007 عن عمر يناهز 83 عاماً، ودفنت في مقبرة خاصة بالعائلة غرب القاهرة.

نشرت الملائكة ثماني إصدارات شعرية من بينها «عاشقة الليل» عام 1947، وهو أول دواوينها، بعده توالت دواوينها: «شظايا ورماد» عام 1949، «قرارة الموجة» عام 1957، «شجرة القمر» عام 1968، «ويغير ألوانه البحر» عام 1977، «مأساة الحياة وأغنية الإنسان» عام 1977، و«الصلاة والثورة» عام 1978.

ومن مؤلفاتها النقدية «قضايا الشعر الحديث» (1962) و«التجزيئية في المجتمع العربي» (1974) و«سيكولوجية الشعر» (1992) و«الصومعة والشرفة الحمراء» (1965)، فضلاً على مجموعة قصصية صدرت في القاهرة بعنوان «الشمس التي وراء القمة» (1997).

حقائق


حفلة «أمفار» على هامش مهرجان كان جمعت 16 مليون يورو لمكافحة الإيدز

الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)
الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)
TT

حفلة «أمفار» على هامش مهرجان كان جمعت 16 مليون يورو لمكافحة الإيدز

الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)
الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)

أسفرت الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) التي أقيمت الخميس في أنتيب بجنوب فرنسا على هامش مهرجان كان السينمائي، كما درجت العادة منذ عشرات السنوات وشارك فيها الممثل ليوناردو دي كابريو، عن جمع نحو 16 مليون يورو (17.17 مليون دولار).

وبيعت في المزاد الذي أقيم خلال الأمسية لوحة لداميان هيرست تمثّل دي كابريو لقاء 1.2 مليون يورو. وبلغت الحصيلة الإجمالية للمزاد 7.4 مليون يورو (نحو 8 ملايين دولار)، وفقا لوكالة الصحافة الفرنسية.

وبيع أيضاً موديل جديد من سيارة «أستون مارتن» البريطانية الفارهة لقاء مليون ونصف مليون يورو، في حين بيعت مجموعة تصاميم أزياء لفيفيين وستوود وجيفنشي وبالماين وأرماني وسواهم في مقابل نصف مليون يورو.

وشارك في الحفلة التي تولت تقديمها مغنية الراب كوين لطيفة مئات المدعوين، من بينهم الممثلة إيفا لونغوريا والعارضات هايدي كلوم وهيلينا كريستنسن وأليساندرا أمبروزيو، ونجمة شبكات التواصل الاجتماعي جورجينا رودريغز.

ودرجت «أمفار» التي تعدّ أهم جمعية خاصة لمكافحة الإيدز وأسستها إليزابيث تايلور في الثمانينات على تنظيم حفلتها سنوياً في كاب دانتيب على هامش مهرجان كان. وتجاوزت حصيلة الأمسية العام الفائت 17.7 مليون يورو (نحو 19 مليون دولار).

كذلك شمل المزاد أعمالاً فنية أخرى، من بينها لوحة لروبرت دي نيرو الأب، والد النجم الأميركي، إضافة إلى صور لعارضات أزياء.

كذلك خُصصت تحية من النجوم لأسطورة موسيقى البوب الراحلة تينا ترنر التي توفيت الأربعاء عن 83 عاماً.

وقالت كوين لطيفة لوسائل الإعلام «لقد أعطتنا كل ما يمكن أن نتمناه وأكثر، وعلينا بكل بساطة الاحتفاء بها (...) ومواصلة تقديم الحب والنور اللذين قدمتهما».


«هيراكليس الفاو» يجسد الجمالية الإغريقية ويختزلها

هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت
هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت
TT

«هيراكليس الفاو» يجسد الجمالية الإغريقية ويختزلها

هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت
هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت

تشهد التحف الأثرية التي عُثر عليها في قرية الفاو لتعدّدية مدهشة في الأساليب الفنية المتبعة، قلّما نجد ما يماثلها في المواقع الأثرية الأخرى في شبه الجزيرة العربية. من هذه القرية التي كانت في الماضي عاصمة مملكة كندة الأولى في نجد، خرجت مجموعة صغيرة من التماثيل البرونزية تتميّز بطابعها اليوناني الصرف، منها تمثال يمثّل هيراكليس، البطل الإغريقي الذي بلغت شهرته الشرق في القرون الميلادية الأولى.

طول هذا التمثال 25 سنتمتراً، وهو منجز بحرفية عاليّة، ويماثل بأسلوبه المتقن الأنصاب الكلاسيكية الكبيرة. برز هذا الأسلوب في العالم الإغريقي، وبلغ القمة في إقليم أتيكا التاريخي، وانتقل منها إلى روما، غير أنه تراجع في العصر المسيحي بشكل كبير، وذلك بالتزامن مع ظهور جمالية جديدة مغايرة تماماً، سادت على مدى قرون من الزمن، ثم تهاوت في «عصر النهضة» الذي شكّل «ولادة جديدة» للجمالية الإغريقية الكلاسيكية، تلك الجمالية التي تقوم على محاكاة الواقع الملموس وتجسيمه في أدقّ تفاصيله.

في إقليم أتيكا التاريخي، تكوّن النحت الكلاسيكي وسطع، ومعه أضحى الجسد البشري أساس العمل الفنّي ومحوره. المثال هنا هو الجسد الحي السليم من كل عيب، والفنان مدعو إلى إظهار كل جارحة من جوارحه. ابتعد الفنانون عن قاعدة الجماد والثبات التي سادت فنون الشرق القديم، ودخلوا في ميدان الحركة الحية. نحت المثّال الإغريقي الإنسان في صورته المتحركة، مظهراً كل حركة من حركات الجسد المرن، معلناً «أنسنة» الفن، بمعزل عن موضوعه «الديني». هكذا حضر المعبودون على صورة البشر، وبدوا في تماثيلهم في أحلى صورهم وأكثرها حسناً وفتنةً.

يمثّل «هيراكليس الفاو» هذه الجمالية ويختزلها بشكل ساطع. هو ابن زيوس، كبير معبودي الإغريق وسيّدهم، وألكميني، ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، وزوجة أمفيتيريون، ابن ألكايوس ملك مدينة تيرنس. حسب الرواية المتوارثة، هام زيوس بألكميني، فتجسّد على هيئة زوجها، وعاشرها على مدى ثلاث ليال، فأنجبت منه هيراكليس، ومعنى اسمه «قوّة هيرا»، وهيرا هي أشهر زوجات زيوس، وهي من كبار المعبودين، وقد عُرفت بغيرتها وبأسها، وقد صبّت هذه الغيرة على هرقل، فدفعته إلى قتل أبنائه وهو لا يدري، وعندما استفاق، هاله ما اقترفه، فطلب التكفير عن ذنبه، فحكم عليه بالدخول في خدمة ابن عمه يورسثيوس، ملك أرجوس، وأن يقوم بالواجبات التي يطلبها منه، فطلب منه يورسثيوس أن ينجز 12 عملاً مستحيلاً، أوّلها القضاء على أسد خارق في مدينة نيميا، التي تقع في مقاطعة كورنثيا. انطلق هيراكليس إلى نيميا، وأخذ يبحث في أرجائها، إلى أن وجد ذلك الضرغام، ودخل في عراك مع هذا الوحش الذي لا يخترق جلده سيف ولا سهم، ولا تفلح ضربات الهراوة ضده، وتمكّن من خنقه، ثم سلخ جلده ولبسه.

يمثّل تمثال الفاو هيراكليس واقفاً، مع انحناءة بسيطة من قدمه اليسرى. جسده عار، ومفاصله التشريحية منجزة بحرفية عالية. يمدّ البطل يده اليمنى إلى الأمام، ويحمل بيده اليسرى هراوته ملقياً بها على كتفه، وهي الهراوة التي صنعها بنفسه من شجرة زيتون اقتلعها في جبل الهيليكون، قبل أن يبلغ نيميا، كما روى ثيوقريطس. فوق معصم اليد اليسرى، يتدلّى جلد أسد نيميا. فنّياً، يتبنّى هذا التمثال النموذج المتداول الذي شاع في سائر أقاليم العالم الروماني، حيث يحضر البطل الجبّار حاملاً الهراوة وجلد الأسد. يحني هيراكليس الفاو رأسه انحناءة خفيفة، ويتطلّع نحو اليسار، وتتميّز عيناه بطلاء زجاجي لمّاع يحدّد المقلة البيضاء والبؤبؤ الأسود. شعره جَعْد، وكذلك ذقنه الطويلة التي تحجب رقبته، وهامته متوّجة بإكليل الدالية.

دخل هيراكليس العالم السوري في الحقبة الرومانية، كما تشهد صوره المنقوشة العديدة في تدمر ودورا أوروبوس. ظهر البطل في هذه الصور حاملاً الهراوة وجلد الأسد في قوالب محلّية تميّزت بطابع تحويري «شرقي» يشكّل نقيضاً للطابع الروماني الكلاسيكي. في الجانب العراقي، عظم شأن هيراكليس في مملكة الحضر التي تقع في الجزيرة الفراتية، على بعد 110 كيلومترات من مدينة الموصل في اتجاه الجنوب، وتعدّدت صوره المنقوشة في هذه المملكة بشكل كبير، وغلب عليها الطابع «الشرقي»، كما في تدمر ودورا أوروبوس.

يحتفظ متحف بغداد بتمثال برونزي لهيراكليس يخرج عن هذا السياق، وهو تمثال من الحجم المتوسّط، طوله 85 سنتمتراً، ويتفرّد بأسلوبه الكلاسيكي الذي يماثل أسلوب تمثال الفاو. عُثر على هذا التمثال في سلوقية، المدينة التاريخية التي أسّسها القائد المقدوني سلوقس الأول على ضفة نهر دجلة، وجعل منها عاصمة للإمبراطورية السلوقية. استولى الإيرانيون الفرثيون على هذه المدينة، وأطاحوا المقدونيين، وحملوا لاحقاً هذا التمثال، كما تؤكّد الكتابة المحفورة على أعلى ساقيه، وهي كتابة يونانية على الساق اليمنى، وأرامية وباللغة الفرثية على الساق اليسرى، وتقول بأن الملك فولوغاس الرابع (بَلاش جهارم) حمل هذا التمثال في منتصف القرن الثاني من معبد يعود إلى مثروديطوس، في ميسان، على رأس الخليج.

في شبه الجزيرة العربية، يغيب هيراكليس بشكل كامل، ولا يظهر إلا بشكل استثنائي كما يبدو. يتجلى البطل الإغريقي بشكل مبسّط على نصب جنائزي مرمري محفوظ في متحف مدينة عنق، وهو من نتاج القرن الرابع، مصدره شبوة، عاصمة مملكة حضر موت القديمة. ويشكّل هذا الظهور حالة نادرة، إذ لا نرى ما يماثله في آثار اليمن المتعدّدة. في الأراضي السعودية، ينحصر ظهور هيراكليس في تمثال الفاو، ضمن مجموعة صغيرة من التماثيل البرونزية تعود إلى القرون الميلادية الأولى، وتتميّز بأسلوبها الكلاسيكي الصرف كما أشرنا.

يحضر هيراكليس شبوة في صورة مبسّطة شبه بدائية، ويحضر هيراكليس الفاو في صورة واقعية مجسّمة، ويماثل في حضوره هيراكليس سلوقية الذي يتميّز مثله بعينين زجاجيتين لمّاعتين.


مي زيادة وجبران: الحب كالكتابة لا يزهر إلا في تربة الغياب

مي زيادة وجبران
مي زيادة وجبران
TT

مي زيادة وجبران: الحب كالكتابة لا يزهر إلا في تربة الغياب

مي زيادة وجبران
مي زيادة وجبران

قد تكون العلاقة التي جمعت بين مي زيادة وجبران خليل جبران، واحدة من أغرب العلاقات العاطفية التي ربطت بين كاتبين، وأكثرها التباساً ومحلاً للجدل والقراءات المختلفة. إذ ندر أن شهد التاريخ المديد للعشق، علاقة عاطفية بين طرفين اقتصرت تعبيراتها على تبادل الرسائل لفترة تقارب العقدين من الزمن، دون أن يعمد أي منهما إلى هدم العائق الجغرافي والتقدم بوصة واحدة باتجاه الآخر. لكن هذه الغرابة بالذات، هي التي جعلت منهما محل متابعة العشرات من النقاد والباحثين، بحيث وُضعت حولهما عشرات الكتب والأطروحات، ولم تُترك نأمة صغيرة من حياتيهما إلا وتمت متابعتها بالتفصيل.

وإذا كان جبران مديناً فيما حققه من مكانة وحضور إبداعيين، لأمه كاملة رحمة التي اتخذت قرارها الشجاع بترك الأب المتسلط والمدمن على الخمرة وحيداً في بشري، والهجرة مع أولادها الأربعة بطرس وجبران وسلطانة ومريانا إلى أميركا، فهو لا يخفي الدور الموازي الذي لعبته نساء أخريات في حياته القصيرة الحافلة، حيث ورد في إحدى رسائله إلى مي زيادة «أنا مدين بكل ما هو أنا للمرأة، منذ كنت طفلاً وحتى الساعة. المرأة هي من فتحت النوافذ في بصري والأبواب في روحي. ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة، لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذين يشوشون سكينة العالم بغطيطهم».

إلا أن المتتبع لحياة جبران العاطفية لا بد أن يلاحظ أنه إزاء شخصين متغايرين تماماً، أحدهما يصوب باتجاه الجسد الغرائزي، والآخر باتجاه الروح والتوهج المثالي للأنوثة الكونية. وإذ يكشف ميخائيل نعيمة في كتابه عن جبران، أن هذا الأخير أقام في مراهقته علاقة جسدية محمومة مع امرأة أميركية متزوجة من تاجر جلود، كانت تتردد عليه ليرسمها، فإن نعيمة يسرد الحدث بأسلوب من الغمز المشوب بالإدانة المبطنة، علماً بأن الإنسان في الصبا لا يأبه بالمعايير الأخلاقية السائدة، بل بتحقيق ذاته وإثبات هويته الذكورية.

وكما يظهر جبران في صورة أخرى مناقضة من خلال العلاقة الرومانسية الحالمة التي أقامها أثناء إقامته في بيروت مع حلا الضاهر، التي أطلق عليها في «الأجنحة المتكسرة» اسم سلمى كرامة، ما يلبث أن يقع فريسة شغفه المشبوب بالأميركية ميشلين ذات الجمال المغوي، التي عرفته بها ماري هاسكل، قبل أن تصل علاقتهما إلى طريق مسدود، ليس فقط لأن جبران لم يرغب في الزواج منها، بل لأنه لم يكن قادراً على خيانة هاسكل، التي لم يكن من دون رعايتها ودعمها ليقف على قدميه. أما علاقته بماري فتتخذ طابعاً ملغزاً وشديد الإبهام. ففي حين يرى البعض أن جبران قد وجد في ماري، التي تكبره بعشر سنوات، أمه الرمزية البديلة، يبدو جبران في قرارته وكأنه منشطر نصفياً بين إبقاء ماري، ذات الجمال المتواضع، في خانة الصداقة والحدب الإنسانيين، وبين الزواج منها بدافع تأنيب الضمير أو التعبير عن الامتنان.

وسط البلبلة العاطفية التي عاشها جبران في فترة شبابه، كان يمكن للرسالة التي وصلته من مي زيادة عام 1912، والتي تعرب فيها عن إعجابها الشديد بقصته «مرتا البانية»، أن تكون حدثاً عابراً في حياته، كما في حياة الكاتبة اللبنانية التي تشاء المفارقات أن تدين انطلاقتها الفعلية في عالم الأدب لجبران نفسه، حيث تسبب إلقاؤها المميز لكلمته في حفل تكريم خليل مطران عام 1913، في لفت أنظار الوسط الثقافي المصري إلى نبرتها الواثقة وحضورها الآسر. فما الذي دفع الطرفين إلى الدخول في مغامرة عاطفية نظرية استمرت عقدين من الزمن، في حين كانت نساء عديدات تتنافسن على قلب جبران، وكان عشرات الكتاب المصريين والعرب يتسابقون بالمقابل للوصول إلى صالون مي الأدبي، وإلى قلبها فيما بعد؟

والواقع أن مثل هذا السؤال لم يكن ليغيب عن بال الكتاب والباحثين، الذين عاينوا العلاقة عن كثب، أو قاربوها من موقع الدرس والتمحيص والتحليل النفسي، وبينهم ميخائيل نعيمة الذي يمر بشكل عارض على الرسالة التي وصلت جبران من فتاة شرقية لم يسمّها، متحدثاً عن شعور صديقه بالزهو والغبطة إثر قراءة الرسالة، وملمحاً إلى أن جبران لم يشأ اللقاء بالفتاة، تجنباً «لإفساد ما تبقى من براءته، أو الابتلاء بالمزيد من التجارب».

وإذ يُفترض بالرسائل التي تبادلها الطرفان أن تكون المرجع الأهم في تبيان حقيقة العلاقة وطبيعتها، فإن هذه الرسائل تندرج في خانتين اثنتين، فكرية وعاطفية، مع الإشارة إلى اتسام الأولى بالجرأة النقدية والغنى المعرفي، فيما تدرجت الثانية من البوح الخفر والموارب، إلى الاعتراف بالحب والمكاشفة العاطفية الصريحة. وحيث تعمد مي إلى امتداح السرد الجبراني في «الأجنحة المتكسرة»، إلا أنها تبدي تحفظها على موقفه السلبي من الزواج، وعلى تسويغه للخيانة حتى ولو كان الحب دافعها الوحيد. وفي «دمعة وابتسامة» تأخذ مي عليه «لهجته المضطربة وأفكاره الصبيانية». وإذ تمتدح كتابيه «المواكب» و«المجنون»، لا تتوانى رغم إعجابها بالكتابين عن القول: «في كلا الكتابين أكاد أتبين تأثير نيتشه، وإن كانت بسمة التهكم الفني الدقيق التي نراها عند جبران لن تشبه أبداً ضحكة نيتشه ذات الجلبة الضخمة المزعجة». والأرجح أن تعلق جبران العاطفي بمي، هو الذي دفعه إلى أن يتقبل برحابة صدر «حديثها العلوي المتراوح بين العذوبة والتعنيف». إلا أن جبران، من جهة ثانية، لم يتردد في مكاشفة مي بما يرى فيه تعزيزاً لدورها ومكانتها الأدبيين، فيحثها على استثمار مواهبها في ما هو أبعد من النقد الأدبي والاجتماعي، قائلاً لها: «أو ليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين؟ ألا ترين أن نظم قصيدة أو نثرها، أفضل من رسالة في الشعر والشعراء؟».

أما الجانب العاطفي من العلاقة فهو يبدو، رغم تطوره المطرد من الصداقة الفكرية باتجاه الحب، أقرب إلى ما أطلق عليه جبران اسم «النشيد الغنائي» أو «إنشاد المنادى»، بتعبير هايدغر، أو مناجاة المثال الأفلاطوني الموزع بين المطلقيْن الأنثوي والذكوري. ففي حين يكتب جبران لمي «أستعطفك أن تكتبي إليّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر»، تكتب له من جهتها «لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من أنت وأين أنت. وكثيراً ما أنسى أن هناك رجلاً أخاطبه، فأكلمك كما أكلم نفسي».

اللافت في الأمر أن رد فعل مي على عرض جبران الزواج منها، لم يختلف كثيراً عن رد فعل ماري هاسكل، حيث نظرت المرأتان إلى العرض بوصفه مجاملة أخلاقية فرضتها علاقته الوثيقة بكل منهما. ومع أن زيادة لم تقدم على الزواج من رجل آخر، كما فعلت ماري، إلا أنها كتبت له رداً على عرضه: «لقد تكاتبنا كصديقين مفكرين، ولو كنت سعيداً بالصداقة مثلي لما كنت رميت إلى أبعد من ذلك». إلا أنها ما تلبث أن تكتب لاسترضائه عام 1921: «أريد أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضاً». ثم تخلع عنها بعد ذلك رداء الخفر لتخاطب جبران بقولها: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إنني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أنتظر الحب كثيراً، وأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر».

ومع ذلك فإن جبران الذي وعد مي بأن يزورها في القاهرة، أو يلتقي بها في أوروبا، لم يفِ بوعوده أبداً، بما جعل منسوب الرسائل بينهما يتضاءل بشكل تدريجي. والأرجح أن خيبة مي من جبران قد أسهمت في توطيد علاقتها بالعقاد، كما يكشف خالد غازي في كتابه «جنون امرأة»، مستشهداً بقولها لهذا الأخير: «إن ما تشعر به هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك». وإذ تخاطبه بمكر أنثوي لافت: «الآن عرفت لماذا لا تميل إلى جبران»، تضيف قائلة: «لا تحسب أني أتهمك بالغيرة من جبران، فهو في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني، كما أنني لم أره إلا في الصور».

والأرجح أن كلاً من جبران ومي لم يكن يرغب في عمقه بلقاء الآخر أو الارتباط به، لأن ذينك اللقاء والارتباط كانا سيسقطان العلاقة من سدة الحلم إلى رتابة الواقع وسقمه وفساده. وكان لا بد من أن تحول قارات ومحيطات شاسعة دون عناقهما المباشر، لكي يتكفل المتخيل بالأمر، وتقوم اللغة مقام الذراعين. والأنفاس المحمومة ونبض القلب. ولعل المآل المأساوي لمصيريهما المتباعدين، هو الذي وفر لحبهما «الافتراضي» ما يلزمه من عناصر الأسطورة. فمع رحيل جبران المبكر بفعل تفاقم أمراضه، كان جسد مي النضر وعقلها المستنير يترنحان تحت مطرقة الزمن القاسي وغدر الأقارب وتخلي الأصدقاء. وحيث كان الكثيرون يرون في مي صورة المرأة الحالمة ذات الشفافية المفرطة والذكاء المتوقد، ظلت صورة جبران مثاراً للجدل والتباين والتأويلات المختلفة. وحدها الشاعرة الأميركية باربارا يونغ، رفيقة سنواته الأخيرة، ألحت على تنزيهه عن كل دنس وإلحاقه بمصاف الأولياء والقديسين، هاتفةً بعد رحيله بمحبيه الكثر:

الشاعر ينام، لكنه لا ينام

بل خرج يمشي في الفضاء

ويركض في الريح

لا تُسمّوا احتضاراً عناقه الغمامة

لا تُسموا موتاً ذهابه الى الشمس

ها هو، قاصداً نجمة الصبح

يرسم الأثير شموساً وأقماراً

ويبلغ بيته هناك، في قلب العاصفة