زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق

الفائز بـ«بوكر» العربية يقول إنه يستلهم في رواياته البيئة العمانية

زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق
TT
20

زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق

زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق

زهران القاسمي، روائي عُماني شاب جاء من الشعر إلى الرواية، حاملاً تراث بلده بكل ما فيه من أساطير وحكم ومغامرات ليضعها في روايته الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) «تغريبة القافر»... بعد عشرة دواوين شعرية كتب رواياته «جبل الشوع» (2013)، و«القنّاص» (2014)، و«جوع العسل»، و«سيرة الحجر 1» (قصص قصيرة، 2009)، و«سيرة الحجر 2» (نصوص، 2011)، وهو أول روائي عُماني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية.

تدور أحداث الرواية في إحدى القرى العُمانية، وتحكي قصة سالم بن عبد الله، أحد مقتفي أثر الماء، تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية. تقع أحداث الرواية في عالم الأفلاج؛ النظام الفلاحي لريّ البساتين، المرتبط بالحياة القروية في عُمان ارتباطاً وثيقاً، والذي دارت حوله الحكايات والأساطير. ويطرح الكاتب سؤالاً مهماً على القارئ: ماذا لو أن هذه المادة التي تمنح الحياة للكائنات هي مصدر لموتها أيضاً من خلال ندرتها أو فيضانها؟

ارتبطت حياة «القافر» منذ ولادته بالماء، فأمّه ماتت غرقاً، ووالده طُمر تحت قناة أحد الأفلاج حيث انهار عليه السقف، وينتهي «القافر» سجيناً في قناة أحد الأفلاج ليبقى هناك يقاوم للبقاء حياً.

قال عنها رئيس لجنة التحكيم، محمد الأشعري: «اختارت لجنة التحكيم رواية (تغريبة القافر) لزهران القاسمي؛ لكونها اهتمت بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة. وقد قدّم الكاتب لنا هذا الموضوع من خلال تآلف مستمر بين الواقع والأسطورة، ويفعل ذلك من خلال بناء روائي محكم ولغة شعرية شفافة، ومن خلال نحت شخصيات مثيرة تحتل دوراً أساسياً في حياة الناس، وفي الوقت نفسخ تثير نفورهم وتخوّفَهم. وقد استطاع الكاتب أن يقرّبنا من مسرح غير مألوف للرواية المتداولة في الوطن العربي، هو مسرح الوديان والأفلاج في عُمان وتأثير العناصر الطبيعية في علاقة الإنسان بمحيطه وبثقافته».

التقينا الشاعر والروائي زهران القاسمي في فندق «باب البحر» بأبوظبي وأجرينا معه هذا الحوار الذي بدأناه بسؤال عن:

* الرواية، كيف جئت من الشعر على كتابة الرواية؟ وهل ثمة مقارنة واختلاف بينهما في عملية الكتابة؟

ـــ قبل كل شيء، لكل من الشعر والرواية عوالمها وتقنياتهما في الكتابة، لا يمكن مقارنتهما. ما زلت أكتب الشعر، ولن أتخلى عن الرواية.

والمسألة الجوهرية هي الحفاظ على العمل السردي، لكنني في الوقت ذاته، استفدت من الشعر وجمالياته، لكنني كما قلت حافظت على اللغة السردية، العمود الفقري في الرواية؛ لأن الرواية كما تعلم تستوعب كل الفنون، ومنها الشعر، خذ على سبيل المثال: إبراهيم نصر الله وعلي المقري ومحمد الأشعري، وغيرهم، ينحدرون من كتابة الشعر، ويمتلكون لغته، لكنهم في الوقت ذاته ساردون كبار. فائدة الشعر السيطرة على اللغة وبعث جمالياته في الرواية.

* هل لعبت البيئة العمانية دوراً في كتابة روايتك؟

ــــ إنها تجربة خضتها من استيحاء ما أعايشه في عُمان، وقد سبق هذه الرواية وروايات أخرى كتابة مجموعة من القصص المأخوذة من البيئة العُمانية الزاخرة. وقبلها كانت رواية «جبل الشوع»، وهي شجرة جبلية تاريخية يعرفها العُمانيون. وهذه هي مهمة الروائي أن يغوص في أعماق تراث بلده، ويستخرج ما هو خافٍ.

* هل اختيار الفلج أو الأفلاج جاء صدفة أو من خلال ارتباطاتها بالحياة الفلاحية العمانية؟

ـــ إنها مفردات عُمانية تشكل جزءاً من حياة البشر عندنا، وهو موضوع غني ومتفرد، لكنني أعالج هذه الموضوعات عادة كما روايتي التي تدور حول تربية النحل والعسل «جوع العسل»، لها خصوصية والناس الذين يعملون في هذا المجال، كانوا يخزنون العسل في جذوع النخيل ويبحثون في الجبال عنه؛ لذلك فهي مهنة مرتبطة بالمغامرة كما في رواية «القنّاص» حيث تعيش الوعول في الجبال؛ لذلك ارتبطت الأفلاج بالناس المكافحين في القرى الصغيرة. وهي موجودة في عُمان والإمارات فقط.

* عنوان روايتك «تغريبة القافر» تدور حول فرد، في حين أن التغريبة جماعية، أليس كذلك؟

ــــ بلى. أنت على حق تماماً. إنني في الواقع كنت محتاراً في تسمية الرواية أو وضع عنوانها، فدارت في رأسي عناوين وغيرها. هذه الشخصية عاشت هذه التجربة، وقاست كثيراً، لذلك ربطتها بالتغريبة؛ لأن فئة كبيرة تعمل في مجال الأفلاج. وكان في ذهني «تغريبة بني هلال» و«التغريبة الفلسطينية» كما كتبها إبراهيم. يمكن للفرد أن يخوض عالماً ملحمياً بمفرده، لمَ لا، ما دام يعبّر عن وجدان الجماعة؟! إضافة إلى ذلك أن كل شخص في الرواية، وليس البطل فقط، في داخله تغريبته ومعاناته.

* نلاحظ المصير التراجيدي لعائلة كاملة لقيت حتفها في الأفلاج غرقاً.

ــــ نعم هذا صحيح. كان المصير التراجيدي ينتظرهم فرداً فرداً.

الأم تموت غرقاً ويخرج ابنها من بطنها حيّاً لم يغرق وهو يخرج من بطن أمه، وأبوه دُفن في أحد الأفلاج بعد انهياره، وظل هذا «القافر» مرتبطاً بالأرض والماء إلى أن يلاقي المصير ذاته. فالمغامرة في البحث عن الماء تشبه البحث عن كنوز الذهب. وهكذا.

* هل قرأت رواية «موبي ديك» لميلفيل التي تدور حول الجانب المائي من العالم ومغامرة صيد الحيتان؟

ـــ هذه الرواية العظيمة من أمهات الكتب، إنها زاخرة بالخيال. واستعنت كثيراً بقراءة الكتب والمراجع والمخطوطات عن هندسة الأفلاج وعلاقتها بالمجتمع، كما أجريت لقاءات حيوية مع كبار السن ممن خبروا هذا الميدان في شبابهم وشيخوختهم، وما حملوه عن الأفلاج من قصص وحكايات وأساطير. ومن هذه الأساطير كان هناك شخصية تدعى العفريت، وهو الأفلاج ويتحدى جبروتها، بل وصل به الأمر إلى رجل ينزل إلى الاستهزاء بها، لكنه ذات يوم يدخل إليها وينهار به السقف، فيبدأ بالصراخ وظل ساعات طويلة على قيد الحياة إلى أن يستسلم إلى الموت. هذه الأساطير تختلف من مكان إلى آخر، ما بين البيئات المختلفة من قرية أو معبد أو مسجد.

* هل كان البطل صوفياً؟

ــــ تمتاز الشخصية العُمانية بحياة الزهد والتقشف، ولكن ليس ذلك ظاهراً من خلال اتباع طريقة صوفية معينة. علاقة كل أبناء القرى تتميز بالزهد والحياة الصوفية كطريقة روحية للعيش لا أكثر. والصوفية لا تعني في عُمان ارتداء ملابس خاصة أو مظاهر معينة بارزة. إن طبيعة الحياة اليومية تجعل من الإنسان العُماني زاهداً، ولا تهمه الصورة البراقة.

* كيف يتنبأ البطل بهذه البصيرة في الرواية؟

ـــ «القافر» مصطلح عربي قديم؛ أي الشخص الذي يقتفي الأثر. الرحّالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر قطع الربع الخالي، وتحدث عن البدو الذين يعرفون من آثار القدم الأشخاص الذين مروا من هناك ليلاً أو نهاراً، أو مرور هذه الدابة، أو مرور هذه القبيلة أو تلك. كانوا يعرفون المكان من الأشجار التي تمتد جذورها عميقاً في الأرض. هذه الأشجار لا تنبت إلا في هذا المكان وعندما يحفرون يجدون الماء. بعض مقتفي الآثار يعرفون ذلك ويقتفون الأثر من خلال التربة، وشكلها ولونها.

* هل للرواية علاقة وطيدة بالتراث العماني المتوارث؟

ـــ تماماً، رغم العوالم المتخيلة في الرواية، لكنها تستند على الواقع أيضاً؛ لأنه لا يمكن أن تكون الرواية بأكملها خيالية أو متخيلة. إن فكرة الرواية تتحدث عن شخصية «القافر» الذي يستطيع أن يسمع خرير الماء وهو نائم، سواء في المناطق الصحراوية أو الساحلية، بإمكانه أن يستدل على وجود الماء من الأشجار الصحراوية التي تمتد جذورها عميقاً في المكان. فيعرفون هؤلاء المهرة أن في هذا المكان مخازن أو منابع للماء تحت الأرض. وهذه الشخصية لديها حاسة قوية تستطيع أن تتنبأ وتكتشف وتسترشد بحواسها. من هنا جاءت فكرة الرواية.

* لقد استخدمت بعض التقنيات الذهنية في الرواية...

ـــ حاولت استخدام أكثر من تقنية، لكنني جعلت شخصية السارد العليم جزءاً من شخصيات القرية حتى تكون قريبة منها ومن همومها. وهذه الشخصية قامت بنسج حكايات القروي الذي عندما يتكلم يدخل الكثير من الخرافات والأساطير في كلامه.

* كم استغرقت كتابة هذه الرواية؟ وما هي العوائق التي واجهتك؟

ــــ استغرقت كتابتها عامين، وكان العائق الأساسي عندما تطغى شخصية من الشخصيات على الحدث، لذلك كنتُ أتوقف لأيام من دون كتابة، حتى إنني تأثرت ببعض الشخصيات لدرجة كنتُ أقوم بتقليدها، أو بالأحرى كانت تتلبسني، كأن أكون غاضباً أو عصبياً؛ أي أقلد شخصيات روايتي. على سبيل المثال، كانت شخصية «الوعري» في الرواية منعزلة وانطوائية، فأصبحت مثله بعض الوقت.

* هناك من يتهم الرواية بأنها تحتوي على الإنشائية...

ــــ أعتقد أنه لا توجد رواية في العالم تخلو من الإنشائية، حتى إن بعض الروايات تحتوي على تقارير إخبارية أو قصاصات جرائد، المهم كيف نتعامل معها وندخلها في سياق الرواية.

* هل كانت نهاية الرواية تلقائية أو خططت لها؟

ـــ لم أكن أتوقع أن أنتهي من كتابتها، لكنني عندما كتبتُ عبارة «وجرف معه كل شيء»، أدركتُ أن الرواية انتهت.

* ما هو رأيك بتطور الرواية العمانية التي حاز بعضها جوائز رفيعة؟

ـــ عندنا روائيون جادون ومبدعون، خذ على سبيل المثال رواية رائعة مثل «سر الموريسكي» لمحمد العجمي، لكن ما تعاني منه الرواية العمانية هو حاجتها إلى التسويق. هناك كتّاب رواية مبدعون أمثال: هدى حمد، وأحمد الرحبي، ومحمود الرحبي، وعبد العزيز الفارسي، وغيرهم. أحياناً في ذلك جانب سلبي؛ لأنه لا توجد لدينا وسيلة للترويج، في حين أن النقد غائب والمؤتمرات وكذلك الندوات وحماسة جمهور القراء. إن سر تقدم الأدب العماني أنهم بدأوا الكتابة منذ زمن طويل، والأدب واحد من المكونات الأساسية في البيوت العمانية؛ لأن الشعب العماني مرتبط بالثقافة، ولديه كتب يحتفظ بها منذ مئات السنين. وعندما بدأ الجيل الجديد في كتابة الرواية، لم يكن العمانيون بمنأى عن التأثيرات الخارجية شأنهم شأن أقرانهم من الروائيين في العالم العربي.

* هل كنت تتوقع الفوز بالجائزة وسط روايات قوية عديدة؟

ــــ قرأت معظم هذه الأعمال التي اقتنيتها في معرض مسقط للكتابة، إنها تحتوي على عوالم رائعة ومختلفة، مثل روايات نجوى وأزهر وميرال. عندما نشارك في الجوائز يجب أن نتقبل قواعد اللعبة. المهم أنني مؤمن بروايتي وفكرتها والشخصيات التي توحدت معها.



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.