المواجهة الكولونيالية في الأدب العربي الحديث

كثير من الأعمال تفاعل مع الواقع الاستعماري بصور مختلفة

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

المواجهة الكولونيالية في الأدب العربي الحديث

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

حين تطرح الوطنية والتمسك بالهوية والأرض فليس من أدب عربي يعلو على الأدب الفلسطيني

أحد الأسئلة المهمة التي استدعتها المقالة التي نشرت حول نقد الاستعمار في الوطن العربي هو: هل يوجد أدب استعمار عربي أساساً ليوجد نقد له؟ طرح السؤال أ. حمزة عليوي على هذه الصفحات، وأنا أشكره لطرحه لأنه ذكرني بأن ما نظرت إليه على أنه أمر مفروغ منه ليس كذلك بالضرورة.

غالي شكري

وكنت بالفعل قد انطلقت من تلك الفرضية التي بدت لي بدهية، لكن بما أنها طرحت للبحث فسأشير فيما يلي إلى بعض النماذج من الأدب العربي الحديث التي تؤكد وجود بل أهمية ذلك الأدب ومشروعية التساؤل من ثم عن غياب نقد ما بعد استعماري يتناول ذلك الأدب، أي نقد ينطلق على أسس نظرية تتناول الأعمال الأدبية من منظور ما بعد كولونيالي يوازي أو يشابه ما تطور في مناطق أخرى من العالم الذي تأثر بالاستعمار. فالمقصود ليس أن شيئاً لم يكتب عن ذلك الأدب، وإنما أنه، حسب علمي، لم يكتب شيء من المنظور النقدي الذي تطور تحت مسمى «النقد ما بعد الكولونيالي» أو «ما بعد الاستعماري»، بحيث تتطور نظرية أو حتى معالجة ما بعد كولونيالية في النقد العربي الحديث.

في تقديري أن غياب أي شكل من أشكال التفاعل الأدبي مع الواقع الاستعماري الذي عاشته بعض المناطق العربية (مصر، العراق، فلسطين، بلاد المغرب العربي، الخليج العربي، السودان) سيكون غريباً، بل حالة شاذة لو حدث، لأن الاحتلال البريطاني والفرنسي أو الانتداب، كما سمى نفسه، ترك أثراً يقل ويكثر حسب المناطق لكنه مهم في كل الحالات، ومن الصعب تصور غياب أي تفاعل معه. وواقع الأمر يقول غير ذلك، يقول إن التفاعل موجود، وإن الأدب كثير ومهم، لكن اللافت أن أوائل الدراسات المهمة التي تناولت ذلك الأدب من زاوية ما بعد كولونيالية كانت دراسات غير عربية، بريطانية وأميركية وربما أوروبية أخرى.

قبل الوقوف على بعض تلك الدراسات أشير إلى بعض الأعمال الشهيرة.

أبو القاسم الشابي

كيف يمكن قراءة أشهر شعراء تونس، أبي القاسم الشابي، مثلاً، دون وعي بالاحتلال الفرنسي لذلك البلد العربي؟ إنه الشابي الذي نظم «إذا الشعب يوماً أراد الحياة» في أوائل الثلاثينات، قبيل وفاته، وكان مهموماً بالاستعمار وبمقاومته مستعيراً رموزاً يعتز بها المستعمر لكي يقاومه (أسطورة بروميثيوس). وللشابي بالطبع غير ذلك من قصائد تعبر عن موقفه من الاحتلال.

وفي فترة سبقت الشابي كان أحمد شوقي في إسبانيا منفياً من قبل المستعمر الإنجليزي يلهمه حنينه إلى الوطن للتعبير عن ضيقه بما آلت إليه حاله في معارضاته الشهيرة مثل نونيته «يا نائح الطلح» وسينيته العظيمة التي يخاطب فيها وطنه محاكياً البحتري ومحتجاً على حرمانه من الوطن في البيت الشهير: «أحرام على بلابله الدوح/ حلال للطير من كل جنس؟»، ولكن رفض شوقي لم يتوقف عند احتلال الإنجليز لبلاده، وإنما امتد إلى الهم القومي حين هاجم احتلال الفرنسيين لسوريا واعتداءهم على دمشق كما تعلن بقوة قصيدتاه الشهيرتان حول العاصمة السورية «قم ناج جلق» والأخرى التي مطلعها: «سلام من صبا بردى أرق». في القصيدة الأخيرة يرد بيته الشهير: دم الثوار تعرفه فرنسا/ وتعلم أنه نور وحق. وهو بيت مقاومة بامتياز، كما هو بيته الآخر من القصيدة نفسها: وللمستعمرين وإن ألانوا/ قلوب كالحجارة لا ترق. يذكر شوقي الفرنسيين بأن ادعاءهم بأنهم بلاد الأنوار يتراجع أمام نور الحق المنبلج في دمشق بتاريخها الحضاري العريق، مثلما يتهاوى أمام بربريتهم التي يكشفها الاحتلال الغاشم.

وإلى جانب أولئك الشعراء العرب يقف شاعر الخليج خالد الفرج، في النصف الأول من القرن الماضي مهاجماً الاستعمار الإنجليزي ومستنهضاً همم الحكام العرب، لا سيما في الخليج العربي الواقع في مجمله آنذاك تحت السيطرة البريطانية. خالد الفرج صوت نهضوي مقاوم للاستعمار لا يقل قيمة وأهمية عن رصفائه من الشعراء العرب، وإن لم يعرفه الكثير من النقاد والقراء. ومن شعره قوله مخاطباً الجامعة العربية وكان أعضاؤها سبع دول:

عقدت اجتماعك يا جامعة

فهل أنت مبصرة سامعة

سئمنا الكلام فهل من فعال

فإن الأعادي بنا طامعة

أسبع عجائب هذا الزمان

نزلنا إلى درك السابعة

...

فيا رب رحماك أنقذ حماك

وخذ بيدي أمة ضائعة!

هذه النصوص الشعرية، سواء أكانت لشوقي أو للشابي أو للفرج أو للجواهري أو لغيرهم، مثل شاعر القطرين خليل مطران الذي عرف بمقاومته الشرسة للحكم العثماني، وكذلك في شعر للمهجريين، مثل إيليا أبو ماضي في قصائد عن احتلال فلسطين، أو الجواهري في نقده للمتواطئين مع المستعمر من حكام العراق:

بين اثنتين: فساسة قد أوثقوا بالأجنبي وساسة جبناء

كل تلك وغيرها لا أعرف أنها قرئت عربياً من زاوية ما بعد كولونيالية، فترددها في المنابر وفي مناهج الدراسة وفي الدراسات المختلفة لم يسلط عليها ضوءاً يربطها بغيرها من قصائد الشعراء الآخرين، ويخرج من ذلك برؤية نقدية شمولية لشعر مقاومة للمستعمر تتضمن مفاهيم أو نظريات.

ومثل النصوص الشعرية تقف الأعمال السردية والمسرحية بحاجة للاستكشاف من الزاوية النظرية نفسها، ولست هنا في مقام الحصر أو الاستقصاء لكل ما كتب من أعمال كان يمكن أن تكون مادة لتلك التحليلات، وإنما أحاول الإجابة عن سؤال ما إذا كان في الأدب العربي الحديث أدب مقاوم للاستعمار أو معني به. في سياق السرد تجب الإشارة إلى أعمال نجيب محفوظ والثلاثية بصفة خاصة، حيث نرى المقاومة المصرية المتصلة للاحتلال الإنجليزي ابتداء بثورة 1919، الثورة الحاضرة في رواية توفيق الحكيم «عودة الروح» (1933).

خليل مطران

يقول غالي شكري: «وفي تاريخ الأدب المصري الحديث تعد (عودة الروح) طليعة الأدب القومي المناضل ضد الاستعمار»، مشيراً إلى رواية أخرى لمحمود طاهر حقي بعنوان «عذراء دنشواي» التي سبقت رواية الحكيم بربع قرن، وإن لم تسبقها حسب شكري من حيث القيمة الأدبية. في تلك الأعمال وغيرها إعلاء من قيم الوطنية والهوية في سياقات سياسية ونضالية تجعل من ذلك الإعلاء فعلاً مقاوماً ومهماً من ثم للدراسات ما بعد الكولونيالية.

وحين تطرح الوطنية والتمسك بالهوية والأرض فليس من أدب عربي يعلو على الأدب الفلسطيني في كثافة استحضار تلك القيم. لقد قال إدوارد سعيد عن الأدب الفلسطيني إنه يتفرد بأنه ما زال يكتب تحت الاحتلال، أي أنه أدب مقاوم باستمرار للاستعمار أو الكولونيالية. الأدب الفلسطيني بأكمله تقريباً أدب مقاومة للمحتل. أبرز ذلك باحثون كثر منهم غالي شكري في كتابه الرائد «أدب المقاومة» (1970)، الذي اقتبست منه قبل قليل، والذي كان يمكن أن يكون رائداً لدراسات ما بعد كولونيالية لو أن ذلك التوجه استمر وتطور.

الأدب الفلسطيني درس أيضاً في الغرب من زاوية المقاوم في كتاب مهم للباحثة الأمريكية باربرا هارلو عنوانه أيضاً «أدب المقاومة» (1987) وضعت فيه الأدب الفلسطيني ضمن عدد من الآداب العالمية التي تتسم بمقاومة المحتل، فكانت بذلك تسهم في تعزيز دراسة الأدب العربي من زاوية ما بعد كولونيالية.

وأختم بالإشارة إلى دراسة غربية أخرى للأدب العربي من الزاوية ذاتها، وهي أيضاً لباحثة أمريكية اسمها تيري دي يونغ، أستاذة الأدب العربي بجامعة واشنطن، التي تناولت شعر بدر شاكر السياب من حيث هو مقاومة للاستعمار. عنوان الكتاب: «موضعة الشاعر: بدر شاكر السياب والعراق ما بعد الكولونيالي» (Placing the Poet: Badr Shakir Al-Sayyab and Postcolonial Iraq) (1998). في الكتاب توضح الباحثة أهمية المكان في قصائد السياب بوصفه «أرضية بالمعنيين الحرفي والمجازي لمقاومة وحوش الاستعمار».

هذه الدراسات النقدية وغيرها تضعنا أمام حقيقة واضحة هي كثرة الأعمال التي تفاعلت مع الواقع الاستعماري بصور مختلفة، وكان يمكن أن تستدعي تطورات نقدية موازية على المستوى العربي. وكونها استدعت تلك التطورات على المستوى الغربي دليل على أن السياق النقدي بنظرياته ومفاهيمه في أوروبا وأميركا كان حاسماً في تبلور المقاربة المنشودة.



أدونيس يعلن هزيمة جيل الحداثة الأول... ويتوجّس من أدلجة القراءة

أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
TT

أدونيس يعلن هزيمة جيل الحداثة الأول... ويتوجّس من أدلجة القراءة

أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)
أدونيس خلال كلمته على مسرح «إثراء» بالظهران (الشرق الأوسط)

أينما حل الشاعر السوري أدونيس فإنه قادر على الاستئثار بالاهتمام وإثارة التساؤلات، وفي زيارته الثانية إلى السعودية، أطل صاحب كتاب «الثابت والمتحوّل» هذه المرة من منبر قرائي مخاطباً الشباب العرب، في جلسة حوارية صباحية وكلمة احتفالية مسائية، ضمن فعاليات ختام برنامج إثراء القراءة (اقرأ)، الذي نظمه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) بالظهران، وسط حضور كثيف من مثقفين سعوديين وعرب.

وفي المرتين اللتين صعد بهما أدونيس على مسرح «إثراء»، كان يُظهر حنكته في نقد التراث الشعري، ودك عرش رموزه، حيث صرّح في الجلسة التي حاوره فيها الناقد السعودي محمد العباس، قائلاً: «لو أخذنا جيل الحداثة الأول، من بدر شاكر السياب مروراً بنزار قباني ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم، ثم قارنا إنتاجه بما تكتبه المرأة العربية، فأنا أشهد بأن ما تكتبه المرأة العربية اليوم هو أكثر أهمية مما كتبناه».

الكينونة الإنسانية

وأرجع أدونيس ذلك إلى أن المرأة العربية بدأت تخرج من رأسها الثقافي وتكتب جسدها العميق الحقيقي، بما يراه يفتح طرقاً جديدة للتعبير الشعري، في حين أن الجيل الحداثي الذي أسمى رموزه؛ بقي متردداً من الاعتراف بذلك. جاء ذلك خلال سؤاله عن مدى رضاه عن الشعر العربي في الوقت الحالي، وأضاف: «نحن اليوم لا نزال نكتب برأسنا، فنحن نكتب الشعر ثقافياً، أما عوالم الجسد والمخيّلة والانفعالات والأحلام والغضب وغيره مما هو مرتبط بالكينونة الإنسانية العميقة، فإننا لم نكتب عنه بعد». وأردف: «لا نزال نكتب ما يكتبه الآخرون، والفرق بين شاعر وشاعر آخر يكمن في المعرفة اللغوية والثقافية، وليس في الشعرية ذاتها».

الحداثة الشعرية

كما فتح أدونيس النار على الشاعر الراحل أحمد شوقي، الملقب بأمير الشعراء، باعتباره كان من أعظم شعراء عصره، إلا أن أدونيس له رأي مخالف، حيث تساءل قائلاً: «في حال وضعنا أحمد شوقي مع الشعراء من أمثال البحتري وأبي تمام والمتنبي، وسألنا عما أضافه أمير الشعراء إلى هؤلاء الذين استعار منهم؟ فإن الجواب أنه لم يضِف شيئاً على الإطلاق».

تناول أدونيس الحداثة الشعرية في الجلسة الحوارية التي اكتظت بالحضور، ثم أردف: «السور القرآنية تبدو كتابياً كأنها حديقة مفتوحة على جميع الجهات»، وأضاف: «يمكن أن نعد السور القرآنية نموذجاً أساسياً لكتابة الشعر نثراً باللغة العربية». ثم اتجه ناحية الحضور قائلاً إن «أعظم ما يمكن أن يقوم به القارئ العربي أن ينقد نفسه، ماذا نقرأ وماذا نكتب».

اختزال القراءة

وفي كلمة «نوبليّة» مطوّلة ألقاها أدونيس قبيل دقائق من إعلان نتائج الفائزين بلقب قارئ العام، استشهد بالآيات القرآنية من سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَان مَا لَم يَعلَم). وأردف بالقول: «هو كلام قرآني يؤكد أن القراءة أن يتعلم الإنسان ما لا يعلم، وهي اكتشاف لما يجهله».

وبعد ما وصفه بالتجربة الحيّة لرجل تجاوز عامه التسعين، يقول أدونيس: «لدى معظم القراء العرب ميل واضح إلى العزوف عن قراءة ما يخالف قناعاتهم، أو يظنون أنهم يخالفونه، وهذا الميل يدفعهم لاختزال القراءة فيما يثبّت ما في أنفسهم ويدفعهم إلى القراءة انطلاقاً من مُسبّقات متنوعة، آيديولوجية وسياسية».

أدونيس الذي قال: «كم هو خطير فعل القراءة، وكم هو خطير أيضاً فعل العزوف عن القراءة»، خاطب الشباب المكتظ في مسرح «إثراء» قائلاً: «أشير إلى أن القراءة هي - بطبيعتها - فعل خلّاق، وإلى أن الكون كتاب يُقرآ بلا نهاية، ويُكتب أيضاً بلا نهاية»، وتابع: «قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت».

هويّة وجودية

وكعادته، هام أدونيس في وجدان الشعر العربي، قائلاً: «الشعر العربي في نشأته قبل الإسلام، هو كينونة أكثر منه ثقافة، إنه جسد آخر للشاعر وحياة ثانية داخل الحياة، هو هويّة وجودية قبل أن يكون هويّة ثقافية». وأردف: «لن نجد شاعراً في معظم اللغات الحيّة يخطئ في لغته التي هي جوهره، كما نجد في لغتنا العربية، وأما الكتب المترجمة، وبخاصة الفلسفية والشعرية، فإن من أكثر الضرورات إلحاحاً أن يُنظر في أمرها على نحوٍ شامل».

هذا الحضور الشعري رافقته نصوص أدبية عميقة ألقاها المتسابقون الخمسة الذين وصلوا إلى نهاية سباق القراءة بعد أشهر طويلة من التنافس والتحضير والإعداد، كما رافق الحفل عذوبة صوت المغنية السورية فايا يونان، التي شدت بأغاني القصائد العربية بطلة ملائكية لافتة، واختتم هذا الحفل المبهر بإعلان النتائج، حيث فاز العراقي زين العابدين المرشدي بجائزة لجنة التحكيم لقارئ العام، فيما فاز المشارك المغربي سفيان البراق بلقب قارئ العام بحسب تجربة الملتقى، واستحوذت السعودية بلقيس الصولان على جائزة الجمهور لاختيار قارئ العام.


هل نضجت الحداثة في الخليج؟

نزار قباني
نزار قباني
TT

هل نضجت الحداثة في الخليج؟

نزار قباني
نزار قباني

استكمالاً لما سبق طرحه حول إشكالية مفهوم الحداثة، الذي شغل المشهد الخليجي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، فإننا نبدأ من حيث انتهينا حول إشكالية دخول الحداثة للمنطقة. كما هو معروف، فإن المنطقة لم تخضع لاستعمار تقليدي من قبل الأوروبيين الذين كانوا ينقلون أدواتهم الحديثة ويجبرون السكان على تبني بعض من أديباتهم. فحتى الحاميات البريطانية في سواحل الخليج لم تكن تتدخل بشكل مباشر في حياة الناس، والأمر نفسه ينطبق على الشركات البريطانية والأميركية التي عملت في المنطقة وعزلت رعايا الدول الغربية عن سكان المنطقة الذين كانوا يحتكون بالأجانب في حدود العمل الضيقة.

إن انتقال المواطن الخليجي للعمل في شركات النفط لم يكن وفق آليات الحداثة الغربية، ولا حتى في الدول التي تأثرت بالنمط الصناعي الغربي كالدول الشرق آسيوية. فكثير من المواطنين الذين عملوا في تلك الشركات احتفظوا بالنمط القروي/ البدوي في حياتهم اليومية لأن أداورهم كانت منحصرة في الأعمال التي تتطلب جهداً جسدياً، تماماً كما كانوا يفعلون في الأعمال التقليدية في مجتمعاتهم، بمعنى أن دخولهم في ثقافة الوظيفة في الشركة تأخر كثيراً عن بداياتهم كعمال. لقد انتقل الخليجي من وظيفة الفلاح/ الراعي الأجير إلى عامل الشركة الأجير. والمقصود بالأجير هنا: الشخص الذي يعمل ساعات طويلة بعائد زهيد بالكاد يكفي حاجته.

تأخرت آثار الثقافة الصناعية في المنطقة حتى زاد عدد المنخرطين في التدريب المهني، مما ساعد في ترقية العمال داخل الشركة، الذي مكّنهم من بناء بيوت الإسمنت، وإرسال أبنائهم للمدارس بشكل منظم بدلاً من أخذهم لسوق العمل في مرحلة مبكرة من حياتهم. وعليه، ازداد عدد الملتحقين بمدارس التعليم العام وانتقل جزء منهم للدراسة في الجامعات، وجاء ذلك نتيجة الثقافة الصناعية التي تذهب لكون الارتقاء في التعليم يعني الارتقاء في السلم الوظيفي، الذي يعني الارتقاء في المستوى الاقتصادي للأسرة بغض النظر عن كونها ليست من الأسر أصحاب الأملاك. هذا النوع من التحول الاقتصادي ذي الأساس الرأسمالي/ الغربي شكّل بيئة خصبة لتلقي الأفكار اليسارية/ الشرقية، وذلك لأن تغير نمط العمل والدخل في الأسرة لم تصاحبه ثقافة رأسمالية متكيّفة مع الثقافة العربية/ الإسلامية. هنا جاءت أفكار اليسار، التي برع الناشطون العرب فيها بتكييف بعض القيم الإسلامية (العدالة الاجتماعية، المساواة بين البشر، التواضع) لتناسب الخطابات الحماسية التي كانت تصل للخليج من محيطه العربي. ولعل الخطأ الأساسي الذي ارتكبه اليسار العربي كان يكمن في دخوله في مواجهة لم تكن بالضرورية مع الدين، مما شكَّل رفضاً له من الحاضنة الاجتماعية في الخليج.

جاءت الطفرة النفطية في نهاية الستينات لترفع من عدد أفراد الطبقتين المتوسطة والثرية، مما أعطى للتعليم والثقافة فرصة كبيرة للازدهار. وكما هو معروف، فإن الأدب هو لُب الثقافة العربية، خصوصاً في مجتمعات كانت القراءة والكتابة فيها متركزة عند فئة طلبة العلوم الدينية الذين كانوا ينظرون للأدب بوصفه معيار الثقافة خارج إطار التخصص الشرعي. لذلك لم يكن مستغرباً أن تزدهر الثقافة الأدبية في الخليج بدخول عدد كبير من الشباب الذين تعلموا في المدارس ولديهم الوقت للمطالعة والنقاش المعرفي. لم يكن يشغل هم الناس وقتها غير الأدب والسياسة، ولأن المجتمعات الخليجية محافظة ومستقرة سياسياً ولا ترحب حكوماتها باليسار الثوري، فقد شكّل الأدب ميداناً للتعبير عن التغيرات الجديدة في المنطقة.

نازك الملائكة

أصبح الأدباء - بشقيهم الإسلامي والمدني - فرسان الساحة الثقافية التي كان منبرها الرئيسي هو الصحافة. ولعل تزامن الصحوة مع عودة عدد كبير من خريجي الجامعات الغربية في مجال الدراسات الأدبية قد لعب دوراً في «علانية» الصراع. لم يكن أساتذة العلوم السياسية والاجتماعية بوارد الدخول في صراع مع الصحويين وذلك لأن عدد الكُتّاب من تلك الخلفيات أقل بكثير من عدد المشتغلين بالأدب. وحتى من كان يكتب في الصحافة منهم، لم يكن يتعاطى مع موضوعات تستفز الصحويين. بالمقابل، فإن الأدباء والنقاد الأدبيين كانوا يتصدرون ساحة التبشير بالحداثة، محتفين بأبرز رموز الشعر الحديث في الوطن العربي.

كان طرح أسماء مثل نزار قباني، ونازك الملائكة، والسيَّاب، والبياتي، وأدونيس كافياً ليثير حفيظة الصحويين الذين أخضعوا شعراء الحداثة لمحاكمات دينية ذات أفق ضيق يختصر قيمة المبدعين في «تصور الصحويين» لعقائدهم. بالمقابل، دافع الأدباء عن «أدبية الأدب» وعدم محاكمة النص الأدبي بناء على قيم غير أدبية، مهما كانت. لن نخوض في تاريخ هذا الصراع، الذي كُتب حوله الكثير، فما يهمنا هنا ما سقط من ذلك الصراع! أي الحداثة نفسها.

نزار قباني - السياب

لم يكن بوارد المتصارعين أن الحداثة تطور ثقافي يجيء نتيجة تطور مادي قائم على الصناعية، وهذا ما لم يكن متجلياً في مجتمعاتنا. لذلك، فقد شُغل المشهد الفكري بالنزاع حول الحداثة في إطار ضيق يتمحور حول الصراع بين شرعية «أدبية الأدب» و «خطورة الأدب على العقيدة». وكأن هذا الصراع يعيد الإشكالية التراثية في النزاع حول المبنى والمعنى.

في الوقت الذي كان الغرب فيه مشغولاً بفلسفة ما بعد الحداثة والاقتصاد بعد الصناعي، انشغل مشهدنا الثقافي باتهام وتبرئة الشعر الحديث من إخلاله بالعقيدة. وحتى من أبدع من فرسان المعركة كان يركّز على الآليات النقدية التي ترفع من مستوى جمالية تلقي النص الأدبي. وهذا أمر طبيعي، كون الفارق الزمني بين التحول من ركوب الدابة إلى السيارة كان قياسياً، وقس على ذلك أموراً مثل الفارق الزمني القصير جداً بين انتشار التلفزيون في البيوت ودخول الفيديو والفضائيات لها. لقد انتقل المواطن من موقع الفلاح/ الراعي إلى الموظف في فترة قياسية جعلته «يحدّث» حياته المادية دون وجود خطاب ثقافي حديث يواكب المرحلة، حيث انشغل ذوو الأقلام في معركة ترف فكري لا تناغم احتياجات المجتمع ولا تسبر أغوار التغيرات التي يمر بها. وعليه، فقد اختلطت مفاهيم الحداثة بما بعد الحداثة، تماماً كما اختلطت مفاهيم الصناعية (التحول للعمل في وظائف الإنتاج بأجور) بما بعد الصناعية (التحول للأعمال الخدمية غير الإنتاجية). حتى على مستوى الدراسات الأدبية، فقد اختلطت البنيوية بالتفكيك عند كثير من طلبة الأدب كونها مفاهيم نقدية أكاديمية دخلت في فترة متزامنة، مقارنة بالمرحلية الفكرية في الغرب.

ختاماً، لقد شكَّل النفط نعمة كبيرة على منطقتنا بأن غيَّر المنظومة الاقتصادية التي أسهمت بشكل كبير في «تحديث» المجتمع. ولكن السرعة المهولة التي نما فيها الاقتصاد كانت أكبر بكثير من أن يستوعبها المجتمع، ولذلك بقيت قيم المحافظة الدينية والقبلية تحكم تصرفات الناس ليبقى الفلاح/ الراعي كما هو وإن حمل أعلى الشهادات. لقد احتاجت تلك التحولات الاقتصادية/ المادية إلى قرارات جريئة تعثرت بمفهوم «خصوصية المجتمع» حتى جاءت «رؤية 2030» لتحرّك المجتمع بسرعة تواكب التطور الاقتصادي. لذلك، فإن الجيل الذي ولد في القرن الحالي لا يشعر بالاغتراب وأزمة الهوية بمستوى جيل آبائه، فهو يعيش حياة متناغمة مع التطور التقني ويعتز بهويته الوطنية التي كانت مُختطفة بشعارات أممية عابرة للحدود ولا تعبر عنه. نحن عرب دون الغرق في مشروع قومي توسعي، ومسلمون دون انجرار لمناطق الصراع تحت ذريعة نصرة الأمة الإسلامية. هي ذي الفترة التي يعيشها هذا الجيل متصالحاً مع ما بعد الحداثة التي لا يشعر أنه تأخر فيها كثيراً.

 


شعراء ونقاد ودبلوماسيون: الاحتفال بنازك هو احتفال باللغة العربية

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته
الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته
TT

شعراء ونقاد ودبلوماسيون: الاحتفال بنازك هو احتفال باللغة العربية

الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته
الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يلقي كلمته

دعا شعراء ونقاد ومبدعون مصريون وعرب للاحتفاء بمنجز الشاعرة العراقية نازك الملائكة من خلال دراسة أعمالها والاهتمام بها ونشرها، وإبراز مكانتها في الشعر العربي الحديث. وقال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في احتفالية أقامها أول من أمس «بيت الشعر» العربي بالقاهرة بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد الملائكة إنها تستحق تقديراً في كل العواصم العربية يليق بإبداعاتها.

وتحدث حجازي عن البيئة التي نشأت فيها الشاعرة العراقية، مشيراً إلى أنها كانت تنتمي لعائلة شعرية، يكتب كل أفرادها الشعر، وهو ما يشير إلى أن قرابة الدم بالنسبة لها كانت هي نفسها قرابة الشعر، وقد كان جدها لأمها وأبوها واثنان من أخوالها يكتبون الشعر، ولم يكن عجيباً من خلال هذه النشأة أن تبدأ نازك الملائكة كتابة الشعر وهي في سن مبكرة جداً، وقد نظمت أولى قصائدها وهي في العاشرة من عمرها، وقد ظلت على اهتمامها بنظم الشعر حتى أصبح شاغلها الأساسي وهي في الثامنة عشرة من عمرها.

وذكر حجازي أن الملائكة التي توفيت في 20 يونيو (حزيران) 2007 في القاهرة عن عمر ناهز 83 عاماً ارتبطت بعلاقة وثيقة بمصر وثقافتها، وقد تواصلت هذه العلاقة حتى رحيلها، مشيراً إلى أن الاحتفال بها يعني في صميمه الاحتفال باللغة العربية، «ونحن نحتفل بمن مضى ومن يأتون، نازك جمعتنا جميعاً».

ولم يقتصر الاحتفال بمئوية الملائكة على المبدعين فقط، لكن كان هناك حضور دبلوماسي لافت تمثل في السفير العراقي بالقاهرة الدكتور أحمد نايف رشيد الدليمي، ومندوب بغداد الدائم لدى جامعة الدول العربية، الذي قال إن نازك الملائكة رمز للشعر الحر، واحتفاء مصر بها يدل على عمق العلاقات التاريخية التي تربط العراق ومصر على كافة المستويات وعلى رأسها الجانب الثقافي.

وقال الديلمي إن القيادة العراقية تولي اهتماماً خاصاً بالرموز الأدبية والثقافية، عرفاناً منها لمنزلتهم الكبيرة وتأثيرهم في الوعي الحضاري العراقي والعربي، وقد جرى احتفال رسمي بمئويتها، وتخصيص يوم لها لتعريف الجيل الجديد بإسهاماتها البارزة في الثقافتين العربية والعراقية.

جانب من الاحتفالية

احتفاء بيت الشعر بمئوية نازك الملائكة الذي حضره نجلها الدكتور البرّاق عبد الهادي، وشقيقتها ميسون الملائكة، يأتي في إطار الاحتفال باليوم العربي للشعر الذي أقرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وقد تضمن قراءات شعرية لبعض قصائد نازك الملائكة قدمها شعراء من مصر وسوريا والعراق والجزائر، فضلاً على شهادات شخصية ونقدية حولها تركزت على دورها الريادي في حركة الشعر الحديث والسياقات التي أفرزت هذه الحركة وروادها.

وفي هذا السياق تحدث الباحث والناقد الدكتور حسين هنداوى الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية عن مسيرة نازك الملائكة الشعرية مشيراً إلى أنها تعد رمزاً من رموز الشعر العربي، وقد جعلها عطاؤها الشعري لا سيما في فترتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي من أبرز الأصوات الشعرية التي أثّرت في الشعر العربي الحديث، وهي لم تكن شاعرة مبدعة فقط إنما كانت كاتبة وناقدة واسعة الثقافة حاولت أن تجمع بين الفكر والفن.

وقال الناقد العراقي عبد الرحمن عبد الوهاب في كلمته إن نازك الملائكة «تميزت بأسلوب خاص في كتابة القصيدة، وقدمت إسهاماً عظيماً للشعر العربي، وسوف تظل مسيرتها مصدر إلهام للأجيال الجديدة من الشعراء والأدباء، تذكرهم دائماً بأن للشعر العربي تراثاً ثرياً ومتنوعاً تجب المحافظة عليه وتطويره».

ومن جهته، وصف الشاعر سامح محجوب مدير بيت الشعر نازك الملائكة بأنها «التحويلة الفنية القوية والدقيقة جداً في مسيرة القصيدة العربية الطويلة، من الجماعة للذات، ومن الموضوع للتجربة، ومن القصيدة للنص، من البارودي وشوقي القابضين على المقولات الكبرى للقصيدة العربية، إلى نازك الملائكة ومعاصريها أبناء عصر سقوط تلك المقولات الكبرى؛ ذلك الجيل الذي نظر بداخله ملياً ليكتب العالم من خلال ذاته، بطريقته التي تعكس روحه وروح عصره».

يذكر أن نازك الملائكة وُلدت في بغداد عام 1923، وحصلت على شهادة دار المعلمين العالية عام 1944. مثلما حصلت على شهادة معهد الفنون الجميلة عام 1949، وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن - ماديسون في أميركا، وقامت بالتدريس في جامعات بغداد، والبصرة، والكويت.

ومن المعروف أن نازك الملائكة اختارت مصر منذ عام 1990 لتعيش فيها في عزلة اختيارية، وتوفيت عام 2007 عن عمر يناهز 83 عاماً، ودفنت في مقبرة خاصة بالعائلة غرب القاهرة.

نشرت الملائكة ثماني إصدارات شعرية من بينها «عاشقة الليل» عام 1947، وهو أول دواوينها، بعده توالت دواوينها: «شظايا ورماد» عام 1949، «قرارة الموجة» عام 1957، «شجرة القمر» عام 1968، «ويغير ألوانه البحر» عام 1977، «مأساة الحياة وأغنية الإنسان» عام 1977، و«الصلاة والثورة» عام 1978.

ومن مؤلفاتها النقدية «قضايا الشعر الحديث» (1962) و«التجزيئية في المجتمع العربي» (1974) و«سيكولوجية الشعر» (1992) و«الصومعة والشرفة الحمراء» (1965)، فضلاً على مجموعة قصصية صدرت في القاهرة بعنوان «الشمس التي وراء القمة» (1997).

حقائق


حفلة «أمفار» على هامش مهرجان كان جمعت 16 مليون يورو لمكافحة الإيدز

الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)
الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)
TT

حفلة «أمفار» على هامش مهرجان كان جمعت 16 مليون يورو لمكافحة الإيدز

الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)
الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) (أ.ف.ب)

أسفرت الحفلة الخيرية للجمعية الأميركية لمكافحة الإيدز (أمفار) التي أقيمت الخميس في أنتيب بجنوب فرنسا على هامش مهرجان كان السينمائي، كما درجت العادة منذ عشرات السنوات وشارك فيها الممثل ليوناردو دي كابريو، عن جمع نحو 16 مليون يورو (17.17 مليون دولار).

وبيعت في المزاد الذي أقيم خلال الأمسية لوحة لداميان هيرست تمثّل دي كابريو لقاء 1.2 مليون يورو. وبلغت الحصيلة الإجمالية للمزاد 7.4 مليون يورو (نحو 8 ملايين دولار)، وفقا لوكالة الصحافة الفرنسية.

وبيع أيضاً موديل جديد من سيارة «أستون مارتن» البريطانية الفارهة لقاء مليون ونصف مليون يورو، في حين بيعت مجموعة تصاميم أزياء لفيفيين وستوود وجيفنشي وبالماين وأرماني وسواهم في مقابل نصف مليون يورو.

وشارك في الحفلة التي تولت تقديمها مغنية الراب كوين لطيفة مئات المدعوين، من بينهم الممثلة إيفا لونغوريا والعارضات هايدي كلوم وهيلينا كريستنسن وأليساندرا أمبروزيو، ونجمة شبكات التواصل الاجتماعي جورجينا رودريغز.

ودرجت «أمفار» التي تعدّ أهم جمعية خاصة لمكافحة الإيدز وأسستها إليزابيث تايلور في الثمانينات على تنظيم حفلتها سنوياً في كاب دانتيب على هامش مهرجان كان. وتجاوزت حصيلة الأمسية العام الفائت 17.7 مليون يورو (نحو 19 مليون دولار).

كذلك شمل المزاد أعمالاً فنية أخرى، من بينها لوحة لروبرت دي نيرو الأب، والد النجم الأميركي، إضافة إلى صور لعارضات أزياء.

كذلك خُصصت تحية من النجوم لأسطورة موسيقى البوب الراحلة تينا ترنر التي توفيت الأربعاء عن 83 عاماً.

وقالت كوين لطيفة لوسائل الإعلام «لقد أعطتنا كل ما يمكن أن نتمناه وأكثر، وعلينا بكل بساطة الاحتفاء بها (...) ومواصلة تقديم الحب والنور اللذين قدمتهما».


«هيراكليس الفاو» يجسد الجمالية الإغريقية ويختزلها

هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت
هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت
TT

«هيراكليس الفاو» يجسد الجمالية الإغريقية ويختزلها

هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت
هيراكليس في تمثال من قرية الفاو محفوظ في متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض ت

تشهد التحف الأثرية التي عُثر عليها في قرية الفاو لتعدّدية مدهشة في الأساليب الفنية المتبعة، قلّما نجد ما يماثلها في المواقع الأثرية الأخرى في شبه الجزيرة العربية. من هذه القرية التي كانت في الماضي عاصمة مملكة كندة الأولى في نجد، خرجت مجموعة صغيرة من التماثيل البرونزية تتميّز بطابعها اليوناني الصرف، منها تمثال يمثّل هيراكليس، البطل الإغريقي الذي بلغت شهرته الشرق في القرون الميلادية الأولى.

طول هذا التمثال 25 سنتمتراً، وهو منجز بحرفية عاليّة، ويماثل بأسلوبه المتقن الأنصاب الكلاسيكية الكبيرة. برز هذا الأسلوب في العالم الإغريقي، وبلغ القمة في إقليم أتيكا التاريخي، وانتقل منها إلى روما، غير أنه تراجع في العصر المسيحي بشكل كبير، وذلك بالتزامن مع ظهور جمالية جديدة مغايرة تماماً، سادت على مدى قرون من الزمن، ثم تهاوت في «عصر النهضة» الذي شكّل «ولادة جديدة» للجمالية الإغريقية الكلاسيكية، تلك الجمالية التي تقوم على محاكاة الواقع الملموس وتجسيمه في أدقّ تفاصيله.

في إقليم أتيكا التاريخي، تكوّن النحت الكلاسيكي وسطع، ومعه أضحى الجسد البشري أساس العمل الفنّي ومحوره. المثال هنا هو الجسد الحي السليم من كل عيب، والفنان مدعو إلى إظهار كل جارحة من جوارحه. ابتعد الفنانون عن قاعدة الجماد والثبات التي سادت فنون الشرق القديم، ودخلوا في ميدان الحركة الحية. نحت المثّال الإغريقي الإنسان في صورته المتحركة، مظهراً كل حركة من حركات الجسد المرن، معلناً «أنسنة» الفن، بمعزل عن موضوعه «الديني». هكذا حضر المعبودون على صورة البشر، وبدوا في تماثيلهم في أحلى صورهم وأكثرها حسناً وفتنةً.

يمثّل «هيراكليس الفاو» هذه الجمالية ويختزلها بشكل ساطع. هو ابن زيوس، كبير معبودي الإغريق وسيّدهم، وألكميني، ابنة آلکترويون ملك مدينة موكناي، وزوجة أمفيتيريون، ابن ألكايوس ملك مدينة تيرنس. حسب الرواية المتوارثة، هام زيوس بألكميني، فتجسّد على هيئة زوجها، وعاشرها على مدى ثلاث ليال، فأنجبت منه هيراكليس، ومعنى اسمه «قوّة هيرا»، وهيرا هي أشهر زوجات زيوس، وهي من كبار المعبودين، وقد عُرفت بغيرتها وبأسها، وقد صبّت هذه الغيرة على هرقل، فدفعته إلى قتل أبنائه وهو لا يدري، وعندما استفاق، هاله ما اقترفه، فطلب التكفير عن ذنبه، فحكم عليه بالدخول في خدمة ابن عمه يورسثيوس، ملك أرجوس، وأن يقوم بالواجبات التي يطلبها منه، فطلب منه يورسثيوس أن ينجز 12 عملاً مستحيلاً، أوّلها القضاء على أسد خارق في مدينة نيميا، التي تقع في مقاطعة كورنثيا. انطلق هيراكليس إلى نيميا، وأخذ يبحث في أرجائها، إلى أن وجد ذلك الضرغام، ودخل في عراك مع هذا الوحش الذي لا يخترق جلده سيف ولا سهم، ولا تفلح ضربات الهراوة ضده، وتمكّن من خنقه، ثم سلخ جلده ولبسه.

يمثّل تمثال الفاو هيراكليس واقفاً، مع انحناءة بسيطة من قدمه اليسرى. جسده عار، ومفاصله التشريحية منجزة بحرفية عالية. يمدّ البطل يده اليمنى إلى الأمام، ويحمل بيده اليسرى هراوته ملقياً بها على كتفه، وهي الهراوة التي صنعها بنفسه من شجرة زيتون اقتلعها في جبل الهيليكون، قبل أن يبلغ نيميا، كما روى ثيوقريطس. فوق معصم اليد اليسرى، يتدلّى جلد أسد نيميا. فنّياً، يتبنّى هذا التمثال النموذج المتداول الذي شاع في سائر أقاليم العالم الروماني، حيث يحضر البطل الجبّار حاملاً الهراوة وجلد الأسد. يحني هيراكليس الفاو رأسه انحناءة خفيفة، ويتطلّع نحو اليسار، وتتميّز عيناه بطلاء زجاجي لمّاع يحدّد المقلة البيضاء والبؤبؤ الأسود. شعره جَعْد، وكذلك ذقنه الطويلة التي تحجب رقبته، وهامته متوّجة بإكليل الدالية.

دخل هيراكليس العالم السوري في الحقبة الرومانية، كما تشهد صوره المنقوشة العديدة في تدمر ودورا أوروبوس. ظهر البطل في هذه الصور حاملاً الهراوة وجلد الأسد في قوالب محلّية تميّزت بطابع تحويري «شرقي» يشكّل نقيضاً للطابع الروماني الكلاسيكي. في الجانب العراقي، عظم شأن هيراكليس في مملكة الحضر التي تقع في الجزيرة الفراتية، على بعد 110 كيلومترات من مدينة الموصل في اتجاه الجنوب، وتعدّدت صوره المنقوشة في هذه المملكة بشكل كبير، وغلب عليها الطابع «الشرقي»، كما في تدمر ودورا أوروبوس.

يحتفظ متحف بغداد بتمثال برونزي لهيراكليس يخرج عن هذا السياق، وهو تمثال من الحجم المتوسّط، طوله 85 سنتمتراً، ويتفرّد بأسلوبه الكلاسيكي الذي يماثل أسلوب تمثال الفاو. عُثر على هذا التمثال في سلوقية، المدينة التاريخية التي أسّسها القائد المقدوني سلوقس الأول على ضفة نهر دجلة، وجعل منها عاصمة للإمبراطورية السلوقية. استولى الإيرانيون الفرثيون على هذه المدينة، وأطاحوا المقدونيين، وحملوا لاحقاً هذا التمثال، كما تؤكّد الكتابة المحفورة على أعلى ساقيه، وهي كتابة يونانية على الساق اليمنى، وأرامية وباللغة الفرثية على الساق اليسرى، وتقول بأن الملك فولوغاس الرابع (بَلاش جهارم) حمل هذا التمثال في منتصف القرن الثاني من معبد يعود إلى مثروديطوس، في ميسان، على رأس الخليج.

في شبه الجزيرة العربية، يغيب هيراكليس بشكل كامل، ولا يظهر إلا بشكل استثنائي كما يبدو. يتجلى البطل الإغريقي بشكل مبسّط على نصب جنائزي مرمري محفوظ في متحف مدينة عنق، وهو من نتاج القرن الرابع، مصدره شبوة، عاصمة مملكة حضر موت القديمة. ويشكّل هذا الظهور حالة نادرة، إذ لا نرى ما يماثله في آثار اليمن المتعدّدة. في الأراضي السعودية، ينحصر ظهور هيراكليس في تمثال الفاو، ضمن مجموعة صغيرة من التماثيل البرونزية تعود إلى القرون الميلادية الأولى، وتتميّز بأسلوبها الكلاسيكي الصرف كما أشرنا.

يحضر هيراكليس شبوة في صورة مبسّطة شبه بدائية، ويحضر هيراكليس الفاو في صورة واقعية مجسّمة، ويماثل في حضوره هيراكليس سلوقية الذي يتميّز مثله بعينين زجاجيتين لمّاعتين.


مي زيادة وجبران: الحب كالكتابة لا يزهر إلا في تربة الغياب

مي زيادة وجبران
مي زيادة وجبران
TT

مي زيادة وجبران: الحب كالكتابة لا يزهر إلا في تربة الغياب

مي زيادة وجبران
مي زيادة وجبران

قد تكون العلاقة التي جمعت بين مي زيادة وجبران خليل جبران، واحدة من أغرب العلاقات العاطفية التي ربطت بين كاتبين، وأكثرها التباساً ومحلاً للجدل والقراءات المختلفة. إذ ندر أن شهد التاريخ المديد للعشق، علاقة عاطفية بين طرفين اقتصرت تعبيراتها على تبادل الرسائل لفترة تقارب العقدين من الزمن، دون أن يعمد أي منهما إلى هدم العائق الجغرافي والتقدم بوصة واحدة باتجاه الآخر. لكن هذه الغرابة بالذات، هي التي جعلت منهما محل متابعة العشرات من النقاد والباحثين، بحيث وُضعت حولهما عشرات الكتب والأطروحات، ولم تُترك نأمة صغيرة من حياتيهما إلا وتمت متابعتها بالتفصيل.

وإذا كان جبران مديناً فيما حققه من مكانة وحضور إبداعيين، لأمه كاملة رحمة التي اتخذت قرارها الشجاع بترك الأب المتسلط والمدمن على الخمرة وحيداً في بشري، والهجرة مع أولادها الأربعة بطرس وجبران وسلطانة ومريانا إلى أميركا، فهو لا يخفي الدور الموازي الذي لعبته نساء أخريات في حياته القصيرة الحافلة، حيث ورد في إحدى رسائله إلى مي زيادة «أنا مدين بكل ما هو أنا للمرأة، منذ كنت طفلاً وحتى الساعة. المرأة هي من فتحت النوافذ في بصري والأبواب في روحي. ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة، لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذين يشوشون سكينة العالم بغطيطهم».

إلا أن المتتبع لحياة جبران العاطفية لا بد أن يلاحظ أنه إزاء شخصين متغايرين تماماً، أحدهما يصوب باتجاه الجسد الغرائزي، والآخر باتجاه الروح والتوهج المثالي للأنوثة الكونية. وإذ يكشف ميخائيل نعيمة في كتابه عن جبران، أن هذا الأخير أقام في مراهقته علاقة جسدية محمومة مع امرأة أميركية متزوجة من تاجر جلود، كانت تتردد عليه ليرسمها، فإن نعيمة يسرد الحدث بأسلوب من الغمز المشوب بالإدانة المبطنة، علماً بأن الإنسان في الصبا لا يأبه بالمعايير الأخلاقية السائدة، بل بتحقيق ذاته وإثبات هويته الذكورية.

وكما يظهر جبران في صورة أخرى مناقضة من خلال العلاقة الرومانسية الحالمة التي أقامها أثناء إقامته في بيروت مع حلا الضاهر، التي أطلق عليها في «الأجنحة المتكسرة» اسم سلمى كرامة، ما يلبث أن يقع فريسة شغفه المشبوب بالأميركية ميشلين ذات الجمال المغوي، التي عرفته بها ماري هاسكل، قبل أن تصل علاقتهما إلى طريق مسدود، ليس فقط لأن جبران لم يرغب في الزواج منها، بل لأنه لم يكن قادراً على خيانة هاسكل، التي لم يكن من دون رعايتها ودعمها ليقف على قدميه. أما علاقته بماري فتتخذ طابعاً ملغزاً وشديد الإبهام. ففي حين يرى البعض أن جبران قد وجد في ماري، التي تكبره بعشر سنوات، أمه الرمزية البديلة، يبدو جبران في قرارته وكأنه منشطر نصفياً بين إبقاء ماري، ذات الجمال المتواضع، في خانة الصداقة والحدب الإنسانيين، وبين الزواج منها بدافع تأنيب الضمير أو التعبير عن الامتنان.

وسط البلبلة العاطفية التي عاشها جبران في فترة شبابه، كان يمكن للرسالة التي وصلته من مي زيادة عام 1912، والتي تعرب فيها عن إعجابها الشديد بقصته «مرتا البانية»، أن تكون حدثاً عابراً في حياته، كما في حياة الكاتبة اللبنانية التي تشاء المفارقات أن تدين انطلاقتها الفعلية في عالم الأدب لجبران نفسه، حيث تسبب إلقاؤها المميز لكلمته في حفل تكريم خليل مطران عام 1913، في لفت أنظار الوسط الثقافي المصري إلى نبرتها الواثقة وحضورها الآسر. فما الذي دفع الطرفين إلى الدخول في مغامرة عاطفية نظرية استمرت عقدين من الزمن، في حين كانت نساء عديدات تتنافسن على قلب جبران، وكان عشرات الكتاب المصريين والعرب يتسابقون بالمقابل للوصول إلى صالون مي الأدبي، وإلى قلبها فيما بعد؟

والواقع أن مثل هذا السؤال لم يكن ليغيب عن بال الكتاب والباحثين، الذين عاينوا العلاقة عن كثب، أو قاربوها من موقع الدرس والتمحيص والتحليل النفسي، وبينهم ميخائيل نعيمة الذي يمر بشكل عارض على الرسالة التي وصلت جبران من فتاة شرقية لم يسمّها، متحدثاً عن شعور صديقه بالزهو والغبطة إثر قراءة الرسالة، وملمحاً إلى أن جبران لم يشأ اللقاء بالفتاة، تجنباً «لإفساد ما تبقى من براءته، أو الابتلاء بالمزيد من التجارب».

وإذ يُفترض بالرسائل التي تبادلها الطرفان أن تكون المرجع الأهم في تبيان حقيقة العلاقة وطبيعتها، فإن هذه الرسائل تندرج في خانتين اثنتين، فكرية وعاطفية، مع الإشارة إلى اتسام الأولى بالجرأة النقدية والغنى المعرفي، فيما تدرجت الثانية من البوح الخفر والموارب، إلى الاعتراف بالحب والمكاشفة العاطفية الصريحة. وحيث تعمد مي إلى امتداح السرد الجبراني في «الأجنحة المتكسرة»، إلا أنها تبدي تحفظها على موقفه السلبي من الزواج، وعلى تسويغه للخيانة حتى ولو كان الحب دافعها الوحيد. وفي «دمعة وابتسامة» تأخذ مي عليه «لهجته المضطربة وأفكاره الصبيانية». وإذ تمتدح كتابيه «المواكب» و«المجنون»، لا تتوانى رغم إعجابها بالكتابين عن القول: «في كلا الكتابين أكاد أتبين تأثير نيتشه، وإن كانت بسمة التهكم الفني الدقيق التي نراها عند جبران لن تشبه أبداً ضحكة نيتشه ذات الجلبة الضخمة المزعجة». والأرجح أن تعلق جبران العاطفي بمي، هو الذي دفعه إلى أن يتقبل برحابة صدر «حديثها العلوي المتراوح بين العذوبة والتعنيف». إلا أن جبران، من جهة ثانية، لم يتردد في مكاشفة مي بما يرى فيه تعزيزاً لدورها ومكانتها الأدبيين، فيحثها على استثمار مواهبها في ما هو أبعد من النقد الأدبي والاجتماعي، قائلاً لها: «أو ليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين؟ ألا ترين أن نظم قصيدة أو نثرها، أفضل من رسالة في الشعر والشعراء؟».

أما الجانب العاطفي من العلاقة فهو يبدو، رغم تطوره المطرد من الصداقة الفكرية باتجاه الحب، أقرب إلى ما أطلق عليه جبران اسم «النشيد الغنائي» أو «إنشاد المنادى»، بتعبير هايدغر، أو مناجاة المثال الأفلاطوني الموزع بين المطلقيْن الأنثوي والذكوري. ففي حين يكتب جبران لمي «أستعطفك أن تكتبي إليّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر»، تكتب له من جهتها «لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من أنت وأين أنت. وكثيراً ما أنسى أن هناك رجلاً أخاطبه، فأكلمك كما أكلم نفسي».

اللافت في الأمر أن رد فعل مي على عرض جبران الزواج منها، لم يختلف كثيراً عن رد فعل ماري هاسكل، حيث نظرت المرأتان إلى العرض بوصفه مجاملة أخلاقية فرضتها علاقته الوثيقة بكل منهما. ومع أن زيادة لم تقدم على الزواج من رجل آخر، كما فعلت ماري، إلا أنها كتبت له رداً على عرضه: «لقد تكاتبنا كصديقين مفكرين، ولو كنت سعيداً بالصداقة مثلي لما كنت رميت إلى أبعد من ذلك». إلا أنها ما تلبث أن تكتب لاسترضائه عام 1921: «أريد أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضاً». ثم تخلع عنها بعد ذلك رداء الخفر لتخاطب جبران بقولها: «ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إنني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أنتظر الحب كثيراً، وأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر».

ومع ذلك فإن جبران الذي وعد مي بأن يزورها في القاهرة، أو يلتقي بها في أوروبا، لم يفِ بوعوده أبداً، بما جعل منسوب الرسائل بينهما يتضاءل بشكل تدريجي. والأرجح أن خيبة مي من جبران قد أسهمت في توطيد علاقتها بالعقاد، كما يكشف خالد غازي في كتابه «جنون امرأة»، مستشهداً بقولها لهذا الأخير: «إن ما تشعر به هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك». وإذ تخاطبه بمكر أنثوي لافت: «الآن عرفت لماذا لا تميل إلى جبران»، تضيف قائلة: «لا تحسب أني أتهمك بالغيرة من جبران، فهو في نيويورك لم يرني ولعله لن يراني، كما أنني لم أره إلا في الصور».

والأرجح أن كلاً من جبران ومي لم يكن يرغب في عمقه بلقاء الآخر أو الارتباط به، لأن ذينك اللقاء والارتباط كانا سيسقطان العلاقة من سدة الحلم إلى رتابة الواقع وسقمه وفساده. وكان لا بد من أن تحول قارات ومحيطات شاسعة دون عناقهما المباشر، لكي يتكفل المتخيل بالأمر، وتقوم اللغة مقام الذراعين. والأنفاس المحمومة ونبض القلب. ولعل المآل المأساوي لمصيريهما المتباعدين، هو الذي وفر لحبهما «الافتراضي» ما يلزمه من عناصر الأسطورة. فمع رحيل جبران المبكر بفعل تفاقم أمراضه، كان جسد مي النضر وعقلها المستنير يترنحان تحت مطرقة الزمن القاسي وغدر الأقارب وتخلي الأصدقاء. وحيث كان الكثيرون يرون في مي صورة المرأة الحالمة ذات الشفافية المفرطة والذكاء المتوقد، ظلت صورة جبران مثاراً للجدل والتباين والتأويلات المختلفة. وحدها الشاعرة الأميركية باربارا يونغ، رفيقة سنواته الأخيرة، ألحت على تنزيهه عن كل دنس وإلحاقه بمصاف الأولياء والقديسين، هاتفةً بعد رحيله بمحبيه الكثر:

الشاعر ينام، لكنه لا ينام

بل خرج يمشي في الفضاء

ويركض في الريح

لا تُسمّوا احتضاراً عناقه الغمامة

لا تُسموا موتاً ذهابه الى الشمس

ها هو، قاصداً نجمة الصبح

يرسم الأثير شموساً وأقماراً

ويبلغ بيته هناك، في قلب العاصفة


اكتشاف أقدم مخططات هندسية في العالم لمصائد في الأردن والسعودية

من النقوش الهندسية الأثرية المكتشفة بالقرب من سكاكا بالسعودية (أ.ف.ب)
من النقوش الهندسية الأثرية المكتشفة بالقرب من سكاكا بالسعودية (أ.ف.ب)
TT

اكتشاف أقدم مخططات هندسية في العالم لمصائد في الأردن والسعودية

من النقوش الهندسية الأثرية المكتشفة بالقرب من سكاكا بالسعودية (أ.ف.ب)
من النقوش الهندسية الأثرية المكتشفة بالقرب من سكاكا بالسعودية (أ.ف.ب)

اكتشفت مجموعة من علماء الآثار نقوشاً حجرية تُعدّ أقدم مخططات هندسية معروفة حتى الآن؛ إذ يعود تاريخها إلى تسعة آلاف سنة، تمثل هيكليات مبنية شاسعة مخصصة للصيد في مناطق باتت اليوم مساحات صحراوية في السعودية والأردن، حسبما أفادت وكالة الصحافة الفرنسية.

وكان طيارون في عشرينات القرن الفائت أول مكتشفي هذه المصائد، وأطلقوا عليها تسمية «الطائرات الورقية الصحراوية» بسبب الشكل الذي تبدو عليه من الجو.

ويوضح عالم الآثار ورسام الخرائط في مختبر «أركيه أوريان» التابع لجامعة ليون2، أوليفييه بارج، هذه المصائد بأنها «مساحات كبيرة تحدّها جدران طويلة تمتد على كيلومترات عدة» وتشبه ذيل الطائرة الورقية. وبمجرد أن يضيق عرض هذه الممرات إلى نحو عشرين متراً، تنفتح «على مساحة مغلقة تبلغ مساحتها حوالي هكتار واحد تضم حفراً يبلغ عمقها أمتاراً عدة»،

ويقول المشارك في إعداد الدراسة التي نُشرت هذا الشهر في مجلة «بروسيدينغز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينسس» الأميركية، إنّ هذه الهيكليات شكّلت «تقنية صيد متطورة»؛ إذ كانت تُجمع الحيوانات، ومنها الغزلان، في هذه المصائد، قبل وضعها في الحفر لنحرها.

وتمكّن مشروع «غلوبل كايتس» الذي ينظمه مختبره، من إحصاء ستة آلاف هيكلية مماثلة حتى اليوم، من كازاخستان إلى الأردن.

وفي العام 2015، توصّلت مجموعة من علماء الآثار التابعين لمختبر «أركيه أوريان» إلى اكتشافين يصفهما أوليفييه بارج بـ«الاستثنائيين» في جبال الخشّابية في الأردن، وفي صحراء النفود الكبير التي تقع في المملكة العربية السعودية وتبعد عن الموقع الأوّل نحو 250 كيلومتراً شرقاً.

واكتُشفت في الأردن لوحة حجرية من الكلس لونها بني فاتح ويبلغ ارتفاعها نحو متر، بينما اكتُشفت في شبه الجزيرة العربية كتلة ضخمة من الحجر الرملي الأسود، وعلى كليهما مخططات محفورة ومُفصّلة لـ«طائرات ورقية صحراوية» من قرب. وليست هذه المخططات مجرد رسم تخطيطي بسيط، بحسب عالم الآثار في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والمشارك في إعداد الدراسة وائل أبو عزيزة.

«إدراك تفاصيل عن المساحات»

ويضيف العالِم أنّ «من الصعب استرجاع مخططات الطائرات الورقية الصحراوية بدقة كما هي الحال هنا» من دون الاستعانة بتقنيات حديثة؛ لأنّ رسم مخطط قديم يعني إتقان أحجام العناصر الموجودة فيه ومعرفة مقاساتها الدقيقة. إلا أنّ التحدي يتمثل هنا في أنّ ما نتعامل معه هو منشآت لا يمكن فهم شكلها الكامل من دون رؤيتها من الجو».

ويقول أوليفييه بارج إن «الطريقة التي وضعت بها هذه المخططات» غير معروفة، لكنّ الدراسة تلاحظ أنها تُظهر أن السكان في تلك الحقبة كانوا يتمتعون «بقدرة ذهنية لم تكن متوقعة على تصور المساحات».

من النقوش المكتشفة قرب سكاكا في السعودية (أ.ف.ب)

ويضيف أنّ الفرضية التي كانت سائدة حتى اليوم هي أنّ فن رسم الخرائط وُلد في مرحلة لاحقة وضمن «ثقافة يتقن أصحابها الكتابة وحفظ السجلات، على غرار ثقافة بلاد ما بين النهرين التي تعود إلى خمسة آلاف سنة، أو تلك الخاصة بالعصر البرونزي في أوروبا قبل أربعة آلاف عام مع خريطة سان بيليك في بريتاني».

ويدفع ما اكتُشف في السعودية والأردن إلى إعادة النظر في هذه الفرضية؛ إذ أقيمت الهيكليات في تضاريس معقدة، من دون اعتماد مخطط رئيسي يُنفَّذ على الأرض.

وكان هذا المخطط الهندسي يتيح «نقل المعلومات ومشاركتها بين أشخاص عدة بهدف تنظيم عمليات صيد الحيوانات»، وفق أبو عزيزة الذي يعتبر أنّ هذه الفرضية هي «الأكثر احتمالاً».

ويضاف إلى ذلك بُعد ثقافي تحظى به المخططات التي باتت مؤشراً على إتقان السكان آنذاك التعامل مع المساحات وتقنية صيد معينة، من خلال أفخاخ صمموها بمهارة مستندين إلى السمات الخاصة بالأرض في تلك المناطق.


القاسمي: أستلهم البيئة العُمانية

زهران القاسمي
زهران القاسمي
TT

القاسمي: أستلهم البيئة العُمانية

زهران القاسمي
زهران القاسمي

فازت رواية «تغريبة القافر» للكاتب العماني زهران القاسمي بجائزة «بوكر» للرواية العربية التي أُعلنت في أبوظبي، أول من أمس. واختارت لجنة التحكيم هذه الرواية لكونها اهتمت «بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة». وفي الحوار الذي تنشره «الشرق الأوسط» معه، يؤكد القاسمي أنَّ كل رواياته تستلهم البيئة العمانية، «وهذه هي مهمة الروائي؛ أن يغوص في أعماق تراث بلده، ويستخرج ما هو خافٍ».

ولكن لماذا هذا العنوان الغامض بعض الشيء، «تغريبة القافر»؟ يعترف القاسمي بأنَّه كان محتاراً في تسمية الرواية إلى أن استقر على هذا العنوان.

والقافر هو مقتفي أثر الماء، الذي تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية. وتقع أحداث الرواية في عالم الأفلاج، النظام الفلاحي لريّ البساتين، المرتبط بالحياة القروية في عُمان ارتباطاً وثيقاً، والذي دارت حوله الحكايات والأساطير. هذه الشخصية، كما يقول، عاشت تجربة مريرة، وقاست كثيراً، لذلك ربطها بالتغريبة، لأن فئة كبيرة تعمل في مجال الأفلاج. وكان في ذهنه «تغريبة بني هلال» و«التغريبة الفلسطينية» كما كتبها إبراهيم نصر الله.


زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق

زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق
TT

زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق

زهران القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: في عُمان حُمى كتابة الرواية... لكننا نفتقر للتسويق

زهران القاسمي، روائي عُماني شاب جاء من الشعر إلى الرواية، حاملاً تراث بلده بكل ما فيه من أساطير وحكم ومغامرات ليضعها في روايته الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) «تغريبة القافر»... بعد عشرة دواوين شعرية كتب رواياته «جبل الشوع» (2013)، و«القنّاص» (2014)، و«جوع العسل»، و«سيرة الحجر 1» (قصص قصيرة، 2009)، و«سيرة الحجر 2» (نصوص، 2011)، وهو أول روائي عُماني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية.

تدور أحداث الرواية في إحدى القرى العُمانية، وتحكي قصة سالم بن عبد الله، أحد مقتفي أثر الماء، تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية. تقع أحداث الرواية في عالم الأفلاج؛ النظام الفلاحي لريّ البساتين، المرتبط بالحياة القروية في عُمان ارتباطاً وثيقاً، والذي دارت حوله الحكايات والأساطير. ويطرح الكاتب سؤالاً مهماً على القارئ: ماذا لو أن هذه المادة التي تمنح الحياة للكائنات هي مصدر لموتها أيضاً من خلال ندرتها أو فيضانها؟

ارتبطت حياة «القافر» منذ ولادته بالماء، فأمّه ماتت غرقاً، ووالده طُمر تحت قناة أحد الأفلاج حيث انهار عليه السقف، وينتهي «القافر» سجيناً في قناة أحد الأفلاج ليبقى هناك يقاوم للبقاء حياً.

قال عنها رئيس لجنة التحكيم، محمد الأشعري: «اختارت لجنة التحكيم رواية (تغريبة القافر) لزهران القاسمي؛ لكونها اهتمت بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة، وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة. وقد قدّم الكاتب لنا هذا الموضوع من خلال تآلف مستمر بين الواقع والأسطورة، ويفعل ذلك من خلال بناء روائي محكم ولغة شعرية شفافة، ومن خلال نحت شخصيات مثيرة تحتل دوراً أساسياً في حياة الناس، وفي الوقت نفسخ تثير نفورهم وتخوّفَهم. وقد استطاع الكاتب أن يقرّبنا من مسرح غير مألوف للرواية المتداولة في الوطن العربي، هو مسرح الوديان والأفلاج في عُمان وتأثير العناصر الطبيعية في علاقة الإنسان بمحيطه وبثقافته».

التقينا الشاعر والروائي زهران القاسمي في فندق «باب البحر» بأبوظبي وأجرينا معه هذا الحوار الذي بدأناه بسؤال عن:

* الرواية، كيف جئت من الشعر على كتابة الرواية؟ وهل ثمة مقارنة واختلاف بينهما في عملية الكتابة؟

ـــ قبل كل شيء، لكل من الشعر والرواية عوالمها وتقنياتهما في الكتابة، لا يمكن مقارنتهما. ما زلت أكتب الشعر، ولن أتخلى عن الرواية.

والمسألة الجوهرية هي الحفاظ على العمل السردي، لكنني في الوقت ذاته، استفدت من الشعر وجمالياته، لكنني كما قلت حافظت على اللغة السردية، العمود الفقري في الرواية؛ لأن الرواية كما تعلم تستوعب كل الفنون، ومنها الشعر، خذ على سبيل المثال: إبراهيم نصر الله وعلي المقري ومحمد الأشعري، وغيرهم، ينحدرون من كتابة الشعر، ويمتلكون لغته، لكنهم في الوقت ذاته ساردون كبار. فائدة الشعر السيطرة على اللغة وبعث جمالياته في الرواية.

* هل لعبت البيئة العمانية دوراً في كتابة روايتك؟

ــــ إنها تجربة خضتها من استيحاء ما أعايشه في عُمان، وقد سبق هذه الرواية وروايات أخرى كتابة مجموعة من القصص المأخوذة من البيئة العُمانية الزاخرة. وقبلها كانت رواية «جبل الشوع»، وهي شجرة جبلية تاريخية يعرفها العُمانيون. وهذه هي مهمة الروائي أن يغوص في أعماق تراث بلده، ويستخرج ما هو خافٍ.

* هل اختيار الفلج أو الأفلاج جاء صدفة أو من خلال ارتباطاتها بالحياة الفلاحية العمانية؟

ـــ إنها مفردات عُمانية تشكل جزءاً من حياة البشر عندنا، وهو موضوع غني ومتفرد، لكنني أعالج هذه الموضوعات عادة كما روايتي التي تدور حول تربية النحل والعسل «جوع العسل»، لها خصوصية والناس الذين يعملون في هذا المجال، كانوا يخزنون العسل في جذوع النخيل ويبحثون في الجبال عنه؛ لذلك فهي مهنة مرتبطة بالمغامرة كما في رواية «القنّاص» حيث تعيش الوعول في الجبال؛ لذلك ارتبطت الأفلاج بالناس المكافحين في القرى الصغيرة. وهي موجودة في عُمان والإمارات فقط.

* عنوان روايتك «تغريبة القافر» تدور حول فرد، في حين أن التغريبة جماعية، أليس كذلك؟

ــــ بلى. أنت على حق تماماً. إنني في الواقع كنت محتاراً في تسمية الرواية أو وضع عنوانها، فدارت في رأسي عناوين وغيرها. هذه الشخصية عاشت هذه التجربة، وقاست كثيراً، لذلك ربطتها بالتغريبة؛ لأن فئة كبيرة تعمل في مجال الأفلاج. وكان في ذهني «تغريبة بني هلال» و«التغريبة الفلسطينية» كما كتبها إبراهيم. يمكن للفرد أن يخوض عالماً ملحمياً بمفرده، لمَ لا، ما دام يعبّر عن وجدان الجماعة؟! إضافة إلى ذلك أن كل شخص في الرواية، وليس البطل فقط، في داخله تغريبته ومعاناته.

* نلاحظ المصير التراجيدي لعائلة كاملة لقيت حتفها في الأفلاج غرقاً.

ــــ نعم هذا صحيح. كان المصير التراجيدي ينتظرهم فرداً فرداً.

الأم تموت غرقاً ويخرج ابنها من بطنها حيّاً لم يغرق وهو يخرج من بطن أمه، وأبوه دُفن في أحد الأفلاج بعد انهياره، وظل هذا «القافر» مرتبطاً بالأرض والماء إلى أن يلاقي المصير ذاته. فالمغامرة في البحث عن الماء تشبه البحث عن كنوز الذهب. وهكذا.

* هل قرأت رواية «موبي ديك» لميلفيل التي تدور حول الجانب المائي من العالم ومغامرة صيد الحيتان؟

ـــ هذه الرواية العظيمة من أمهات الكتب، إنها زاخرة بالخيال. واستعنت كثيراً بقراءة الكتب والمراجع والمخطوطات عن هندسة الأفلاج وعلاقتها بالمجتمع، كما أجريت لقاءات حيوية مع كبار السن ممن خبروا هذا الميدان في شبابهم وشيخوختهم، وما حملوه عن الأفلاج من قصص وحكايات وأساطير. ومن هذه الأساطير كان هناك شخصية تدعى العفريت، وهو الأفلاج ويتحدى جبروتها، بل وصل به الأمر إلى رجل ينزل إلى الاستهزاء بها، لكنه ذات يوم يدخل إليها وينهار به السقف، فيبدأ بالصراخ وظل ساعات طويلة على قيد الحياة إلى أن يستسلم إلى الموت. هذه الأساطير تختلف من مكان إلى آخر، ما بين البيئات المختلفة من قرية أو معبد أو مسجد.

* هل كان البطل صوفياً؟

ــــ تمتاز الشخصية العُمانية بحياة الزهد والتقشف، ولكن ليس ذلك ظاهراً من خلال اتباع طريقة صوفية معينة. علاقة كل أبناء القرى تتميز بالزهد والحياة الصوفية كطريقة روحية للعيش لا أكثر. والصوفية لا تعني في عُمان ارتداء ملابس خاصة أو مظاهر معينة بارزة. إن طبيعة الحياة اليومية تجعل من الإنسان العُماني زاهداً، ولا تهمه الصورة البراقة.

* كيف يتنبأ البطل بهذه البصيرة في الرواية؟

ـــ «القافر» مصطلح عربي قديم؛ أي الشخص الذي يقتفي الأثر. الرحّالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر قطع الربع الخالي، وتحدث عن البدو الذين يعرفون من آثار القدم الأشخاص الذين مروا من هناك ليلاً أو نهاراً، أو مرور هذه الدابة، أو مرور هذه القبيلة أو تلك. كانوا يعرفون المكان من الأشجار التي تمتد جذورها عميقاً في الأرض. هذه الأشجار لا تنبت إلا في هذا المكان وعندما يحفرون يجدون الماء. بعض مقتفي الآثار يعرفون ذلك ويقتفون الأثر من خلال التربة، وشكلها ولونها.

* هل للرواية علاقة وطيدة بالتراث العماني المتوارث؟

ـــ تماماً، رغم العوالم المتخيلة في الرواية، لكنها تستند على الواقع أيضاً؛ لأنه لا يمكن أن تكون الرواية بأكملها خيالية أو متخيلة. إن فكرة الرواية تتحدث عن شخصية «القافر» الذي يستطيع أن يسمع خرير الماء وهو نائم، سواء في المناطق الصحراوية أو الساحلية، بإمكانه أن يستدل على وجود الماء من الأشجار الصحراوية التي تمتد جذورها عميقاً في المكان. فيعرفون هؤلاء المهرة أن في هذا المكان مخازن أو منابع للماء تحت الأرض. وهذه الشخصية لديها حاسة قوية تستطيع أن تتنبأ وتكتشف وتسترشد بحواسها. من هنا جاءت فكرة الرواية.

* لقد استخدمت بعض التقنيات الذهنية في الرواية...

ـــ حاولت استخدام أكثر من تقنية، لكنني جعلت شخصية السارد العليم جزءاً من شخصيات القرية حتى تكون قريبة منها ومن همومها. وهذه الشخصية قامت بنسج حكايات القروي الذي عندما يتكلم يدخل الكثير من الخرافات والأساطير في كلامه.

* كم استغرقت كتابة هذه الرواية؟ وما هي العوائق التي واجهتك؟

ــــ استغرقت كتابتها عامين، وكان العائق الأساسي عندما تطغى شخصية من الشخصيات على الحدث، لذلك كنتُ أتوقف لأيام من دون كتابة، حتى إنني تأثرت ببعض الشخصيات لدرجة كنتُ أقوم بتقليدها، أو بالأحرى كانت تتلبسني، كأن أكون غاضباً أو عصبياً؛ أي أقلد شخصيات روايتي. على سبيل المثال، كانت شخصية «الوعري» في الرواية منعزلة وانطوائية، فأصبحت مثله بعض الوقت.

* هناك من يتهم الرواية بأنها تحتوي على الإنشائية...

ــــ أعتقد أنه لا توجد رواية في العالم تخلو من الإنشائية، حتى إن بعض الروايات تحتوي على تقارير إخبارية أو قصاصات جرائد، المهم كيف نتعامل معها وندخلها في سياق الرواية.

* هل كانت نهاية الرواية تلقائية أو خططت لها؟

ـــ لم أكن أتوقع أن أنتهي من كتابتها، لكنني عندما كتبتُ عبارة «وجرف معه كل شيء»، أدركتُ أن الرواية انتهت.

* ما هو رأيك بتطور الرواية العمانية التي حاز بعضها جوائز رفيعة؟

ـــ عندنا روائيون جادون ومبدعون، خذ على سبيل المثال رواية رائعة مثل «سر الموريسكي» لمحمد العجمي، لكن ما تعاني منه الرواية العمانية هو حاجتها إلى التسويق. هناك كتّاب رواية مبدعون أمثال: هدى حمد، وأحمد الرحبي، ومحمود الرحبي، وعبد العزيز الفارسي، وغيرهم. أحياناً في ذلك جانب سلبي؛ لأنه لا توجد لدينا وسيلة للترويج، في حين أن النقد غائب والمؤتمرات وكذلك الندوات وحماسة جمهور القراء. إن سر تقدم الأدب العماني أنهم بدأوا الكتابة منذ زمن طويل، والأدب واحد من المكونات الأساسية في البيوت العمانية؛ لأن الشعب العماني مرتبط بالثقافة، ولديه كتب يحتفظ بها منذ مئات السنين. وعندما بدأ الجيل الجديد في كتابة الرواية، لم يكن العمانيون بمنأى عن التأثيرات الخارجية شأنهم شأن أقرانهم من الروائيين في العالم العربي.

* هل كنت تتوقع الفوز بالجائزة وسط روايات قوية عديدة؟

ــــ قرأت معظم هذه الأعمال التي اقتنيتها في معرض مسقط للكتابة، إنها تحتوي على عوالم رائعة ومختلفة، مثل روايات نجوى وأزهر وميرال. عندما نشارك في الجوائز يجب أن نتقبل قواعد اللعبة. المهم أنني مؤمن بروايتي وفكرتها والشخصيات التي توحدت معها.


زهران القاسمي يحصد جائزة «بوكر» العربية للرواية

زهران القاسمي يحصد جائزة «بوكر» العربية للرواية
TT

زهران القاسمي يحصد جائزة «بوكر» العربية للرواية

زهران القاسمي يحصد جائزة «بوكر» العربية للرواية

أعلنت «الجائزة العالمية للرواية العربية»، في دورتها الـ16 بأبوظبي، فوز رواية «تغريبة القافر» للكاتب العماني زهران القاسمي، بالجائزة، وهو أول عماني يفوز بها. وقد تنافس على الجائزة 6 روايات ضمن القائمة القصيرة، وهي: «أيام الشمس المشرقة» لميرال الطحاوي، و«مَنّا» للصديق حاج أحمد، و«حجر السعادة» لأزهر جرجيس، و«كونشيرتو قورينا إدواردو» لنجوى بن شتوان، و«الأفق الأعلى» لفاطمة عبد الحميد، إضافة إلى الروايات الفائزة. يحصل كل من المرشحين الستة، في القائمة القصيرة، على 10 آلاف دولار مكافأة لهم على بلوغ أعمالهم هذه القائمة، كما يحصل الفائز بجائزة «البوكر»، لهذا العام، على 50 ألف دولار إضافية، فضلاً عن ترجمة الرواية الفائزة إلى اللغة الإنجليزية. وضمّت لجنة التحكيم، لهذا العام، الشاعر المغربي محمد الأشعري رئيس اللجنة، والدكتورة ريم بسيوني روائية مصرية، وتيتز روك أكاديمي ومترجم سويدي، وعزيزة الطائي كاتبة وأكاديمية عُمانية، وفضيلة الفاروق روائية وباحثة وصحافية جزائرية، وياسين عدنان عضو مجلس الأمناء، وفلور مونتانارو مُنسقة الجائزة.

وكانت «الشرق الأوسط» قد نشرت، بتاريخ 18/2، حواراً مع القاسمي عن روايته الفائزة، التي تدور أجواؤها حول ثلاثية الجفاف والمياه والخصب في أمكنة قروية، كانت تفاصيلها هي تفاصيل القرية العمانية بكل ما تحوي من أشياء وبشر.

وذكر القاسمي، في الحوار، إن فضاء الرواية غالباً ما يرتبط بفضاء العمل الإبداعي، ليس هناك من تعمّد أن يكون فضاء العمل السردي هو المكان نفسه، ولكن تفرض عليّ ذلك طبيعة العمل، فلو كنت أشتغل على عمل تدور أحداثه في المدينة، فستكون كل إشارات المكان وزواياه متجهة إلى تفاصيل المدن، كالشوارع، والأسواق، والمقاهي، والبنايات، والدوائر الحكومية، والشركات، وغيرها، وكذلك لو كان العمل يتحدث عن صيادين، فسيكون المكان عن البحر، والشواطئ، والحارات الساحلية، وهكذا. ولأن أعمالي كانت تناقش موضوعات تتعلق بالجبال والقرى، لذلك كانت البيئة القروية حاضرة بقوة، فمثلاً في رواية «القناص»، لأنها تتحدث عن قناصي الوعول، وعن الأماكن التي تعيش فيها الوعول، كانت البيئة جبلية قاسية والوديان عميقة، وغيرها من التفاصيل التي تتعلق بالمكان نفسه.

وكانت قد صدرت للقاسمي 4 روايات هي: «جبل الشوع» (2013)، و«القنّاص» (2014)، و«جوع العسل» (2017)، و«تغريبة القافر» (2021)، بالإضافة إلى 10 دواوين شعرية، ومجموعة قصصية بعنوان «سيرة الحجر 1»، وكتاب يحوي نصوصاً بعنوان «سيرة الحجر 2».

عاجل انتخابات الرئاسة التركية: إردوغان يحصد 53.15 ٪ من الأصوات مقابل 46.85 ٪ لأوغلو بعد فرز 85.45 ٪ من الأصوات (الأناضول)