المواجهة الكولونيالية في الأدب العربي الحديث

كثير من الأعمال تفاعل مع الواقع الاستعماري بصور مختلفة

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

المواجهة الكولونيالية في الأدب العربي الحديث

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

حين تطرح الوطنية والتمسك بالهوية والأرض فليس من أدب عربي يعلو على الأدب الفلسطيني

أحد الأسئلة المهمة التي استدعتها المقالة التي نشرت حول نقد الاستعمار في الوطن العربي هو: هل يوجد أدب استعمار عربي أساساً ليوجد نقد له؟ طرح السؤال أ. حمزة عليوي على هذه الصفحات، وأنا أشكره لطرحه لأنه ذكرني بأن ما نظرت إليه على أنه أمر مفروغ منه ليس كذلك بالضرورة.

غالي شكري

وكنت بالفعل قد انطلقت من تلك الفرضية التي بدت لي بدهية، لكن بما أنها طرحت للبحث فسأشير فيما يلي إلى بعض النماذج من الأدب العربي الحديث التي تؤكد وجود بل أهمية ذلك الأدب ومشروعية التساؤل من ثم عن غياب نقد ما بعد استعماري يتناول ذلك الأدب، أي نقد ينطلق على أسس نظرية تتناول الأعمال الأدبية من منظور ما بعد كولونيالي يوازي أو يشابه ما تطور في مناطق أخرى من العالم الذي تأثر بالاستعمار. فالمقصود ليس أن شيئاً لم يكتب عن ذلك الأدب، وإنما أنه، حسب علمي، لم يكتب شيء من المنظور النقدي الذي تطور تحت مسمى «النقد ما بعد الكولونيالي» أو «ما بعد الاستعماري»، بحيث تتطور نظرية أو حتى معالجة ما بعد كولونيالية في النقد العربي الحديث.

في تقديري أن غياب أي شكل من أشكال التفاعل الأدبي مع الواقع الاستعماري الذي عاشته بعض المناطق العربية (مصر، العراق، فلسطين، بلاد المغرب العربي، الخليج العربي، السودان) سيكون غريباً، بل حالة شاذة لو حدث، لأن الاحتلال البريطاني والفرنسي أو الانتداب، كما سمى نفسه، ترك أثراً يقل ويكثر حسب المناطق لكنه مهم في كل الحالات، ومن الصعب تصور غياب أي تفاعل معه. وواقع الأمر يقول غير ذلك، يقول إن التفاعل موجود، وإن الأدب كثير ومهم، لكن اللافت أن أوائل الدراسات المهمة التي تناولت ذلك الأدب من زاوية ما بعد كولونيالية كانت دراسات غير عربية، بريطانية وأميركية وربما أوروبية أخرى.

قبل الوقوف على بعض تلك الدراسات أشير إلى بعض الأعمال الشهيرة.

أبو القاسم الشابي

كيف يمكن قراءة أشهر شعراء تونس، أبي القاسم الشابي، مثلاً، دون وعي بالاحتلال الفرنسي لذلك البلد العربي؟ إنه الشابي الذي نظم «إذا الشعب يوماً أراد الحياة» في أوائل الثلاثينات، قبيل وفاته، وكان مهموماً بالاستعمار وبمقاومته مستعيراً رموزاً يعتز بها المستعمر لكي يقاومه (أسطورة بروميثيوس). وللشابي بالطبع غير ذلك من قصائد تعبر عن موقفه من الاحتلال.

وفي فترة سبقت الشابي كان أحمد شوقي في إسبانيا منفياً من قبل المستعمر الإنجليزي يلهمه حنينه إلى الوطن للتعبير عن ضيقه بما آلت إليه حاله في معارضاته الشهيرة مثل نونيته «يا نائح الطلح» وسينيته العظيمة التي يخاطب فيها وطنه محاكياً البحتري ومحتجاً على حرمانه من الوطن في البيت الشهير: «أحرام على بلابله الدوح/ حلال للطير من كل جنس؟»، ولكن رفض شوقي لم يتوقف عند احتلال الإنجليز لبلاده، وإنما امتد إلى الهم القومي حين هاجم احتلال الفرنسيين لسوريا واعتداءهم على دمشق كما تعلن بقوة قصيدتاه الشهيرتان حول العاصمة السورية «قم ناج جلق» والأخرى التي مطلعها: «سلام من صبا بردى أرق». في القصيدة الأخيرة يرد بيته الشهير: دم الثوار تعرفه فرنسا/ وتعلم أنه نور وحق. وهو بيت مقاومة بامتياز، كما هو بيته الآخر من القصيدة نفسها: وللمستعمرين وإن ألانوا/ قلوب كالحجارة لا ترق. يذكر شوقي الفرنسيين بأن ادعاءهم بأنهم بلاد الأنوار يتراجع أمام نور الحق المنبلج في دمشق بتاريخها الحضاري العريق، مثلما يتهاوى أمام بربريتهم التي يكشفها الاحتلال الغاشم.

وإلى جانب أولئك الشعراء العرب يقف شاعر الخليج خالد الفرج، في النصف الأول من القرن الماضي مهاجماً الاستعمار الإنجليزي ومستنهضاً همم الحكام العرب، لا سيما في الخليج العربي الواقع في مجمله آنذاك تحت السيطرة البريطانية. خالد الفرج صوت نهضوي مقاوم للاستعمار لا يقل قيمة وأهمية عن رصفائه من الشعراء العرب، وإن لم يعرفه الكثير من النقاد والقراء. ومن شعره قوله مخاطباً الجامعة العربية وكان أعضاؤها سبع دول:

عقدت اجتماعك يا جامعة

فهل أنت مبصرة سامعة

سئمنا الكلام فهل من فعال

فإن الأعادي بنا طامعة

أسبع عجائب هذا الزمان

نزلنا إلى درك السابعة

...

فيا رب رحماك أنقذ حماك

وخذ بيدي أمة ضائعة!

هذه النصوص الشعرية، سواء أكانت لشوقي أو للشابي أو للفرج أو للجواهري أو لغيرهم، مثل شاعر القطرين خليل مطران الذي عرف بمقاومته الشرسة للحكم العثماني، وكذلك في شعر للمهجريين، مثل إيليا أبو ماضي في قصائد عن احتلال فلسطين، أو الجواهري في نقده للمتواطئين مع المستعمر من حكام العراق:

بين اثنتين: فساسة قد أوثقوا بالأجنبي وساسة جبناء

كل تلك وغيرها لا أعرف أنها قرئت عربياً من زاوية ما بعد كولونيالية، فترددها في المنابر وفي مناهج الدراسة وفي الدراسات المختلفة لم يسلط عليها ضوءاً يربطها بغيرها من قصائد الشعراء الآخرين، ويخرج من ذلك برؤية نقدية شمولية لشعر مقاومة للمستعمر تتضمن مفاهيم أو نظريات.

ومثل النصوص الشعرية تقف الأعمال السردية والمسرحية بحاجة للاستكشاف من الزاوية النظرية نفسها، ولست هنا في مقام الحصر أو الاستقصاء لكل ما كتب من أعمال كان يمكن أن تكون مادة لتلك التحليلات، وإنما أحاول الإجابة عن سؤال ما إذا كان في الأدب العربي الحديث أدب مقاوم للاستعمار أو معني به. في سياق السرد تجب الإشارة إلى أعمال نجيب محفوظ والثلاثية بصفة خاصة، حيث نرى المقاومة المصرية المتصلة للاحتلال الإنجليزي ابتداء بثورة 1919، الثورة الحاضرة في رواية توفيق الحكيم «عودة الروح» (1933).

خليل مطران

يقول غالي شكري: «وفي تاريخ الأدب المصري الحديث تعد (عودة الروح) طليعة الأدب القومي المناضل ضد الاستعمار»، مشيراً إلى رواية أخرى لمحمود طاهر حقي بعنوان «عذراء دنشواي» التي سبقت رواية الحكيم بربع قرن، وإن لم تسبقها حسب شكري من حيث القيمة الأدبية. في تلك الأعمال وغيرها إعلاء من قيم الوطنية والهوية في سياقات سياسية ونضالية تجعل من ذلك الإعلاء فعلاً مقاوماً ومهماً من ثم للدراسات ما بعد الكولونيالية.

وحين تطرح الوطنية والتمسك بالهوية والأرض فليس من أدب عربي يعلو على الأدب الفلسطيني في كثافة استحضار تلك القيم. لقد قال إدوارد سعيد عن الأدب الفلسطيني إنه يتفرد بأنه ما زال يكتب تحت الاحتلال، أي أنه أدب مقاوم باستمرار للاستعمار أو الكولونيالية. الأدب الفلسطيني بأكمله تقريباً أدب مقاومة للمحتل. أبرز ذلك باحثون كثر منهم غالي شكري في كتابه الرائد «أدب المقاومة» (1970)، الذي اقتبست منه قبل قليل، والذي كان يمكن أن يكون رائداً لدراسات ما بعد كولونيالية لو أن ذلك التوجه استمر وتطور.

الأدب الفلسطيني درس أيضاً في الغرب من زاوية المقاوم في كتاب مهم للباحثة الأمريكية باربرا هارلو عنوانه أيضاً «أدب المقاومة» (1987) وضعت فيه الأدب الفلسطيني ضمن عدد من الآداب العالمية التي تتسم بمقاومة المحتل، فكانت بذلك تسهم في تعزيز دراسة الأدب العربي من زاوية ما بعد كولونيالية.

وأختم بالإشارة إلى دراسة غربية أخرى للأدب العربي من الزاوية ذاتها، وهي أيضاً لباحثة أمريكية اسمها تيري دي يونغ، أستاذة الأدب العربي بجامعة واشنطن، التي تناولت شعر بدر شاكر السياب من حيث هو مقاومة للاستعمار. عنوان الكتاب: «موضعة الشاعر: بدر شاكر السياب والعراق ما بعد الكولونيالي» (Placing the Poet: Badr Shakir Al-Sayyab and Postcolonial Iraq) (1998). في الكتاب توضح الباحثة أهمية المكان في قصائد السياب بوصفه «أرضية بالمعنيين الحرفي والمجازي لمقاومة وحوش الاستعمار».

هذه الدراسات النقدية وغيرها تضعنا أمام حقيقة واضحة هي كثرة الأعمال التي تفاعلت مع الواقع الاستعماري بصور مختلفة، وكان يمكن أن تستدعي تطورات نقدية موازية على المستوى العربي. وكونها استدعت تلك التطورات على المستوى الغربي دليل على أن السياق النقدي بنظرياته ومفاهيمه في أوروبا وأميركا كان حاسماً في تبلور المقاربة المنشودة.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.